يساريون لبنانيون بلا يسار.. الأزمة والآفاق (2/2)

تتشابهُ تجارِبُ اليمينِ في العالمِ معَ بعضِ التمايُز، وتتمايزُ تجارِبُ اليسـار معَ بعضِ التشابه. الأمرُ طبيعيٌ وَفقاً لِديالكتيكِ التاريخ، فالخُصوصيَّاتُ الوطنيّةُ والثقافيّةُ والاجتماعيّةُ والهُويّاتيّةُ تفرِضُ نفسَها على أيِّ قوَّةٍ يساريّةٍ تريدُ التحرُّرَ من أيِّ شكلٍ من أشكالِ الاستغلال، فتختارُ أساليبَ العملِ التي تناسِبُها، ومنْ ثَمَّ تختلِفُ التجرِبة ُاليساريَّةُ في مجتمعٍ مُعيَّنٍ عنْها في مجتمعٍ آخر. لا ضَيْرَ في ذلكَ فالفارِقُ العامُّّ بينَ التياريْنِ العالمييْنِ لا يتأثَّرُ بل يبقى واضحاً وراسخاً.

هذه هي الحقيقةُ التاريخيّةُ من قَبْلِ اختزالِ التعبيرِ عن الصراعِ بمُصطلحَيِّ اليمين واليسار. اليمينُ يستخدِمُ كلَّ الوسائلِ، بما فيها غيرُ الأخلاقيَّةِ وغيرُ الإنسانيَّةِ من أجلِ التمسُّكِ بمصالِحِهِ في احتكارِ المالِ والسيطرةِ ونهبِ ثرَواتِ الشعوبِ. بالمقابل، يُكافحُ اليسارُ ضدَّ هذا اليمينِ بصعوباتٍ بالغةٍ، كونُهُ لا يلجأُ إلى الأساليبِ غيرِ الأخلاقيَّة، ويحرَصُ على الإنسانِ بوصفِهِ قِيمةً عُليا. معظمُ اليسار في العالم يُعاني من هذه المُعضِلةِ، ولا سيَّما التيارُ الماركسيُّ، فالماركسيّةُ ليستْ مُجرَّدَ فلسفةٍ لتحليلِ الاقتصادِ الرأسماليِّ وتفكيكِهِ فحسبُ، بل هي في العمق فلسفةٌ تطمحُ إلى تحريرِ الإنسان من حالةِ الاغتراب التي يعيشُها في ظلِّ علاقاتِ إنتاجٍ ظالمةٍ. ولذا تعرَّضتْ للتشويهِ فجرى تصويرُها معاديةً للدين فيما هي تحترمُ القيمَ الروحيّةَ والمعنويَّةَ للإنسان في كلِّ جماعةٍ، لكنَّها ترِفضُ توظيفَ الدين في السياسةِ والاقتصادِ من أجلِ خدمةِ الطبقةِ الرأسماليّةِ المُسيطِرة.

ما أشرْنا إليهِ هو سِماتٌ تيَّاريّةٌ عامَّةٌ، تحتاجُ إلى كثيرٍ من البحثِ وتقليبِ النظر. تناولنا في المقالة الأولى أمس (السبت) أحوال اليمين؛ أمَّا الآنَ فنحصُرُ الأمرَ في شأنِ اليسارِ في لبنان. الماركسيُّونَ هم المُؤسِّسونَ في عشرينيَّاتِ القرنِ الماضي بالحزبِ الشيوعي اللبناني ثمَّ لاحقاً بتنظيماتٍ أخرى، وكانُوا طليعة ًفي مقارعةِ النظامِ الطائفيِّ-الطبقيِّ-الرأسماليِّ، فتصدَّتْ لهم سلطاتُ الانتدابِ الاستعمارِيِّ الفرنسي وحلفاؤُها من الطائفيينَ الإقطاعيين والرأسماليينَ اللبنانيينَ، لكنَّهُم كوَّنُوا حيويَّةً ثقافيَّةً وفكريَّةً في كلِّ مناطقِ لبنانَ، قبلَ أنْ تبرزَ التياراتُ القوميّة بكلِّ اتجاهاتِها التي ظلَّتْ علاقتُها ملتبسةً باليسار. آنذاك اِتُهِمَ اليسارُ بأنَّهُ يسيرُ وراءَ الاتحادِ السوفياتي، فاكتفى بالدفاعِ عن نفسِهِ بأنَّه حليفُ القوى التقدُّميّةِ في العالمِ، لكنَّهُ أخطأَ عندما لمْ يُبْرزْ إعلاميَّاً وثقافياً خُصوصيتَه الوطنيّةَ في فَهْمِ الاجتماعِ اللبنانيِّ المعقَّدِ لولبيَّاً بينَ الطائفةِ والطبقةِ، وظلَّ هذا الفهمُ أسيرَ النخبِ من دونِ أنْ يتحوَّلَ إلى فعلٍ سياسيٍّ شعبيٍّ، فانتصرتْ دعاية ُاليمينِ الذي أرادَ أنْ يحشُرَ اليسارَ في جُمهورٍ إسلاميٍّ لينبُذَ المسيحيينَ منه، ويُعرقلَ حركةَ التغييرِ ولو بحدودِها الإصلاحيّةِ.

لا بُدَّ من إعادةِ درسِ التجرِبةِ، ولا سيَّما بعدما أفرزَتْهُ الحربُ الداخليّةُ الإقليميّةُ الدوليّةُ في لبنانَ بين 1975 و1990 وبعد تكرارِ الاعتداءاتِ الإسرائيليةِ التي ما زالتْ تُهدِّدُ لبنانَ وجوداً ووَحدةً. لقد بلغَ اليسارُ ذروتَه في سبعينيَّاتِ القرنِ الماضي، لكنَّه تماهى إلى حدِّ الذوبانِ بالتنظيماتِ الفلسطينيَّةِ، وبالقِياداتِ التقليديَّةِ ولا سيَّما من المسلمين فخسرَ كثيراً من شخصيَّتِهِ المميَّزةِ تحت عنوانِ توسيعِ التحالفاتِ، ووقعَ في فخِّ دعايةٍ مُضادَّةٍ أنكرتْ دورَهُ، بالرَّغمِ من كلِّ النضالاتِ والتضحياتِ التي قدَّمها منذ أن أطلقَ المقاومةَ الوطنيَّةَ بوجهِ العدوِّ الإسرائيلي عام 1982. تألَّبتْ عليه قوى داخليَّةٌ وعربيّةٌ ودوليَّةٌ خوفاً من أن تُنتِجَ المقاومةُ الوطنيَّةُ مشروعاً تغييريَّاً في الداخلِ اللبناني، وكان للقوى الطائفيَّةِ المتعدِّدة بالتعاون مع النظامِ السوري آنذاك الدورُ الأساسيُّ في ذبْحِ المقاومة الوطنيّةِ ورموزِها. وخلالَ التسعينيَّاتِ تراجعَ دورُ اليسارِ كثيراً في الحياةِ السياسيَّةِ اللبنانيَّةِ لأنَّ قواهُ لم تمارسْ نقداً ذاتيَّاً مُعلَناً ولا داخليَّاً بما يكفي لرسمِ خطوطٍ عمليَّةٍ جديدة، وما زالَ هذا التراجعُ قائماً حتى اللحظة، وبذلكَ يخسرُ مستقبلُ لبنانَ كثيراً إذْ ليسَ أجدرَ من اليساريين لمقاومةِ الطائفيّةِ والرأسماليةِ والاحتلال معاً، لكننا للأسفِ نحنُ الآنَ يساريُّونَ بلا يسارٍ، نحنُ قوى مشتّتةٌ لا يجمعُها إطارٌ أو هيكليّةٌ، وما زلنا في حالةِ ارتباكٍ.

إذا كانت ظروفُنا في لبنانَ في هذه المرحلةِ، لا تسمحُ بإعادةِ المقاومةِ الوطنيةِ العسكريَّةِ ضدَّ الاحتلالِ فإنَّ المقاومةَ السياسيَّةَ والمدنيّةَ والثقافيّةِ ضرورةٌ موضوعيَّةٌ تامَّةٌ. وليس أجدرَ من اليسارِ بكُلِّ اتجاهاتِهِ للاضطلاعِ بهذه النقطةِ الحسَّاسةِ والمهمة التاريخية في معركةِ بناء الوعي الوطني والطبقي

كيفَ ننهضُ؟ هذا السؤالُ ضروريٌ وحتْميٌ مثلما كان سؤال لينين التاريخي: ما العملُ؟. الجوابُ لا يملِكُهُ فردٌ واحدٌ لكنَّ قراءةَ المرحلةَ التي يمرُّ بها لبنانُ، ودراسةَ الواقعِ وفقاً للإمكانيَّاتِ المُتاحةِ، تستدْعي أنْ نأخذَ نحنُ اليساريينَ النقاطَ الآتيةَ بالاعتبار:

أولاً؛ حالة ُذوَبانِ اليسار ِفي الآخرينَ تحت أيِّ شعارٍ قوميٍّ أو دينيٍّ التي حدَثتْ سابقاً، يجبُ الخروجُ منها نحوَ بِناءِ شخصيَّةٍ يساريّةٍ وطنيّةٍ مستقِلَّةٍ منفتحةٍ على القوى الديموقراطيّةِ والمدنيّةِ المناهضةِ للطائفيّة وللاحتلال.

ثانياً؛ الشخصيّةُ اليساريّةُ المُستقِلَّةُ تُحرِّرُ اليسارَ من الشعاراتِ السياسيّةِ والدينيّةِ التي تحمِلـُها القُوى المحليَّةُ المُرتهنةُ للخارجِ العربيّ والدوليّ، وتمنحُهُ القدرةَ على أنْ يكونَ حليفاً للقوى التي تلتقي معه في التوجُّهاتِ من دونِ أنْ يكونَ تابِعاً أو مُصادَرَاً.

ثالثاً؛ الانطلاقةُ اليساريَّةُ الجديدةُ يُمكِنُ أنْ تكونَ تحالفيّةً بين اليسارِ الماركسي والقوى الاجتماعيّةِ الديموقراطيّةِ غيرِ الماركسيّةِ التي ترفُضُ الطائفيَّةَ وتتطلَّعُ إلى نظامٍ يتحقَّقُ فيه الحدُّ الضروريُّ من العدالةِ الاجتماعيّةِ والانتماءِ الوطني.

رابعاً؛ الخروج من الخديعةِ الكبرى بأنَّ المُهادنةَ معَ الزعماءِ التقليديينَ تكتيكٌ يشكِّلُ غِطاءً لِحمايةِ اليسارِ، فاليسارُ لا يَحميهِ سوى عملِهِ السياسيِّ الواقعيِّ وانفتاحِهِ على كلِّ اللبنانيينَ بصورةٍ عابرةٍ للطوائف.

إقرأ على موقع 180  إلى دعاة التدويل.. إرحمونا يرحمكم الله!

خامساً؛ إذا كانت ظروفُنا في لبنانَ في هذه المرحلةِ، لا تسمحُ بإعادةِ المقاومةِ الوطنيةِ العسكريَّةِ ضدَّ الاحتلالِ فإنَّ المقاومةَ السياسيَّةَ والمدنيّةَ والثقافيّةِ ضرورةٌ موضوعيَّةٌ تامَّةٌ. وليس أجدرَ من اليسارِ بكُلِّ اتجاهاتِهِ للاضطلاعِ بهذه النقطةِ الحسَّاسةِ والمهمة التاريخية في معركةِ بناء الوعي الوطني والطبقي.

سادساً؛ المرحلة ُالتي نَمُرُّ بها في لبنانَ حاليَّاً ليستْ مرحلةَ بناءِ الاشتراكيّةِ ولا النظامِ السياسيِّ اليساريِّ بل هي مرحلةُ بناءِ مجتمعٍ وطنيٍّ متحرِّرٍ منَ الطائفيّةِ، ورافضٍ للاحتلالِ، ومكافحٍ ضدَّ الفسادِ المالي، ومتطلِّعٍ إلى سيادة القانون. وهنا يجبُ أن يضطلعَ اليسارُ بدوره في الدفعِ نحو هذه الأهدافِ واتباعِ نهجِ المكاسبِ التراكميّةِ والنفَسِ الطويل.

سابعاً؛ الأجيالُ الجديدةُ، هي أجيالُ “Z” تعيشُ ضحيَّةَ اليمينِ الطائفي المسيطرِ على وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ الحديثةِ، لذا يجبُ التوجُّهُ إلى هذه الأجيالِ بوسائلِها التي ترغبُ بها لِنشرِ الوعْيِ الإنسانيِّ والديموقراطي على أساسٍ علمي سوسيولوجيٍّ متين، وطرحِ الدراساتِ الرزينةِ التي تُبيِّنُ مساوىءَ الطائفيةِ والفسادِ ومخاطرَ الاحتلالِ الإسرائيلي.

يجبُ أنْ يتصدَّى اليساريُّونَ والديمقراطيُّونَ اللبنانيُّونَ لهذه المُهمّاتِ، وأنْ يُدرِكُوا أنَّ الاستنكافَ يُفسِحُ مجالاً أوسعَ ممَّا هو الآن للقوى الطائفيّةَ كي تستمرَّ في تدميرِ البلدِ وربَّما تتواطأُ مع مشاريعِ تقسيمٍهِ وضربِ كلِّ ما تبقـَّى من احتمالاتِ الوحدة بين المواطنين لا بين الطوائف. فهل يدرُسُ اليسارُ نفسَهُ وتجاربَهُ ليخرُجَ من الأزمةِ إلى آفاقٍ جديدةٍ؟

(*) راجع الجزء الأول من هذه الثنائية: مُثلّثُ اليمينِ الطائفي اللبنانيّ (2/1)..

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تحليل نتائج إنتخابات البقاع الغربي وراشيا.. إنكسار "الثنائيات" (2)