في ظلّ التحولات الإقليمية المتسارعة، ووسط تصاعد الأخطار التي تُهدّد الكيان اللبناني من الجنوب والشرق، عاد إلى الواجهة مجددًا النقاش حول موقع لبنان ودوره في الصراعات الإقليمية، سواء بأن يكون جزءاً من خطة الشرق الأوسط الجديد أو في موقع معارضتها والسعي لإسقاطها أو أن يكون ضد الإثنين معاً.
في هذا السياق، طرح رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميّل اقتراحًا يقضي بتعديل مقدمة الدستور لإدخال مبدأ الحياد، معتبرًا أنّ “اللبنانيين لطالما طالبوا بتحييد لبنان عن صراعات الآخرين لتجنيبه دفع الأثمان”. هذا الاقتراح، وإن جاء في إطار الحرص على حماية لبنان وتأمين استقراره، يستوجب قراءة متأنية في ضوء الواقع الأمني والسياسي المحيط بالبلاد، والاعتبارات الدستورية التي تحكم توازناته الداخلية.
لقد عانى لبنان منذ نشأته أزمات متلاحقة وحروبًا مدمّرة كادت أن تقضي على كيانه وعلى صيغة العيش المشترك فيه. فترابط الأزمات الداخلية مع التوترات الإقليمية جعل من لبنان ساحة لتصفية حسابات الآخرين. وعند كل منعطف خطير، كانت القوى السياسية والمرجعيات الدينية والنخب الوطنية تبادر إلى طرح مشاريع حلولٍ مختلفة: فمنهم من دعا إلى العلمنة، ومن رأى الفيدرالية أو الكونفدرالية مخرجًا، ومن طالب بتجاوز الطائفية السياسية أو بإنشاء مجلس للشيوخ، ومن رأى في الحياد أو التدويل علاجًا لأزمة الهوية والتموضع.
إلا أنّ مفهوم الحياد في القانون الدولي ليس مجرّد شعار أو نية حسنة، بل نظام قانوني متكامل يستند إلى اتفاقيات لاهاي لعام 1907، التي حدّدت حقوق الدول المحايدة وواجباتها، وعلى رأسها الامتناع عن المشاركة في أي نزاع مسلح أو تقديم العون لأي طرف من أطرافه. ويجمع فقهاء القانون الدولي على ضرورة توافر ثلاثة شروط أساسية لنجاح نظام الحياد:
1. قبول وطني واسع يضمن وحدة الموقف الداخلي.
2. قبول الدول المجاورة وتفهّمها لمبدأ الحياد.
3. قدرة الدولة على حماية حيادها بنفسها من دون الارتهان إلى ضمانات خارجية.
أولًا؛ العدوان الإسرائيلي المتواصل:
منذ إعلان وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تواصل إسرائيل اعتداءاتها الممنهجة على لبنان، جوًا وبرًا وبحرًا، وتحتلّ مساحات جديدة من أراضيه الجنوبية في خرق واضح للقرار 1701. والأسوأ أنّ منظمات إسرائيلية أعلنت مؤخرًا عن عرض أراضٍ لبنانية للبيع لمستوطنين إسرائيليين، وهي أراضٍ تعود ملكيتها لمواطنين لبنانيين، ما يُعدّ انتهاكًا فاضحًا للسيادة اللبنانية وللقانون الدولي الإنساني الذي يحظر تغيير هوية الأرض المحتلة أو مصادرتها. هذه الخطوة ليست مجرد استفزاز دبلوماسي، بل تعبّر عن سياسة إسرائيلية ممنهجة لفرض واقع ميداني جديد يهدّد الوجود اللبناني في الجنوب ويمسّ جوهر الكيان. فهل يمكن لدولة تواجه هذا النوع من العدوان الوجودي أن تكون محايدة؟
ثانيًا؛ خطر التنظيمات الإرهابية:
في موازاة ذلك، لا يزال الخطر الإرهابي قائمًا على الحدود الشرقية والشمالية للبنان. فتنظيمات كـ”داعش” وإن تراجعت عسكريًا في سوريا والعراق، إلا أنّها ما زالت تمتلك خلايا نائمة وبنى تحتية لوجستية قادرة على التحرك عند أي فراغ أمني. وقد أثبتت معارك الجرود أنّ الجيش اللبناني والمقاومة، بتكامل أدوارهما، شكّلا درعًا واقيًا منع تمدد الإرهاب إلى الداخل اللبناني. إنّ الحديث عن حيادٍ كامل في ظلّ هكذا تهديد هو تناقض مع واجب الدفاع الذاتي الذي يفرضه الدستور والقانون الدولي على كل دولة لحماية حدودها وشعبها.
ثالثًا؛ التناقض بين الحياد والواقع الجغرافي والسياسي:
لبنان لا يعيش في فراغ جغرافي ولا في بيئة مستقرة، بل على تماس مباشر مع بؤر الصراع الكبرى في المنطقة: جنوبًا مع إسرائيل العدوّ التاريخي، وشرقًا مع سوريا التي لم تخرج من أتون الحرب بعد، وغربًا مع البحر الذي تتنازع فيه الدول على ثرواته الغازية والنفطية. في هذا السياق، يصبح إعلان الحياد قفزًا فوق الجغرافيا والواقع، ومحاولة مثالية لتجميل أزمة بنيوية لا يمكن تجاوزها بعبارة دستورية.
رابعًا؛ الحياد بين المثال والسيادة:
إنّ مبدأ الحياد لا يمكن أن يكون بديلاً عن مبدأ السيادة والدفاع المشروع. فالدولة التي تعلن حيادها يجب أن تمتلك القدرة على الدفاع عنه. أما في حالة لبنان، فغياب توازن الردع سيحوّل الحياد إلى حالة من العجز الدستوري، إذ لا يمكن تحييد دولة تُحتلّ أراضيها وتُخترق أجواؤها وتُهدَّد حدودها الشرقية. كما أنّ الدعوة إلى ضمانات دولية، على غرار النموذج السويسري، تصطدم بحقيقة أنّ المجتمع الدولي لا يمنح الضمانات مجانًا، ولا يلتزم بحماية الدول الصغيرة إلا في حدود مصالحه. والولايات المتحدة، مثلاً، لم تعد ترى في لبنان سوى ساحة نفوذ مرتبطة بملف المقاومة، ما يجعل أي ضمانة دولية مجرّد وهم سياسي.
في الخلاصة، إنّ اقتراح إدخال مبدأ الحياد في مقدمة الدستور اللبناني، وإن كان يستند إلى نية وطنية خالصة في حماية البلد، إلا أنّه يتجاهل معادلات القوة والتهديد القائمة، ويتعامل مع لبنان كما لو كان جزيرة معزولة في محيط هادئ. في حين أنّ الواقع يشي بعكس ذلك تمامًا: لبنان اليوم محاط بنيران مشتعلة، من الجنوب بعدوانٍ إسرائيلي مستمرّ يهدّد وجوده، ومن الشرق بخطر الإرهاب المتجدد في كل حين.
من هنا، فإنّ الأولوية ليست في إعلان حياد نظري، بل في تحصين لبنان بسيادته ودفاعه الذاتي، وبناء دولة قوية قادرة على فرض احترام حدودها وحقوقها. فالحياد الحقيقي لا يُكتب في مقدمة الدستور، بل يُصنع في الميدان، بجيشٍ قوي، واقتصادٍ متماسك، ووحدةٍ وطنية تُعيد إلى الدولة معناها ودورها في محيطٍ لا يعترف بالضعفاء.
