المَزْرَعَة

فى نقاش لاح بلا جَدوى تطرَّق بعض الأصدقاء والصَّديقات إلى عملية إحلال وإبدال غير مَفهومة؛ اجتُثَّت فيها الأشجار من الشوارع، وظهر مكانها النخيلُ الذى تمادى فى الانتشار هنا وهناك؛ فأقيمت له مزارع مُتخصّصة فى بعض المُحافظات وعلى الأطراف، وبثَّت القنواتُ التليفزيونية المُتضامِنة إعلانات تدعو المُشاهدين إلى التصدُّق بثمنِ نخلة، كما نقلت صورَ المَساحات المَزروعة بالفعل؛ شاسعة ضخمة.

 قال أحد المتسامرين إن المزرعةَ المُنتِجة للتمُور مشروع لا بأس به، يُمكن إخضاعه للدراسة والتقييم؛ لكن المبالغة في تعرية الشوارع تبقى علامة استفهام أكيدة؛ فظلُّ النخلةِ شحيحٌ مَحدود، فيما ظلالُ الشجرة الوارفةُ مَديدةٌ طَيبة، تحمي السائرين من الحرارة لمسافات واسعة، وتلطف الجوَّ، وتُزيد من نسبة الهواء النقيّ مُقابل العوادم والأدخنة. الأشجار مُلائمة لبيئتنا، بينما الرغبةُ المُلحَّة في التشبُّه بالبيئات الصَّحراوية أمر عجيب.

***

‎المَزْرَعَة اسمُ مكان من الفعل زَرَع، الفاعلُ زارع والمَفعول به مَزروع، والمصدر زَرْع بتسكين حرف الراء. المُزارِع بضم حرف الميم هو الفلاح القائم على شئون الأرض، أما المَزارِع بفتح حرف الميم فأشكال وأنواع، وأحجام أيضًا؛ بعضها مُغلق على أصحابه والعاملين فيه والبعض الآخر مفتوح الأبواب، يستقبل الزوار كضَربٍ من ضُروب التسلية والترفيه؛ يوفر لهم المناخ النقيَّ، والطعامَ التراثيَّ الشهيَّ من عسلٍ وقشدة وفطير، كما ينظم جولاتٍ في المكان للاستمتاع وسَط الطبيعة التي افتقدها أغلبُ الناس.

***

تقع أشهر مَزارعِ العنَب في مُحافظة الغربية، وتَحوُز مِصر المركزَ السَّادس تقريبًا في إنتاجِه على مُستوى العالَم، بينما تحتل الصين المركزَ الأول عن جدارة تليها الهِند، وأما عن ترتيبِ الدُّول المُنتِجة للنبيذ؛ فتجيء إيطاليا في المُقدمة، تعقبُها إسبانيا ثم فرنسا.

***

تُعَد المَزرعةُ جزءًا من الفحوصَات والتحاليل. هي بدورها مكانٌ؛ لكنه مَوجود داخل المَعامل، ومُعَد لاستيلاد البكتيريا والميكروبات التي يحتاج القضاءُ عليها إلى مُركَّبات كيميائية ذات مُواصفات مُحدَّدة؛ فرغم اختراع المُضاداتِ الحيويَّة واسعة المدى التي تطالُ أغلبَ الكائنات الدقيقة؛ إلا أنها فعلها قد يبقى معطلًا لأسباب مُعقَّدة، منها ضَعف القُّدرة على الوُصول إلى مَوطِن الإصابة.

***

نشَر جورج أورويل روايته “مزرعة الحيوان” في منتصف أربعينيات القرن العشرين، وقد تحوَّلت إلى أيقونة عصريَّة صالحة لأزمنة عديدة وشاهدة على آلياتِ الانحراف وأساليب القمع التي تُمارَس في شتَّى أنحاء العالم. هي أيضًا إحالة مُهمَّة لكيفية إعادة إنتاج نُظم القهر والفساد حتى بعد الثورة عليها، وقد حازَت الروايةُ مراكزَ مُتقدمة في قوائم الأفضل، كما ظلت مُتداوَلة إلى يومنا هذا على نطاق واسع.

***

أعلن المَسؤولون الانتهاءِ من إقامة مَزارع سَّمكية ضخمة، وتداولت وسائلُ الإعلام الأنباءَ كفتحٍ مُبين، وتوسَّم الناسُ مع إطلاقِ خطوطِ الإنتاج الجديدة، أن يكثُرَ المَعروضُ وأن تصبحَ المأكولاتُ البحريَّة اختيارًا أولَ بعدما باتت اللحومُ الحمراءُ والطيور من المُستحيلات؛ لكن هيهات. تصاعدت الأسعارُ بصورة غير مَسبوقة وخرجت الأسماكُ من قوائم طعام مُتواضِعي الحالِ؛ مثلها مثل غيرِها من سِلع ومُنتجات، ولم يكُن من تفسيرٍ مقبول.

***

تناولت المَواقع والصُّحفُ خبرًا طريفًا، حول إقبالِ المواطنين في السّويد على زرعِ رقائق إلكترونية تحت جلودهم؛ تسهيلًا لبعضِ الإجراءات اليوميَّة مثل الدَّفع الإلكترونيّ، والدخول من الأبواب المُشفَّرة، والحصُول على تذاكرِ المُواصلات العامة وغيرها من مُعاملات. الشَّريحة المَزروعة في حجم حبةِ الأرز، يتأتى إدخالها عبر مَحقَنٍ دقيق ويُقال إنها آمنةٌ وألا خطورة صِحيَّة منها؛ لكن الأمر لا يتوقف عند مسألة الأمان، فثمَّة أسئلةً أخرى مَطروحة، وعلى سبيل المثال: هل يُسفِر إنهاءُ المَهامِ والطقوسِ الحياتيةِ بهذه الطريقة السَّهلة عن سعادةٍ حقيقية؟ هل يغدو اكتفاءُ الفرد المُتزايد بذاته؛ نمطَ مَعيشةٍ مُشبِع ومُحقّق للرضاء؟ وهل يؤدي اختزال الوقت المُتاح للتواصُل مع الآخرين؛ إلى شعور فعليّ بالانتصار؟ الظنُّ أن الإنسانَ مَفطورٌ على التواصُل مع مُحيطه، كلما تضاءلت فُرصُ تفاعلِه الاجتماعيّ؛ كلما انحشر في مساحةٍ ضَيقةٍ كئيبة، وكلما ازدادَ انعزالُا؛ كلما اختنقَ بفضلاتِه.

***

إذا دخل شخصٌ إلى مكان ما، وراح ينقلُ أخبارَ المَوجودين فيه؛ قيل إنه جاسوسٌ مَزروع وَسطهم، وإذا لم يُخفِ الأمر عنهم؛ صار الوَصفُ غير دقيق، فالجاسوسِيَّة تتطلبُ التنكُّر والحِيطة، والأدقّ في هذه الحال استخدام مُصطلح “عصفورة” الذي توافَق عليه أغلبُ الناس. الشَّخصُ العصفورة مَعروفٌ للمُحيطين به؛ يَغيرون مَوضوعَ الحديث ما حلَّ بينهم، ويتغامزون ما لمَحوه قادمًا ويتلامزون بحقيقته؛ بينما يسعَد بحذرِهم منه ويألف وظيفته؛ بل وقد يتباهى بها.

***

تطوَّر العلمُ فتمكَّن العلماءُ من زَرع الأسنان في الفَم الخاوي، والحقُّ أن للأساليب الحديثة فضلًا كبيرًا على مَن تاقوا للمَضْغ والقَّضم بدلًا من الاستحلاب والامتصاص، وكذلك على مَن ساءَهم خلوُ رؤوسِهم من الشعر؛ إذ لبُصيلاته أيضًا من الزَّرع نَصِيب. في إحصاءِ من تعرَّضوا مِن أبناء وبنات فلسطين لفقدانِ أذرعِهم وسيقانهم؛ صَدمةٌ يَصعُب تجاوزها، الأعداد مُخيفة والإصابات شديدة تهتز من روعِها الجبال، وإذا كان تعويضُ الأطراف عبر زراعة أخرى مُمكنًا؛ فإن تعويضَ الثقةَ المَتداعية فيمَن أغمضوا أعينهم عن المأساة وتجاهلوها، فضلًا عمن دعَّموها بصورة أو أخرى؛ أمر مُستحيل قد لا تنجزُه الدُّهور.

***

إقرأ على موقع 180  تحليل نتائج إنتخابات البقاع الغربي وراشيا.. إنكسار "الثنائيات" (2)

تقول الحِكمةُ القديمة: من جدَّ وَجَد ومَن زرَع حَصَد. بعض الأحيان يحصد مَن لم يزرع، ويجني مَن لم يبذل الجهد. يحدث هذا في سياقاتٍ جائرة، وفي عهود يتَّسِم حكامُها بالضّعة واستطابة الظُّلم وتغليبِ المَصلحة الشَّخصية على العدالة. يَحدث؛ ولا يملِك الناسُ منه فكاكًا، إلى أن يبلغَ السَّيلُ الزُبى، وتصبح المعادلةُ صِفرية؛ الفعلُ أو المَوت.

***

إذا وقع الواحد زَرْع بَصَل؛ فكناية عن طبيعةِ الوقوع، الرأسُ إلى أسفل وأقرب إلى الأرض من بقية الجَّسد، كرأس البَصَلة المَوجود في الأرض، فيما الأوراقُ الخضراء تطلُّ بأعلى. قد يتسبَّب الوقوع على الدماغ في إصاباتٍ جسيمة؛ ربما يرتجُّ المخُّ وتضطرب الذاكرةُ ويفسد التركيزُ؛ فتختلط المَعاني والكلمات، وعلى كل حال ثمَّة من تظهر عليهم هذه الأعراض دون سقوط، وثمَّة من تحلُّ رؤوسُهم مكانَ أقدامِهم دون أن يتعرَّضوا لحوادث انزلاق أو غيرها؛ يُردّدون كلامًا متناقضًا وربما غير مَفهوم، ويرتكبون خطأ عقب آخر غير مُدركين، ويبدون في نهاية الأمر مُتبلدين إزاء فعيلهم، وبعضهم من يَجد لشديد العَجب أتباعًا ومُريدين، وقد ابتلتنا الأقدار ببعض هؤلاء ولم نزل في دوامات الهذي غارقين.

(*) بالتزامن مع “الشروق

 

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  المَنْشَأ