أعادت الأم الكرَّة مرةً واثنتين وأخيرًا نجحت فأقامت حفلًا. بعد سنوات قليلة وتجارب كثيرة أغلبها مَرير، أدركت خطأ فكرتها وحمقَ المَساعي التي بذلتها؛ فالنتيجة لم تكن مُبهرةً بأيّ حال، والولد مثله مثل الآفِ الأطفالِ في مُختلَف المَدارس التي تُعدُّ أقلّ سُمعة وشُهرَة؛ يتعلمون كقطيع واحد، ويشبُّون على سُلوكياته، ولا يجدون ما يحرضُهم على البحثِ والتفكير.
***
المَسعَى اسمُ مكان من الفعل سَعي، الفاعل سَاعٍ والمفعول به مَسعيٌّ إليه وبه، والمصدر سَعْيٌ بتسكين حرف العين. السَّعي “في” أمر ما يُوحي بالانخراط وسط تفصيلاته، بينما السَّعي “له” يشير إلى مسافة أبعد قليلًا. إذا سَعى واحدٌ للآخر في حاجتِه؛ فقد عملَ على إتمامَها، وإذا سَعى إلى هدفه؛ فقد بذل الجَّهد لتحقيقه، أما إذا غامَر بحياته؛ فكأنما سَعى إلى حتفِه.
***
في كلّ مَصلحة ساعٍ؛ مُهمَّته أغلب الأوقات أن يأتيَ بالمشروباتِ والمأكولاتِ للعاملين بالمكان، قد ينقل أيضًا الأوراق بين المكاتب، أو يمارس بعض الأعمال الإضافية بمُقابل. مِهنةُ السَّاعي ليست مُحدَّدة المعالم على طول الخط؛ لكن غيابَه مُؤثر ولا شكّ؛ إذ الحرمان مِن كوبِ الشاي أو فنجانِ القهوة المعتاد، يُشوش تركيزَ مَن ألفهما مِن الناس ويقُضُّ المزاج، بل ربما أربك مَسارَ العمل. إن غابَ المدير فمناسبة سَعيدة للمرؤوسين، وإن غابَ السَّاعي فيومٌ مُزعجٌ وكئيب.
***
احتل ساعي البريد موقعًا اجتماعيًا مُثمنًا في الأزمنة الماضية؛ حينما كانت الرسائلُ الخطيَّة والجوابات المُسجَّلة المطبوعة وسيلةَ التواصُل الأولى وربما الوحيدة. انتظر الناسُ البوسطجيَّ حاملًا معه الخبرَ اليقين؛ إشارةَ اطمئنانٍ على مُسافر، أو بشارةً بقادمٍ سعيد، أو ربما إعلانًا بحدثٍ جَلل. شارفت المِهنة على الانقراض شأنها شأن مِهَن كثيرة لم يعد أحدٌ في حاجة إليها؛ مع هذا لم تزل المكاتباتُ الوَرقيَّة تحظى بدورٍ أساسيّ ورئيس في بعضِ البلدانِ الغربية؛ حيث يتلقى المواطنون المُراسلات الرسَّمية عبر صُندوق البريد، وللسَّاعي مكانته المَحفوظة في توزيعِ الأظرفِ والإخطاراتِ على أصحابها.
***
يُستخدَم مُصطلح “المَساعي الحَميدة” في العلاقات الدولية لوَصف الجهود التطوعية التي يقوم بها طرف ثالث؛ بُغية توفيق الأوضاع وحلّ النزاعات المُستحكِمة بين أطرافٍ أخرى. الأعمال الدبلوماسية المَبذولة في هذا الإطار هي مَساعٍ مُثمَّنة لا غِنى عنها؛ شريطة أن تتسَم فعليًّا بالحياد، وألا تحابي طرفًا على حساب آخر، وذاك مِما ندر وربما اختفى في زمننا هذا من الوجود؛ فالمَصالح باتت حاكمةً لما دونها، وقد راحت المَكاسبُ المُنتظَرة تجُّب مبادئَ الإنسانية وأعرافها.
***
دَرجنا على استخدام عبارةِ “سَعيكم مَشكور” كردّ سَهل مألوف، يتلقاه مَن حَضَرَ للمواساة في فقيد. لا يمنع هذا التخصِيصُ من أن يَسعى الواحد للمُجامَلة في حفلِ خطبة أو زيجة، وربما للتهنئة بترقية أو عيد ميلاد؛ مُستحقًا بالمثل الشُّكرَ والتقدير. تقديمُ العزاءِ ومُساندة المكلوم عملٌ مَحمُود ومُقدَّر نظرًا لطبيعة المَوقِف؛ لكن السَّعيُ المَشكور يتَّسع بعناه ليشمل المناسبات غير الحزينة، والظنُّ أن العادات الكلامية المُتوارَثة قد ربطته في الأذهان بالنوازِل والملمَّات.
***
لبعضِ الناسِ مكانة تُيسر لهم أن يُنجزوا للآخرين ما تعسَّر؛ يَسعون لهم عند من امتلك السُّلطة والنفوذ، وينالون في العادة المُراد. الوَساطة في حقيقتها فعلٌ من أفعال التحايُل المَذمومَة؛ لكن انسدادَ السُّبل الطبيعية أمام سالكيها يدفعهم نحو القادرين على فتحها بأيّ وسيلة. مؤسفٌ أن تصبحَ القاعدةُ ظلمًا عامًا بينما العدل مَرهونٌ باستثناء. مؤسفٌ أن تُمسي الحقوقُ بمنأى عن صاحبِها، وأن يُضطرَّ لانتهاج الوسائل الملتوية ساعيًا لاستردادها. تلك أحوال يتفشَّى فيها الإحساس ُبانعدام الأمان، ويسعى كلُّ امرئٍ لتحصين نفسه وذويه واتخاذ الأسباب التي تضمن له التفوق والسيادة؛ ولو تعدَّى على ما استقرَّ من أعرافٍ وقوانين.
***
ثمَّة من يَسعى في الخَير، ومن يَسعى في الأذى والشرّ، وكذلك من يَسعى في الأرض، ويَجوبُها بحثُا عن الرّزق. السَّعي بغضّ النظر عن هدفه نشاطٌ محمومٌ وإقبال، مواصلته بدأب وإصرار تُمنَى في المُخيلة السَّوية بنتيجة مُرضِية، والحِكمة التي حفظناها في الصّغر تؤكد أن من جَدَّ وَجَد، وأن الحصادَ أكيدٌ طالما زرع الواحد منا أرضَه ورعاها؛ لكن الارتكان إلى ما استقر في الضمائر والأذهان لم يعد صالحًا لأواننا هذا؛ إذ ثمَّة من يجتهد فتخذله الأوضاع التعسة، ومن يرمي البذور دون أن تُنبِت ساقًا أو ورقة. على أي حال قد يتأخر المَردود الطيبُ حتى يَغلب الظنُّ بأنه وهمٌ، وقد يظهر فجأة فيُجدّد اليقينَ ويُطبِب الكُّسور.
***
تقول معاجمُ اللغةِ العربية: إذا سَعى المَرءُ على قومِه فقد تولى أمرَهم؛ والقصد أنه حَمَل مسئوليتهم وصار بما ارتضى مَوضِعَ حِسابٍ ومؤاخذة؛ فإن أهمل في مُهمته أو عرَّضهم لكربٍ أو أذى؛ كانت عاقبتُه سيئة. السَّاعون إلى تبوأ مقاعد السُّلطة، المتناحرون في سبيل انتزاعها؛ لا يعتقدون أغلب الأحيان أنهم قد يخفقون؛ إذ يرون في ذواتهم مُقومات عظيمة وصفاتٍ رائعة، وقُدراتٍ لا تُضاهَى ولا يمكن للآخرين منافستها. يجلب هؤلاءُ لشعوبهم ما يَندى له الجَّبينُ، ويُلام في نهاية الأمر الطرفان؛ الحاكمُ على رعونته وصَلفِه، والمَحكومُ على سذاجته واستكانته وضعفه.
***
المَسعَى مُوفَّق ما حقَّق السَّاعي غرضَه وأنجز ما يريد؛ فإن فشل قيل: قد خاب مسعاه. خابت المساعي جميعها في وقف أعمال القَّصف والهَدم والدكّ التي يمارسها جيشُ الاحتلال على أرض فلسطين؛ اجتماعات مُصغَّرة يمضي الواحد منها في ذيل الآخر، ومؤتمرات تضمُّ ما تيسر من قادة العالم، وقرارات تصدر عن منظمات دولية ومؤسسات أمَمِية؛ تذهب هذه وتلك هباءً وتبقى الحقيقةُ الوحيدةُ الناصِعَةُ على الأرض؛ يستحيل ضحدها أو تفنيدها: الحريَّة لا تُؤخذ بغير القوة والسَّعيُ لانتزاعها شرفٌ، أما انتظارها كمنحةٍ أو هبة؛ ففعلُ الضُّعفاء المُهتزين. تلك حقيقةٌ يعرفها المقاومون ويحفظها الصامدون؛ بينما ننكرها ونتنصَّل منها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
