هل بدأ العصر الذهبي ليهود أمريكا بالأفول؟

يؤدّي تراجع الهوية اليهودية بين اليهود الأمريكيين إلى ضعف الروابط العاطفية والأيديولوجية لهم مع إسرائيل، مما يُهدّد مثلث القوة التقليدي الذي جمع، على مدى عقود، بين مجتمع يهودي شديد القوة داخل أمريكا، ودعم أمريكي شديد القوة لإسرائيل، ودولة إسرائيل تستفيد بشدة من نفوذ اليهود الأمريكيين.

ويخشى كثيرون أن يضعف هذا الاتجاهُ الدعمَ الرسميَّ الأمريكيَّ لإسرائيل. ويلخّص هؤلاء المفكرون مخاوفهم بالقول إن أمريكا تشهد حاليًا «حقيقة مزدوجة مزعجة»، إذ يتقاطع تآكل الهوية الدينية بين اليهود أنفسهم من جهة، مع تزايد العداء المجتمعي والسياسي لهم من جهة أخرى، فضلًا عن الانقسام الكبير بين يهود أمريكا. ويعرف المجتمع اليهودي الأمريكي حالة عميقة من الانقسام السياسي والثقافي، تظهر في الفخر بقوة إسرائيل المادية والتكنولوجية من جهة، ومن جهة أخرى الشعور بالعار والقلق من ممارساتها اللاأخلاقية والإجرامية.

***

ويُعدّ تراجع اليهودية كديانة وهوية ورابطة بين الكثير من اليهود الأمريكيين انعكاسًا واضحًا لتحولات ثقافية واجتماعية وسكانية أوسع تشهدها أمريكا. وتجسّد عدة ممارسات وظواهر هذا التراجع، ويأتي انخفاض المشاركة الدينية، سواء في حضور اليهود الصلوات أسبوعيًا مقارنة بما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمان، على رأس هذه الظواهر. ومع ميل الكثير من اليهود الأمريكيين إلى تبنّي العلمانية، وإعلان الكثير منهم الإلحاد بنِسَب أكبر من نظرائهم في الديانات الأخرى. كما دفع تزايد الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود إلى عدم الانتماء للأفكار والمعتقدات اليهودية بصورة عامة، وبصورة خاصة بين أطفال هذه الزيجات، مما يؤدّي إلى تراجع الالتزام الديني لليهود بصفة عامة.

يعيش 40% من الأطفال اليهود الأمريكيين حاليًا في بيت يضم أبًا أو أمًا من غير اليهود. ويثير الزواج المختلط مخاوف الكثير من المفكرين اليهود، وبخاصة مع ما أظهرته دراسة لمعهد «بيو» عام 2020 من أن أكثر من 42% من الزيجات اليهودية غير الأرثوذكسية تتم مع شركاء من ديانات أخرى، وأن نحو نصف الأطفال فقط في الأسر اليهودية يُربَّون وفق الثقافة الدينية اليهودية. ويرتبط بما سبق كذلك تراجع الاهتمام بالتعليم الديني اليهودي داخل العائلات اليهودية ذاتها، والابتعاد عن التعاليم الدينية الصارمة. ولا ينطبق ذلك على اليهود الأرثوذكس أو اليهود المتشددين، والذين لا تزيد نسبتهم على 15% بين يهود أمريكا البالغ عددهم ما يقرب من 7.5 ملايين شخص.

***

يرى مفكرون يهود تحركهم نزعة قومية صهيونية أن هناك تراجعًا كبيرًا في يهودية اليهود الأمريكيين، وأن لذلك تبعات شديدة الخطورة. ويخشى هؤلاء أن يؤدّي ذلك إلى تراجع الالتزام الصهيوني ودعم إسرائيل في صفوف اليهود الأمريكيين، بسبب الاهتمام الناشئ بالقضية الفلسطينية، خصوصًا بين أجيال الشباب الأمريكي بمن فيهم اليهود، وظهور نزعة نقدية لدى جيل جديد من اليهود تجاه إسرائيل وممارساتها، وتراجع فكرة دعم إسرائيل في صفوف التيار القديم داخل الحزب الديموقراطي، الذي بدأ يتجاوزه جيل جديد من اليسار، وانحصارها في صفوف الجمهوريين التقليديين، الذين بدأ يتجاوزهم هو الآخر اليمين الجديد، لاسيّما الداعم للرئيس دونالد ترامب وأجندة «أمريكا أولًا».

ويخشى قادة يهود أمريكا من تلاشي الارتباط بإسرائيل بين الأجيال الشابة اليهودية، وهي ظاهرة قد تكون لها تبعات بالغة الخطورة في السنوات المقبلة. وتشير أحداث كثيرة إلى أن اليهود الأمريكيين الشباب أقل تفاعلًا مع إسرائيل مقارنة بالأجيال السابقة، مثل تصويت ما يقرب من 40% من يهود مدينة نيويورك، الذين يقترب عددهم من مليون شخص، لعمدة المدينة المنتخب زهران ممداني، على الرغم من تبنّيه خطابًا شديد العداء للسياسات الإسرائيلية، واعتباره ما يجري بقطاع غزة بمثابة إبادة جماعية وحرب دائمة، مع تعهده بالقبض على بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي لو سافر إلى نيويورك امتثالًا لقرار المحكمة الجنائية الدولية.

***

تتغيّر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بشكل ملحوظ منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبرغم أن إدارتي الديموقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب لم تختلفا كثيرًا في دعم إسرائيل أثناء حربها على غزة، وما ترتب على ذلك من دمار هائل في القطاع مع سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فإن العلاقات بين واشنطن وتل أبيب تتحوّل ببطء في مسار مقلق لإسرائيل.

لقد تراجعت نسبة التعاطف الشعبي الأمريكي مع إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، وفشل اللوبي الصهيوني في وقف صعود شخصيات مثل زهران ممداني، برغم مواقفه المناهضة لسياسات تل أبيب. ولم يعد هذا اللوبي بالقوة نفسها التي تمتع بها في العقود السابقة، وهو ما أشار إليه ترامب حين قال في أيلول/سبتمبر الماضي: «كان لدى إسرائيل أقوى لوبي في الكونغرس، أقوى من أي شيء رأيته في حياتي، أما اليوم، فلم يعد لديها لوبي قوي». وبرغم أن تحذير ترامب جاء في إطار عام، فإن خسارة إسرائيل تتعمق بين أوساط الشباب، ولهذا السبب حذّر بعض المعلقين النافذين، ومنهم توماس فريدمان وفريد زكريا، من أن إسرائيل خسرت بالفعل جيل الشباب الأمريكي الحالي.

كما توضح استطلاعات الرأي العام أن التغيير في الأجيال قادم بصورة ستعيد تشكيل سياسة واشنطن تجاه إسرائيل، إذ يظهر الشباب من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري تشككًا في أخلاقية تقديم دعم أمريكي غير مشروط لإسرائيل وجدواه أساسًا من منظور المصالح الأمريكية. ومن هنا يرى مفكرون يهود أن اليهود الأمريكيين باتوا يواجهون انتقادات غير مسبوقة، سواء من اليمين الجمهوري كما هي الحال مع صعود نجومية تاكر كارلسون، أو من اليسار الديموقراطي كما هي الحال مع ظاهرة زهران ممداني، وأن العصر الذهبي ليهود أمريكا بدأ في الأفول.

إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": طريق نتنياهو إلى الرياض.. مسدود

***

في النهاية، لا يجب أن تدفعنا هذه الاتجاهات إلى الاحتفاء بوهم اختفاء اليهودية الأمريكية وتأثيراتها، لكنها تعكس إعادة تشكيل كبيرة جارية داخل يهود أمريكا بما قد يخدم المصالح العربية والفلسطينية إن أُحسن استغلالها وفُهمت تبعاتها.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  باريس وواشنطن: على لبنان عدم تفويت قطار الاستقرار.. والازدهار