في الذكرى الثامنة والسبعين لإستقلال لبنان، تتداعى إلى الذاكرة السياسية وبما يشبه الشرائط المصورة، مفاصل ومنعطفات كبرى إقليمية ودولية، كان للبنان المستقل فضل صياغتها وإنتاجها، وإلى حدود ظهر فيها لبنان بين الأعوام 1943 و1975 صانعاً لسياسات دول الإقليم وإلى ما بعدها، فضلاً عن قدرة المحافظة على سيادته وصيانة قراره المستقل، ومن معطيات وحقائق تلك المرحلة:
ـ أولاً؛ في قوة السياسة اللبنانية إقليمياً ودولياً:
في حديث شخصي مع نقيب الصحافة اللبنانية الأسبق زهير عسيران (1914 ـ2010) أن رياض الصلح، وهو أول رئيس حكومة لبنانية بعد الإستقلال، تم اغتياله (16 ـ 7 ـ1951) في العاصمة الأردنية عمّان، عقب تلقيه دعوة من الملك عبدالله الأول بهدف إبلاغه بأن الأردن وافق على إقامة اتحاد كونفدرالي مع العراق طالباً منه إعطاء العلم والخبر لأركان الحُكم الهاشمي في بغداد، وهذه المعلومات سوف يعيد زهير عسيران نشرها في مذكراته “المؤامرات والإنقلابات في دنيا العرب”.
الشهادة نفسها، سيدلي بها الدبلوماسي اللبناني الراحل صلاح عبوشي في “تاريخ لبنان الحديث من خلال 10 رؤساء حكومات”، حيث يتحدث عن إقناع رياض الصلح “للملك عبدالله بمشروع وحدة عربية مفتوحة، تبدأ بتوحيد العراق والأردن ويعتلي هو ـ عبدالله الأول ـ عرش البلدين، ويكون فيصل بن غازي ـ ملك العراق ـ نائبه”.
وعلى ما يقول الكاتب البريطاني المعروف باتريك سيل في كتابه “رياض الصلح والنضال من أجل الإستقلال العربي”، أن رياض الصلح زار الأردن في آب/أغسطس 1948، وكانت خطته تقتضي إقناع الملك بدمج الفيلق العربي ـ الجيش الأردني ـ مع الجيش العراقي، وفي يوم الجمعة 13 تموز/يوليو 1951، توجه رياض الصلح جواً إلى عمًان، وعُقدت ثلاثة اجتماعات بين صباح السبت ومساء الأحد، وقال الملك ـ عبدالله الأول ـ لرياض الصلح: إني أفكر بما سيؤول إليه أمر الأردن بعد رحيلي، لذلك فكرت في إقامة نوع من الإتحاد بين الأردن والعراق يرأسه إبن أخي عبد الإله بعد وفاتي”.
في عام 1956، تعرضت مصر لعدوان إسرائيلي ـ فرنسي ـ بريطاني بات معروفاً بـ”العدوان الثلاثي”. آنذاك، كان ثمة سياسي ورجل اعمال لبناني، إسمه إميل البستاني (1907 ـ1963)، تقلد الوزارة والنيابة مرات عدة وتقدم الصفوف الأولى لمرشحي رئاسة الجمهورية، وفيما كانت وسائل الإعلام الإنكليزية تغطي وقائع “الحرب النظيفة” على مصر وعلى مدينة بورسعيد بالذات، طلب جمال عبد الناصر الإتصال بالبستاني، ويورد محمد حسنين هيكل في الجزء الثاني من كتابه “كلام في السياسة” تفاصيل ما جرى فيقول:
“عندما بدأت معارك السويس في تشرين الأول/أكتوبر 1956، فإن انتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني، حاول أمام مجلس العموم أن يدعي بأن القوات البريطانية والفرنسية قامت بعملية عسكرية نظيفة، ثم كان أن تمكن مصور سويدي، أندر اندرسون، من دخول المدينة والتقط عشرات الأفلام والصور التي تكشف الحقيقة، وجرى اتصال تلفوني مع إميل البستاني، وقامت طائرة مصرية بمغامرة حملت الأفلام والصور إلى بيروت، ومن هناك أخذها إميل البستاني إلى لندن، وبعد أقل من ساعة واحدة، كان يُعرض على أكثر من مائة عضو في مجلس العموم صورٌ وأفلامٌ تكشف حقيقة ما جرى في مدينة بورسعيد، وخرج أنيورين بيفان ـ نائب في مجلس العموم ـ من قاعة العرض يدعو إلى مظاهرة، وكان حجمها نصف مليون رجل وإمرأة، وخسر انتوني إيدن معركته السياسية في قلب لندن في الوقت الذي خسر معركته العسكرية على شواطىء بورسعيد”.
يقول الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو “إن تقارب عبد الناصر وديغول حدث يخص تاريخ فرنسا ومصر، والذي نعرفه أننا سعينا من أجله لمصلحة لبنان”
بعد “العدوان الثلاثي”، تواصل الإضطراب في العلاقات المصرية ـ الفرنسية، وذاك من طبائع الأمور، ولكن مع عودة الجنرال شارل ديغول إلى الرئاسة الفرنسية في أواخر عام 1958، راح يصوغ سياسة مختلفة عن أسلافه، وخلال هذه الفترة كانت السياسة الخارجية اللبنانية قائمة على اتجاهين رئيسيين، واحد صوّب مصر وآخر نحو فرنسا، وهي معادلة أفسحت المجال للبنان بأن يؤدي دور رأس الجسر بين القاهرة وباريس، فنتجت عن ذلك مصالحة بين الرئيسين عبد الناصر وديغول، وفي “مذكراتي 1964 ـ 1965″، يقول الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو “إن تقارب عبد الناصر وديغول حدث يخص تاريخ فرنسا ومصر، والذي نعرفه أننا سعينا من أجله لمصلحة لبنان”.
وبموازة كل ما سبق قوله، ثمة منعطفان في غاية الأهمية مرتبطان بقوة التأثير اللبناني في محيطه العربي؛ الأول، خلال عهد الرئيس كميل شمعون، والثاني، خلال عهد الرئيس سليمان فرنجية:
يروي الزعيم كمال جنبلاط في كتابه “حقيقة الثورة اللبنانية” الصادر عام 1959، والذي يعالج فيه أسباب الأحداث الدامية في نهاية الولاية الرئاسية للرئيس شمعون، فيقول “كان شمعون بدأ يتحول بالدس المباشر على الأوضاع الداخلية في سوريا، وحاول ترشيح إحدى الشخصيات الموالية لحلف بغداد لرئاسة الجمهورية السورية، وكان يرسل في طلب النواب السوريين إلى بيروت، ويبعث برسله إلى دمشق وبغداد لطبخ القضية لإنجاح المرشح المذكور، وكان الفضل للزعيم شوكت شقير رئيس أركان الجيش السوري آنذاك في إحباط محاولات شمعون وتدخلاته لصالح لطفي الحفّار مرشح العراقيين، وفي إنجاح الرئيس شكري القوتلي”.
وأما الرئيس سليمان فرنجية (الصورة أعلاه)، فقد كلفه القادة العرب في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1974 بالتحدث بإسم القضية الفلسطينية نيابة عن العرب في الأمم المتحدة، حيث قال “أود وأنا أتوجه إليكم بإسم لبنان، وبإسم تسع عشرة دولة عربية أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، شرّفني رؤساؤها بأن طلبوا إلي تمثيلهم هنا، إن نظرة إلى الطريق الذي قطعه أخواننا الفلسطينيون في قرابة نصف قرن، سعياً للحفاظ على شخصيتهم وحقوقهم الوطنية، إن نظرة كهذه لا تترك مجالاً للشك بأن الكلمة الأخيرة ستكون كلمتهم”.
في ذكرى الإستقلال عام 1960 قال فؤاد شهاب “في ذكرى الإستقلال الذي قيل فيه أنه يؤخذ ولا يُعطى، ما أراني إلا معبِراً عن تجارب لبنان حين أقول إن الإستقلال الحق لا يؤخذ ولا يُعطى، إن الإستقلال يُبنى”
ـ ثانياً؛ في صياغة لبنان للسياسات العربية:
في التاسع والعشرين من نيسان/ابريل 1950، نشرت صحيفة “المصري” القاهرية خبراً مضمونه أن الأردن بصدد الإنسحاب من جامعة الدول العربية. ذاك الخبر كان تعبيراً عن استمرار تردي العلاقات بين القاهرة وعمًان، وعن ذلك كان تحدث المفكر شكيب إرسلان في “مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه 1800 ـ 1950” فكتب بتاريخ الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 1948 قائلاً: “بعث ملك الأردن عبدالله بن الحسين برقية الى الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام، محتجاً على تأليف حكومة عموم فلسطين، مصرحاً أن الأردن لا يتساهل مع أي حكومة في أماكن الحكومة الأردنية من حدود المملكة المصرية الى حدود سوريا”، وحيال هذا المعضلة برز السؤال الكبير ما الحل؟ الجواب كان في بيروت، كيف؟
يروي بشارة الخوري أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الإستقلال في مذكراته “حقائق لبنانية” فيقول “وقفت مصر موقفاً عدائياً علنياً من حكومة الأردن، وخيَرت مندوبي الدول في واحد من أمرين، إما إخراج الأردن أو خروجه من الجامعة، وأبرق رياض ـ الصلح ـ يستشيرني في الموضوع، فأجبته بضرورة كسب الوقت، وتأجل الإجتماع إلى حزيران (يونيو)، وسافر رياض الصلح إلى الإسكندرية للإشتراك في أعمال اللجنة السياسية للجامعة العربية، وفي رأس مهامها مسألة فصل الأردن، وبعد يومين جاءتنا أخبار مطمئنة، ثم بلغنا أن رئيس الوزارة اللبنانية تلافى بحكمته الإنشقاق، فقد أشار إلى ممثل الأردن بالتغيب عن الجلسة، فأرجىء البحث في الموضوع إلى تشرين المقبل وزال التوتر المحرج”.
ويقول الرئيس شارل حلو في “حياة في ذكريات” إنه في القمة العربية في الرباط 1969 “حصل أن عبد الناصر انسحب ثم عاد، وهذه مسألة تحتاج إلى شرح، لكن الخلاف بقي لوقت من الأوقات، ووصلنا إلى نهاية المؤتمر وأردنا رفع الجلسات، وكنا ننتظر في القاعة الكبيرة لنصدر البيان الأخير، نهض عبد الناصر وقال: ما رأيكم لو تركنا للرئيس حلو ان يلخص الموضوع ويعرض ما توصلنا إليه؟ هذا ما حصل، يعني أنا عرضت بإسم كل العرب، واعتُبرت همزة الوصل أو المعبر عن رأي جميع العرب، وكان جميعهم راض عن هذا التعبير”.
وفي قمة عربية أخرى، بلغت درجة الخلافات بين القادة العرب حداً فوق العادة، وبحسب ما يروي الراحل غسان تويني في حوار مع شارل حلو على “تلفزيون لبنان” في الرابع من حزيران/يونيو 1993 “كلفوا الرئيس شارل حلو برئاسة لجنة من ثلاثة رؤساء دول لصياغة البيان الختامي وعدم عرضه على المؤتمرين، كان لبنان مبلور الإتفاق العربي على مصلحة عربية عُليا بدل أن يكون ضحية الصراعات العربية”.
ـ ثالثاً؛ في الحفاظ على السيادة اللبنانية:
في ذكرى استقلال لبنان عام 1959، وجّه الرئيس فؤاد شهاب رسالة إلى اللبنانيين قال فيها “إن لبنان الذي خاض معركة الإستقلال عام 1943، خاض معركة استقلال ثانية عام 1958″، وفي الذكرى نفسها عام 1960 قال شهاب “في ذكرى الإستقلال الذي قيل فيه أنه يؤخذ ولا يُعطى، ما أراني إلا معبِراً عن تجارب لبنان حين أقول إن الإستقلال الحق لا يؤخذ ولا يُعطى، إن الإستقلال يُبنى”.
حطّت الطوافة التي تقل عبد الناصر على بعد أربعين أو خمسين متراً داخل الأراضي السورية، فنظر السرّاج إلى فؤاد شهاب وقال له: لقد وصل سيادة الرئيس عبد الناصر، ألا تود أن تستقبله يا فخامة الرئيس؟ فأجابه شهاب: لقد حطّت طوافة عبد الناصر على أرضه، كيف لي أن أستقبله في بلده؟
كيف صان فؤاد شهاب القرار السيادي اللبناني؟
في “المذكرات”، يقول وزير الخارجية اللبنانية الأسبق فؤاد بطرس “على مستوى السياسة الخارجية، انتهج الرئيس فؤاد شهاب سياسة عربية، قامت على التفاهم مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر على قاعدة تناغم لبنان مع سياسة مصر العربية مقابل عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وقد كرست هذه القاعدة القمة الوحيدة التي عقدها الرئيسان اللبناني والمصري في اجتماع الخيمة الشهير على الحدود اللبنانية – السورية في الخامس والعشرين من آذار/مارس 1959، علمتُ في ما بعد أن الرئيس شهاب هو صاحب فكرة الإجتماع، يومذاك، وصل الرئيس اللبناني إلى منطقة الحدود قبل نظيره المصري، وكان في استقباله رئيس المخابرات السورية عبدالحميد السرّاج، بعد نحو عشر دقائق، حطت الطوافة التي تقل الرئيس عبد الناصر على بعد أربعين أو خمسين متراً داخل الأراضي السورية، فنظر السرّاج إلى الرئيس شهاب وقال له: لقد وصل سيادة الرئيس عبد الناصر، ألا تود أن تستقبله يا فخامة الرئيس؟ فأجابه شهاب: لقد حطّت طوافة الرئيس عبد الناصر على أرضه، كيف لي أن أستقبله في بلده؟ ثم لا تنسَ أن سيادة الرئيس، قبل وصوله إلى السلطة، كان عقيداً أما أنا فلواء، وهكذا كان الإستقبال على الحدود بين البلدين، والإجتماع في خيمة نصفها في لبنان ونصفها في الجمهورية العربية المتحدة”.
وفي مشهد لا يقل أهمية عن نظيره الشهابي ـ الناصري، ويتعلق بتوتر العلاقات بين لبنان والسعودية في النصف الثاني من عقد الستينيات في القرن العشرين، فقد ذكرت صحيفة “الهدف” البيروتية بتاريخ الثامن والعشرين من شباط/فبراير 1967 أن “السعودية أنذرت لبنان في الأسبوع الماضي بتغيير سياسته الحالية وإلا اتخذت بحقه عدة إجراءات تأديبية، ومن ضمن هذه الإجراءات، طرد اللبنانيين العاملين في السعودية ومنع سفر الحجاج اللبنانيين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وسحب روؤس الأموال الموجودة في لبنان”.
كيف تعامل لبنان مع هذا الإنذار؟
بالإستناد إلى ما نشرته صحيفة “الهدف” أن الحكومة اللبنانية “أعلنت على لسان وزير الخارجية جورج حكيم، رفض لبنان للإنذار السعودي، وطلبت من السفير السعودي في بيروت أن يبلغ بلاده أن لبنان يلتزم الحياد ـ تجاه الرياض والقاهرة ـ ويجب على السلطات السعودية ان تحترم حياد لبنان وألا تجعله كبش محرقة كلما ساءت علاقاتها مع الدول العربية الأخرى، وفي لبنان حرية صحافة، والحكومة اللبنانية لا تستطيع منع أي صحيفة من التعبير عن رأيها ضمن القوانين المرعية القاضية بعدم المس بالملوك والرؤساء العرب”.
قال سليمان فرنجية بشكل حازم وجازم لخصوم سركيس الذين كانوا يصرون على إقالته من الحاكمية: الياس سركيس كان خصمي في انتخابات الرئاسة لكنه يقوم بواجبه في المصرف المركزي وليس لي مأخذ عليه، فلماذا يجب أن نغيّره؟
ذاك لبنان الذي كان، ماذا أيضاً عن الرجال ـ الرجال؟
ـ درس أول في مزايا الرجال:
يقول فؤاد بطرس في مذكراته “برزت امامي مشكلة إقصاء رئيس الجامعة اللبنانية فؤاد افرام البستاني والمدير العام لوزارة التربية فؤاد صوايا لأنهما من مناصري الرئيس كميل شمعون، وقفت في وجه هذا التيار، وتمكنت من إقناع الرئيس فؤاد شهاب بعدم إقالة البستاني وصوايا لأنهما يتمتعان بالكفاية والنزاهة”.
ـ درس ثانٍ في سمات الرجال:
كتب الأستاذ إميل خوري في صحيفة “النهار” في السابع عشر من آذار/مارس 2017 الآتي: “عندما خسر الياس سركيس معركة رئاسة الجمهورية بفارق صوت واحد أمام سليمان فرنجية، بقي في مصرف لبنان فيما كان كثيرون من خصوم الشهابية يريدون أن تشمل عملية التغيير ملاحقة ضباط المكتب الثاني وأركان العهد الشهابي، لكن الرئيس فرنجية لم يأخذ برأي خصوم سركيس، وقال بشكل حازم وجازم لخصوم سركيس الذين كانوا يصرون على إقالته: الياس سركيس كان خصمي في انتخابات الرئاسة لكنه يقوم بواجبه في المصرف المركزي وليس لي مأخذ عليه، فلماذا يجب أن نغيّره”؟
أخيراً؛ بيتان من الشعر:
ـ قال جرير:
ولقد عجبت من الديار وأهلها/ والدهر كيف يبدل الأبدالا.
ـ قال الفرزدق:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم/ ولا الدار بالدار التي أنت تعرف.
عشتم وعاش لبنان.