في لبنان.. المعنى قوةُ تأثيرٍٍ غائبة!

ما من شعور يأس أوعجز أمام الأحداث التي نعيشها، إلا ولها جذور نفسية ضاربة في الشخصية العربية والإسلامية التي يسيطر عليها التسليم في كل شيء ويدفعها ذلك إلى أن ترتمي في أحضان اللامبالاة والاستخفاف بالمسؤوليات والواجبات وصولاً إلى التقوقع والخنوع والخضوع للفراغ والهروب إلى الأمام.

يُطرح هنا إنتاج المعنى كنقطة محورية بما يعطي للفرد والجماعة قدرة تحرر ويُثبّت أقدامهمم على سكة إنتاج الوجود من جديد عبر التأثير في الأحداث لا مجرد الانفعال بها كما تعودنا.

المعنى، هو الحياة الفعلية التي يُقاس بها عمر الإنسان والأمة في الدائرة الأوسع، وهو المحرك الرئيسي لسؤال الإنسان عبر مسيرة وجوده في وجه الوحشة التي يعانيها ويأتي ممهوراً بدهشة غريبة تستفز الإنسان هذه الدهشة التي تمهد لأسئلة كثيرة تشكّل هويتة الفلسفية وإن لم يكن فيلسوفاً بالمعنى المصطلح للكلمة.

المعنى المنتزع من قلب صخب الأحداث وأثره هو من يصوغ حركتنا التي لا بد وأن تتجه في سير تصاعدي وألا تنكفىء على ذات مغلقة مجردة من أي تأثير.

الدهشة والسؤال والخلق والإبداع والتحرر والنقد مفرداتٌ أعمق بكثير من شكليات تطغى على وجودنا و”تفرمل” تأثيرنا؛ مثلاً في عالم الفقه، غابت وتغيب معاني الابتكار والدهشة والسؤال لصالح التكرار والاجترار حتى بات النتاج الفقهي جافاً لا روح فيه يأكل نفسه ولا يحرك فعلاً ولا يترك أثراً وكأن الفقه هو طهارات ونجاسات من دون تأثير وتركيز على فقه المعاملات والأخلاق والأسرة والشباب في الواقع العملي والاجتماعي حتى بتنا نحيا في جزر منعزلة عن بعضها البعض.

في عالم الثقافة والفكر نرى كيف تطغى الإنشائيات والبهرجة اللفظية على حساب المعنى المندهش الذي يريد للإنسان أن يكون ناقداً بالفطرة حتى لا يفقد بوصلة فعله الوجودي الفاعل وحتى لا يقع في محظور اللاحرية وهو واهم بأنه يعيش الحرية بأبهى صورها في كل واقعه.

كذلك الحال في العقائد الدينية والوضعية التي تستجدي من يزيل عنها غبار السكون ويبعث فيها روح الانكشافات المنبثقة من الأثر للفكرة وتجلياتها التي تخلق فرقاً وتميزاً وحيزاً متجدداً لم يكن معروفاً ولا من التفت إليه، فالمعنى والأثر يُحركان الركود في طبيعة الفهم والتعامل مع النصوص والأفكار بحيث يُعمل النظر والتدقيق ويُحسن القراءة والمساءلة والاستنتاج.

ها يأخذ الأثر بعداً عميقاً عندما يعكس روح الثورة في وعي الإنسان بحيث يحثه على توليد الأثر المتجدد والسيّال في كل ما هو محيط به.

أوهام السياسة والسياسيين!

نجد أن حراس الدين والعقيدة، إن صح التعبير، بكل مراتبهم ومراحلهم الزمنية، قد أقفلوا على الأثر والمعنى في صندوق عتيق من خلال تغليف الخطاب وتعليبه وتأطيره وخنقه برمي الأفكار في الفضاء الاجتماعي لخدمة مصلحة شخصية أو رأي معين أو لتخدير الجماعة أو لرفع جدار هنا وهناك لمنع كل طرح أو تساؤل يحرك هذا الركود المخيف ويهدم هذه الجدران المرتفعة ويخلق أرضية صالحة للسؤال واجتراح المعنى والأثر الذي يشّكل وعياً متحركاً ومؤثراً في حركة الحياة العامة.

هذا الأثر المواجه لكل أشكال التسلط والدافع نحو كل تحرر داخلي في وجه القمع الممارس من قبلنا على أنفسنا والواقع من حولنا عندما جعلنا الأفكار والمعاني والتوجهات مجرد أصنام نطوف حولها بلا تفكير وبلا حرية نظر حتى أضحت عبادة الوهم والمألوف هي الرائجة.

وإذا كانت السياسة تعني تدبير أمور الناس وتصريفها وفق رعاية مصالحهم ووفق منهجية واستراتيجيات تحقق ذلك، فالسؤال هل هناك من معنى في سياسة تدار وتقاس بحجم زواريب ضيقة ومشاريع دولية وأدوات محلية تكرس منطق العشائرية والقبلية والغنائم على قياس الشخص أو الزعيم أو الطائفة أو المنطقة بدلاً من أن تكون سياسة تؤكد التحرر الفعلي لإنسان يدير سياسة تنظيم نفسه لينطلق قوياً على بصيرة في إدارة جماعته ومن ثم نوعه الإنساني العام بلا فروقات واصطفافات؟

باعتقادي، على مستوى العمل السياسي والحزبي، هناك وهم كبير بأن السياسة لها أثر وتأثير إيجابيين على صنع الأحداث والتحكم بمسارها فما نراه أو نسمعه خطاب جامد فارغ من التأثير يقدم صورة لوهم الانتصارات يعني ذلك تخدير الوعي بينما النفوس في إنكسارات مستمرة لم تتعرف بعد على حقيقة الربط بين الراعي والرعية ومسؤولياتهما لا على صعيد الدائرة الصغيرة التي هي العائلة ولا على صعيد الحياة العامة إلا ما ندر.

كيف لكَ أن تنتج سياسة بلا سياسيين فعليين يستندون على قاعدة معرفية صلبة لا على إرث عائلي أو يقتنصون فرصة أو لحظة من هنا وهناك كي يقدموا أنفسهم الناقصة على أنها تمثل مجتمعاً أو هوية بأكملها وينغمسون في المنفعة الخاصة؟

النهضة الحقيقية

باعتقادي؛ هناك مقاولو سياسة يتقنون فن تسويق ذواتهم وتدوير الزوايا وقت الحاجة تماشياً مع لعبة التوازنات بين المجموعات الطائفية؛ هذه المقاولة السياسية لا تنتج عن معرفة ومهارة في علم السياسة كعلم، بل بفعل خبرة متراكمة لكيفية إدارة الأزمات لا حلها وعلى قاعدة التجارة من الربح والخسارة وتنظيم الخلافات بعيداً عن الأثر القيمي الفعال في خدمة المصلحة العامة وهذا ما يظهر جلياً عند كل حدث أو مفصل سياسي محلي أو إقليمي تطفو معه على العلن بشاعة اللامعنى المقصود والذي ينفع أصحابه وطموحاتهم.

إقرأ على موقع 180  بن مناحيم: "ضوء أخضر" روسي للتصعيد الإسرائيلي سورياً!

فالأحزاب وجدت لتعبّر عن الأثر المتجدد الذي تنتجه الأمة وليست هي غول يأكل الأمة ليحيا الحزب أو الجهة أو الشخص، فوجود الأمة يكون من خلال أثر ومعنى تنتجه بلا مصادرة لحريتها وقرارها وما يُسقط عليها، وإلا هي في موات.

إن المعنى المجترح من الوجود هو المعنى المساوق لكرامة إنسانية في معرفتها للوجود ولمسؤولياتها في نفي كل تشتت والدفع نحو صحوة في الضمير والمواقف والمشاعر والأفكار وفي التربية والسياسة والدين والاجتماع.

لذا يبرز الأثر الفعلي في إيجاد رجال أحرار يديرون لعبة المجتمع والحياة بفعل تغييري مواجه للغفلة التي تأكل واقعنا وتسيطر على خطابنا ولغتنا البينية بحيث تجد الانغماس الفاضح في العصبية المذهبية والطائفية البغيضة ما يزيد في اغتراب الواقع عن أصالته.

يبدو أنه لا مفر من التأسيس لقيام نهضة حقيقية مؤسساتية ينتج عنها وعي جماعي قيمي فاعل يكسر دوائر هذا الفراغ ويمحو فقاعات الوهم والتقوقع وينحو منحى إحداث الفرق الكبير بإيجاد المعنى المشبع بالأثر – ولو كان العبور إليه مستصعباً – في مناحي الحياة كافة حتى يظل الإنسان إنساناً، وإلا سنبقى نحيا مزيداً من التقهقر واللامعنى لوجودنا كأفراد وجماعات وسنشهد كل يوم على تشظي المعنى والأنسنة.

صدق الكاتب الإغريقي إيسوب عندما قال: “نحن نقوم بشنق صغار اللصوص، ونعين كبارهم في المناصب الرسمية”.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحث وكاتب، لبنان

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حرب أوكرانيا.. هل تُنعش "الإرهاب الإسلاموي"؟