زمنٌ عزّت فيه المواقف.. والرجال

"لا يفعل ما تفعل إلّا الرجال العظماء.. وإنما أنت رجل حقيقي في زمان عزّ فيه الرجال.. فلا تقنط ولا تلم نفسك على ما لا تتحمل وزره، فهذا هو الزمن الذي نعيش فيه.." (قول منقول).

كثيرةٌُ هي المقولات التي تتأسف على زمن عزّ فيه الرجال.. وكثيرة هي المواضع التي افتُقدت فيها المواقف والخيارات والتي كانت أوزارها تصل إلى حدّ دفع الحياة ثمناً لها.

تصريحاتٌ وأوامر؛ تهديداتٌ وتحذيراتٌ وصلت حدّ الإهانة. عصفوريةٌ كبيرةٌ تمر بها منطقتنا؛ لا صوت يعلو على صوت المعتدي والمرتشي والمُدان والمطلوب للعدالة. لا أفق مفتوحاً إلّا الاستسلام لذلك “اليانكي” البغيض؛ لذلك المرتشي والقاتل والناهب لثروات الشعوب. عصفوريةٌ مفتوحةٌ على كل شيء قذر: الموقف السياسي، الأخلاق، السلوك، الكلام.. “التفسيد”، بكل ما يحوي من دونية ووصولية واستزلام، قائم وعلى رؤوس الأشهاد. الولائم فقط للقتلة، يتسابق على مدّ سماطها من يتوسلون الرضا من صاحب الأمر كي يصنع منهم نواباً وأصحاب معالي ودولة، حتى ولو كان ثمن ذلك دماء شعوبهم وكرامتهم وحصارهم.. هؤلاء هم المتسلقون على جزمة المحتل، مهما كانت لغته، قريباً كان أم بعيداً. نعم، هذا هو ديدن السياسة والسياسيين في لبنان: يتسابقون على فعلتهم غير مبالين بأي شيء، الأغلى هو الموقع وليس الكرامة.

المقاومة ليست خطأ ارتكبه بعض مراهقين أو فورة صبيانية.. هي أساس حرية كل من سكن البسيطة منذ مقتلة هابيل وقايين ولمّا تزل تنتقل من ناحية إلى أخرى، تحمل دمائها على كفها وهموم شعوبها في وجدانها وتخط طريق الحرية الواضحة.. الوحدة بكل أشكالها مطلوبة، في وقت عزّ فيه الجمع بدل التقسيم المقيم بين شعوبنا منذ أمد غاص في وحول قرون من التقاتل والتشرذم والدسيسة والنميمة المنتشرة بين ظهرانينا

مقتلةٌ تجري في كل مكان. القاتل واحد والمقتول واحد. الكل يتبرأ من الدماء المسفوكة. مشهدٌ يُبثُ على الهواء. صورُ الشهداء والجرحى والجوعى والمشردين.. لا يضاهيه، في المقلب الآخر، إلّا اتساع بسمة أولياء الأمر من ساسة وسادة ومتقدمين. شاشات الإعلام الناطقة بلغة الضاد هالها المشهد فقلبت الصورة على “حب الحياة”، من سهرات الترفيه والبطون المكتنزة والبسمات “البلاستيكية” المصطنعة، والدونية لصاحب المال .. لم يعد المسرح يتسع إلّا لمشهد واحد وهو “حب الحياة” المتخمة بكل ما هو اصطناعي. لسنا في مركب واحد وفي دنيا واحدة. صحيح نتكلم اللغة نفسها لكن الهموم ليست هي هي. لقد أفلت القضايا من أيدي سلالات عديدة من النظم التي تاجرت بها، وها هي تستفيق اليوم على اكتشاف الوجه الأفضل لحب الحياة. العدل، النخوة، الشرف وإغاثة الضعيف والملهوف.. تُركت معلقة على ذلك البيت العتيق المنسي بين غبار الذكريات ونكران الحاضر. لم يعد الغمد يتسع حتى لسيف واحد، لقد بيع ذلك السيف وسُدّد ثمنه مقابل مقامرة خسر فيها صاحبه فأعطاه بدل الرهان.

اليوم ليس زمن نفض الغبار عن المعدات الصدئة بل إعادة تكون القضايا وآليات السير بها؛ فلسطين ليست قضية للبيع أو السمسرة؛ كلامٌ موجّهٌ لأصحاب القضية ومن يؤمن بها، وهم بالواقع كثر، والغالبية منهم لا يتكلمون لغة الضاد. منها يجب أن تكون البداية؛ هي مُبتدأ المواجهة وخبرها الذي لا يجب أن ينطفئ بعدما أنار كل شوارع العالم. المقاومة ليست خطأ ارتكبه بعض مراهقين أو فورة صبيانية.. هي أساس حرية كل من سكن البسيطة منذ مقتلة هابيل وقايين ولمّا تزل تنتقل من ناحية إلى أخرى، تحمل دمائها على كفها وهموم شعوبها في وجدانها وتخط طريق الحرية الواضحة.. الوحدة بكل أشكالها مطلوبة، في وقت عزّ فيه الجمع بدل التقسيم المقيم بين شعوبنا منذ أمد غاص في وحول قرون من التقاتل والتشرذم والدسيسة والنميمة المنتشرة بين ظهرانينا. التموضع، الذي ومنذ موقعة مرج دابق والانتظار على حافة النهر كي نختار أين نقف، لمّا يزل هو المعيار والمقياس الذي نختار فيه خياراتنا واصطفافاتنا، وهذا ما دُفع بسببه أثمان لا تعوّض. فلنكن مع ما نريد وليس مع ما يريدون. نحن أصحاب حقوق وأصحاب رأي أيضاً فلا وقوف على أعتاب من استبد وطغى وقتل ودمّر طلباً للحماية ولتقديم خدمات الوشاية و”التفسيد”.

ربما سنجد صعوبة في التفريق بين الاشخاص والقضايا والمهام والمطلوب.. لكن لا يمكن أن نغضّ الطرف عن واقع أصبح معلوماً بكل تفاصيله: منطقةٌ تتهاوى كحجارة الدومينو على غير هدى؛ دول بدأت بالزوال، ليس فقط بالوظيفة لكن أيضاً بالجغرافيا. شعوبٌ تاهت وهامت على وجهها تلعن من حكمها ومن سيحكمها. قضايا تضاءلت حدّ التفاهة، فحب الحياة أصبح شعار من لا يريد أن يفعل شيئاً، كما لو أن خيار حب الحياة هو موقف سياسي، هو بطبيعته محبوب كل كائن حي. قضايا ناضلت الشعوب من أجلها أصبحت رقصة في أغنية أو “معالف” طعام تدور فيها الكؤوس والرؤوس. هي فوضى متداخلة مع فراغ أصبح مملاً وخالياً من الحياة. هي فوضى تستشعر خطرها لكن لا تبتعد عنها، تعيشها كمن يعيش منطقة الزلازل الدائمة. هي فوضى أزهقت القيم في مواخير الليل والعبث الاعلامي والصبيانية المتنقلة بين صفوف الحكام ورعاتهم. هي فوضى أكثرت من السخافة حد انسداد الأفق، فننام ونستفيق على مشهد واحد أحد، مسدود بأطنان النفايات الصادرة عن ممارسة سياسية أصبحت لا إرادية كالتبول الليلي.. هو واقع فاضت عليه مياه الصرف فغيّرت لونه إلى آخر لا يشبه إلّا نفسه.. هل من يعي ويسمع ويحلل ويسعى ويبادر؟ ربما المطلوب ليس الاجابة بل العمل، فهل من يتجرأ ويرفع أصبعه ويقول أنا أبدأ!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الأردن والسعودية: "العلاقات ليست على ما يرام".. والأسباب كثيرة
حسن خليل

أكاديمي وكاتب سياسي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  تأمّمت السويس.. ففاز لبنان بسرديته المصرفية!