استيقظت منذ ساعات الفجر الأولى. وسريعاً غادرت سريرها. فتحت شباك غرفتها، فلفح هواء الفجر وجهها. إنها تحس اليوم بنشاط غير عادي، وسعادة كبيرة تغمرها. رتبت سريرها، وأسرعت إلى المطبخ، لتعد فنجان قهوتها الصباحية، ثم جلست أمام النافذة، ترتشفها بهدوء وسكينة. ما هي إلا ساعة وبدأ شعاع الشمس يتسلل ليغمر الغرفة بالنور. أنهت الست ناديا قهوتها، وبدأت تتجول في ارجاء المنزل، وكأنها تراه للمرة الأولى، أطالت النظر بسقفه العالي ذي الزخارف والنقوش، وراحت تُحدث نفسها:
- انه بيت جدي. آل لوالدي، ثم بعد أن غادر كل إخوتي الوطن، سكنته أنا وعائلتي. من يعلم ماذا سيحل بكل هذا التاريخ والجمال، بعد أن أمضي في يوم ما؟
راحت ناديا ترفع الستائر، لتكشف عن نوافذ في منتهى الاتقان والروعة:
- يجب أن ينتشر ضوء الشمس في أرجاء البيت، ولا بأس بهواء الصباح، لأدعه يعبث بستائري، ويعطر أجواء بيتي.
بعد ذلك خرجت إلى الشرفة، وراحت تتفقد زهورها من فل وياسمين وغاردينيا، كما نباتاتها المدللة. تتحدث إليهم، تسألهم عن أحوالهم، وكيف أصبحوا. ثم تزيل ورقة صفراء من هنا، وتمسد التربة هناك. هذه تسقيها الماء، وتلك تكتفي برشها. إنها على دراية كاملة باحتياجات كل نبتة وزهرة، وتعرف تمام المعرفة كيف تعتني بكل شتلة. أنهت مهمتها، وعندما همّت بالدخول، وجدت خادمتها المخلصة تقف خلفها، تنظر إليها بعاطفة وحب:
– متى استيقظت؟
– منذ قليل، سيدتي. وأنت؟ يبدو أنك استفقت باكراً.
– أجل يا عزيزتي. باكراً جداً. وبرغم أنني لم أنم جيداً، إلا أنني أشعر بالنشاط. اليوم سيكون لدينا عمل كثير، اليوم عيد ميلادي.
ظهرت الدهشة واضحة على وجه الخادمة، والتفتت على عجل لتتأكد من الروزنامة المعلقة على الحائط.
– ما بك؟ حتماً سيأتي الأولاد اليوم لمعايدتي وتقديم هداياهم. هم يظنون أن حضورهم من السفر سيفاجئني، ولكن أنا من سيفاجأهم. سيكون عشاءً رائعاً. لقد جهزتُ لك قائمة بكل ما نحتاج لشرائه من السوق، سأعد كل الأصناف التي يحبها الأولاد، ولا بد أن ننتهي من عملنا قبل السابعة مساءً.
– سيدتي. القائمة تحوي الكثير من أصناف الفاكهة والخضار، هل نحتاجها كلها؟
– أجل. أجل، قلت لك إنه يوم مميز، كل ما يحبه الأولاد من طعام وفاكهة، سيكون حاضراً على المائدة. هيا إلى السوق، لا تتأخري.
خرجت الخادمة الأمينة من المنزل، تحمل بيدها قائمة الأغراض وعلى وجهها ألف علامة استفهام وتعجب لسر هذه المائدة التي تنعقد بنصاب إفتراضي لأبناء مسافرين. بعد عودتها بدأ العمل في المطبخ، ورويداً رويداً بدأت الروائح الشهية تنتشر في أرجاء المنزل.
– سيدتي. كل الطعام أصبح جاهزاً تقريباً، والآن ماذا؟
– ابدئي بتحضير المائدة، أنزلي طقم السفرة الخاص بالمناسبات، ولا تنسي وضع الزهور، وكذلك المحارم الخاصة التي اشتريتها والمفرش الأبيض المطرز باليد (كروشيه) والملاعق والشوك الفضية. أريدها سفرة رائعة.
رغبت الخادمة بطرح بعض الأسئلة، لكنها لم تفعل، امتثلت لأوامر السيدة، ونفذتها على أكمل وجه.
– سيدتي. لقد أنجزت كل شيء، هل أبدأ بسكب الطعام؟
– لا. ليس الآن. ما زال أمامنا متسع من الوقت. لننتظر موعدنا في السابعة. دعيني ألقي نظرة أخيرة على المائدة.
سارت بخطوات وئيدة باتجاه غرفة الطعام، نظرت إلى المائدة بإعجاب، تلمست الأطباق بحب، مررت يدها على المفرش المطرز بحنو. إغرورقت عيناها بدمع الذكريات.
– هل تعلمين أن هذا المفرش هو هدية أمي لي في يوم زفافي، لقد نقشته وطرزته بيدها، وطقم السفرة هذا له تاريخ في العائلة. عظيم، كل شيء في مكانه، رائع. أحسنت صنعاً. لقد أتعبتك كثيراً، لكن المناسبة تستحق. أليس كذلك؟
– عفوك سيدتي، لقد عملتِ أكثر مني، كل هذا الطعام والحلوى والمقبلات من صنع يديكِ.
– تعالي نجلس. لنرتاح قليلاً. انتظري سوف أريك شيئاً.
ذهبت إلى غرفتها، وبالقرب من سريرها، فتحت خزانة صغيرة، ثم أطلقت تنهيدة، ومدت يداً مرتجفة، لم تتركها الأيام على حالها، وسحبت دفاتر صغيرة وصوراً ورسائل لم تسلم من أثر السنوات المتراكمة فوقها، لكنها كانت مرتبة بعناية فائقة.
– تعالي انظري، كل واحد من الأبناء له مجموعته الخاصة، كذلك والدهم، الذي رحل باكراً عن هذه الدنيا. سافر كثيراً، وعمل كثيراً. ثم مات برصاصة، لأنه وُجِدَ في المكان الغلط، وفي الوقت غير المناسب. ترك لي أطفالاً ثلاثة، تعبت كثيراً في تربيتهم، كما ترك لي هذه الصور والرسائل، هي ملاذي كلما زاد شوقي، وتأجج الحنين داخلي. أنظري إلى هذه الصور. إنها تعود لسنوات كثيرة مضت، لم أعد أعرف عددها، سنوات حفرت على هذا الوجه ما ترينه من تجاعيد.
غرقت في أريكتها المفضلة، وتابعت تصفح الدفاترالعتيقة، وقراءة الرسائل القديمة، واستعراض صور الأبناء، تلك المواكبة لكل سنوات عمرهم، والمؤرخة لكل مناسباتهم وأعيادهم، وكانت تعلق أحياناً بالكلمات، وأحياناً أخرى بالدموع. لا تدري كم مر عليها من وقت، وهي تبحر مع تلك الصور، من شاطئ إلى شاطئ، ومن ذكرى إلى ذكرى. وكل ما تمثله الصور من أحداث وذكريات، كانت الخادمة تراه مرتسماً على وجه سيدتها، وفي عينيها. ضحكة مرة، ابتسامة مرة أخرى، ودمعة مرات ومرات. ثم فجأة نظرت إلى ساعتها، فأغلقت كل الدفاتر وأعادت ترتيب كل الصور والرسائل، ووقفت متأهبة:
– عزيزتي أرغب بفنجان قهوة، قبل العشاء، ما زال لدينا متسع من الوقت، أليس كذلك؟ أحضريه إلى الشرفة.
وضعت فنجان قهوتها أمامها، وبدأت تحدث جليستها:
- هل أخبرتك سابقاً بأن أولادي الثلاثة غادروا الوطن منذ سنوات. إنهم مغتربون. “ياسر” في كندا، “ربيع” في بنما، وعصفورة البيت وصغيرته “أمل” في دبي. على ما أظن. لماذا أخبرك بذلك. لا شك أنك تعرفين. أجل. ألست تعرفين؟ سيأتون هذا الصيف. ربما هذه الليلة. لا أدري. ربما يأتون، وربما لا، لقد بدأت الذاكرة تخونني. كم الساعة الآن؟
- إنها تقارب السادسة وخمس دقائق.
فجأة بدأ فنجان القهوة يهتز في يد ناديا. أحست بالأرض ترتج تحت قدميها. تبادلت وخادمتها النظرات المتسائلة والخائفة في آن معاً. وقبل أن تعيا ما يحدث، صوت انفجار هائل يصم الآذان، ودخان كثيف يلف المكان. في الخارج فوضى وضجيج وصراخ وأنين، وسيارات إسعاف تجوب الشوارع. ومدينة لم تعد كما كانت قبل لحظات. أما منزل الست ناديا، فلقد غرق بركامه ودماء ساكنيه. في تلك الليلة، لم يأتِ أحد لتناول العشاء.
في تلك الليلة، رنّ جرس هاتف منزل ناديا كثيراً، مرات ومرات، لكن المكان كان غارقاً في سكونه، وأهله في سبات عميق. ربما كان الأبناء يرغبون في معايدة والدتهم في عيدها. لا شك أنهم سيعاودون الاتصال في وقت آخر، لكن ناديا لم تعد على السمع. طارت شرفتها وإنكسر فنجان قهوتها. الست ناديا خانتها الحياة، كما الذاكرة.