ليس خافياً أن الطائفة الشيعية في لبنان، وبحكم وقائع الديموغرافيا والتاريخ والجغرافيا والسياسة والدين إلخ..، تحمّلت العبء الأكبر في “جبهة الإسناد” التي انطلقت في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وتحوّلت حرباً خاضتها المقاومة اللبنانية بين السابع عشر من أيلول/سبتمبر والسابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تاريخ توقف الأعمال القتالية الواسعة النطاق، في ظلّ استمرار الخروقات العسكرية الإسرائيلية اليومية، ومشاهد التدمير لقرى وأحياء كاملة، وقوافل تشييع الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن أرضهم، وإنشغال الناس المنكوبين في تأمين مستلزمات العيش وترميم ما خرّبه العدوان وإعمار ما تهدّم.
واللافت للانتباه أن المشهد السياسي والإعلامي الداخلي الذي أعقب توقف الحرب، كان مشهداً لا يقلّ ضراوة عن المواجهة العسكرية، إذ بدا أن هناك من يستعجل استثمار هذه “اللحظة التاريخية”، برعاية إقليمية ودولية، لفرض وقائع داخلية تكسر معادلات لطالما ارتكزت عليها توازنات الطوائف الأساسية في البلاد طيلة أكثر من أربعين سنة مضت.
وجاءت الوقائع السياسية المتتالية، وآخرها انتخاب رئيس جديد للبلاد هو العماد جوزاف عون، بعد فراغ دستوري استمر سنتين ونيف، ومن ثم تسمية رئيس الحكومة المكلف القاضي نوّاف سلام، لتزيد منسوب الإستشعار بوجود مشروع ما للعزل والتهميش، وهذا ما يُفسّره إلى حد كبير مضمون خطاب رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد الغاضب بعد إحجام الكتلة عن تسمية رئيس جديد للحكومة ـ طبعاً بشراكة كاملة مع “كتلة التنمية والتحرير” برئاسة الرئيس نبيه بري ـ وفي المقابل، خطاب الزهو والاختيال الذي خرج به النائب جورج عدوان بعد تسمية كتلة “القوّات اللبنانية” للقاضي نوّاف سلام.. تحفزٌّ انقضاضيٌ هو ما يمكن تسميته في معرض توصيف سلوك هؤلاء “المعارضين”، في لحظة سياسية تبدو مؤاتية لهم كرّست إلى حد كبير وصاية دولية وعربية جديدة على الواقع اللبناني، ما يُمكن أن يُمثل قفزاً فوق الميثاقية إذا تم تجاوز أي شريحة أساسيّة من مكونات الصيغة اللبنانية..
وهنا يسجّل على ثنائي أمل وحزب الله إحجامه عن بيان سبب رفضه للقاضي نوّاف سلام، هل المشكلة تتعلّق بالشخص أو تتعداه إلى الطريقة التي تمت تسميته على أساسها؟ الجواب والشرح مطلوبٌ جداً، وهو يُمثّل حاجة للجمهور والخصوم على حد سواء ليتبيّن ما يريد الاستزادة ويحجم من يُفضّل الإحجام.
يُعوّل الكثيرون على حكمة رئيس الجمهورية وتبصره وسياسته في تجاوز حقول الألغام التي تعترض مسار عهده الجديد، وفي المقابل، على ثنائي أمل وحزب الله لجهة تأكيد مبدأ المشاركة والحوار والتلاقي، لأنّ غير ذلك لن يكون إلا في صالح أعداء الاستقرار وقصيري النظر في الداخل والخارج
***
لا يجوز استباق مسار تأليف الحكومة الجديدة، والمرجح أن لا رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ولا رئيس الحكومة المكلف نوّاف سلام ولا أي طرف لبناني عاقل في وارد الإقدام على خطوة من نوع عزل أو اقصاء هذا الطرف أو ذاك.
وعندما نعود إلى وقائع التاريخ اللبناني، نجد أن تغييب المكوّن الشيعي عن تشكيل الحكومات، حصل في مرحلة “الحرمان والتهميش”. ففي السنوات التي أعقبت الاستقلال بين 1943- 1970، كان “السيناريست” هو رئيس الجمهورية الذي كان “ملكاً دستورياً” تتقاطع عنده رغبات الخارج مع مقتضيات الداخل، ويمنح الوزارة لمن يشاء من حلفاء عهده ويستبعد من يشاء. في ذلك الوقت، غُيّب الشيعة اللبنانيون عن سبع حكومات لبنانية؛ ثلاث منها لم تُعرض على مجلس النواب لتنال الثقة في عهد الرئيس كميل شمعون بين التاسع والثلاثين من أيلول/سبتمبر عام 1952، وأربع حكومات نالت الثقة في مجلس النوّاب من دون أن يتمثل فيها الشيعة وهي: حكومة حسين العويني في أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري (14 شباط/فبراير ولغاية 7 حزيران/يونيو 1951)؛ حكومة صائب سلام في عهد الرئيس كميل شمعون (30 نيسان/أبريل ولغاية 16 آب/أغسطس 1953)؛ حكومة رشيد كرامي (حكومة الأربعة) في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب (14 تشرين الأول/أكتوبر 1958 ولغاية 14 أيار/مايو 1961)؛ وأخيراً حكومة عبد الله اليافي في عهد الرئيس شارل الحلو (20 تشرين الأول/أكتوبر 1968 ولغاية 15 كانون الثاني/يناير 1969)..
ولكن هلّ كان التمثيل الشيعي بعد 1970 وقبلها يُراعي موازين القوى داخل الطائفة الشيعية؟
بالعودة إلى أرشيف أسماء الوزراء، الذين كانوا يُمثلون الطائفة الشيعية، نجد أنها كانت تعكس على الدوام تمثيل القوى الفاعلة شيعياً.. وأنه بعد العام 1969 لم يغب الشيعة عن أي حكومة لبنانية عاملة حتى يومنا هذا.
في المقابل، ومع بداية الحرب اللبنانية عام 1975 وقف الشيعة اللبنانيون بجناحيهم التقليدي والحركي ضدّ عزل حزب الكتائب وباقي أحزاب “الجبهة اللبنانية”، فكانت زعامتهم عنواناً للشراكة والحوار ووقف الحرب الأهلية، وعندما نادت “الحركة الوطنية اللبنانية” بزعامة كمال جنبلاط بضرورة تغيير النظام السياسي وانهاء حكم المارونية السياسية، تبنى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الإمام السيد موسى الصدر خيار الوسطية المتمثل في اصلاح النظام بدل تغييره، لأنه كان مقتنعاً بأن سياسة الغلبة والتغلّب لا تُعمّر وطناً ولن تبني مستقبلاً..
وعندما استباحت إسرائيل لبنان واحتلت عاصمته وتم ترحيل المقاومة الفلسطينية في صيف العام 1982، انبرى جزء من الشيعة لقتال المحتل وقسم آخر كان مشاركاً في تأمين وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، وبعد اغتيال بشير الجميل في 14 أيلول/سبتمبر 1982، شارك النواب الشيعة في إيصال أمين الجميل الى سدّة الرئاسة كجزء من الإرادة الوطنية الطامحة لوضع حدّ للحرب الداخلية والاحتلال الإسرائيلي.
ولم تكن انتفاضة 6 شباط (فبراير) 1984 إلا إعلانا عن سحب الشرعية الميثاقية لحكومة وعهد الرئيس أمين الجميل، بعد أن أمعن في قمع الرافضين لاتفاق 17 أيار/مايو ولسياساته الفئوية التي أثارت كل المعارضين له في ذلك الوقت.
وفي السنوات التي فصلت بين تحرير الجنوب في العام 2000 و”معركة المبادئ” في العام 2024، وباستثناء واقعة السابع من أيار/مايو 2008، رداً على قرار تفكيك شبكة الاتصالات، حرصت المقاومة على عدم استثمار قوتها العسكرية في الداخل، برغم الأفخاخ الكثيرة التي نصبت لها.
وبعد هذا السرد التاريخيّ لا يمكن أن يكون العزل لشريحة لبنانية أساسية هو الحلّ؛ وبقدر ما هو مطلوب من جميع الشرائح اللبنانية أن تكون جزءاً لا يتجزأ من الدولة، وأن لا يكون لها أي مشروع خاص خارج الدولة، كما كان يُردّد سماحة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فإن طريقة تعامل القوى اللبنانية المعارضة للمقاومة في المرحلة المقبلة، ستُحدّد ما إذا كان منسوب القلق سيزداد ارتفاعا أم سيتبدد تدريجياً، خصوصاً إنّ استمرّت الوقائع تتدحرج بالمعنى السلبي في امتحاني التشكيل الحكومي والبيان الوزاري، وبعد ذلك في السياستين الخارجية والداخلية للحكومة وصولاً إلى التعيينات والخدمات، وكأنّ ما يجري اليوم، هو استكمال سياسي لما بدأه العدو الاسرائيلي عسكرياً، ما يضعنا جميعاً أمام دروس التاريخ الثقيلة في لبنان، حيث لم يفلح كلّ الذين تغلّبوا بالخارج على الداخل، ولم تسدْ طروحات العزل السياسية الداخلية، والتي غالباً ما كانت مزهوّة بنصر قصير الأمد، أوله حلو وآخره مرّ.
في الخلاصة، يُعوّل الكثيرون على حكمة رئيس الجمهورية وتبصره وسياسته في تجاوز حقول الألغام التي تعترض مسار عهده الجديد، وفي المقابل، على ثنائي أمل وحزب الله لجهة تأكيد مبدأ المشاركة والحوار والتلاقي، لأنّ غير ذلك لن يكون إلا في صالح أعداء الاستقرار وقصيري النظر في الداخل والخارج.