حزب التحرير في لبنان.. خطاب الخلافة ضمن هامش مضبوط

تناولنا في الأجزاء السابقة مواضيع الإسلام السياسي السني في لبنان، والحضور السلفي في المشهد اللبناني، وتناولنا نماذج الجماعة الإسلامية في لبنان وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش). في هذا الجزء السادس والأخير نتناول ظاهرة حزب التحرير لبنانياً.

يُمثّل حزب التحرير في لبنان حالة سياسية وفكرية تستحق التوقّف عندها في سياق الحركات الإسلامية المحلية، نظرًا لاعتماده خطابًا أمميًا يتجاوز حدود الدولة اللبنانية، مع سعيه في الوقت نفسه إلى العمل داخل هامش قانوني وإعلامي متاح. فالحزب، الذي يقدّم مشروع الخلافة بوصفه بديلًا شاملًا للنظام الدولي الحديث، يجد نفسه في لبنان أمام واقع مركّب تحكمه اعتبارات طائفية ودستورية وأمنية دقيقة، ما يفرض عليه صيغة عمل علنية محسوبة، لا تصل إلى حد الاندماج في المؤسسات الرسمية ولا تنزلق إلى العمل السري. وبذلك، يصبح حضوره مدخلًا لفهم كيفية اشتغال خطاب الخلافة ضمن بيئة سياسية ذات حساسية عالية تجاه أي طرح يتجاوز الدولة، مع التركيز على تراكم الدور الفكري بدل السعي إلى نفوذ مباشر ضمن بنية النظام القائم.

يطرح حزب التحرير نفسه حركة سياسية عقائدية تأسّست في القدس عام 1953 على يد القاضي تقي الدين النبهاني. ومنذ انتقال دوائره إلى لبنان في منتصف القرن العشرين، راكم الحزب حضورًا محدودًا لكنه ثابت داخل شرائح اجتماعية معيّنة، ولا سيما في المدن السنية. وانطلاقًا من رؤيته العابرة للحدود، يقدّم مشروع الخلافة على منهاج النبوّة بديلًا عن الدولة الوطنية وحدودها القطرية، ما يجعله يتعامل مع لبنان بوصفه «قطعة من أرض الأمة» لا دولة نهائية. ومن هنا يتحدّد خطابه وسلوكه التنظيمي بين الإقناع الفكري والعمل العلني ضمن هوامش النظام ىالطائفي القائم.

وانطلاقًا من هذه الخلفية، يتحرّك حزب التحرير في لبنان ضمن هامش علني نادر مقارنةً بدول عربية أخرى؛ إذ ينظّم ندوات وفعاليات ويصدر بيانات عبر مطبوعات ومنصّات رقمية. غير أنّه يرفض المشاركة في الانتخابات أو الاعتراف بشرعية النظام الطائفي، ويُقدّم نفسه تيارًا «فوق طائفي» يسعى إلى تجاوز الاصطفافات المحلية. وبالتالي، يتحرّك في مساحة قانونية رمادية؛ فهو ليس محظورًا بالكامل ولا هو جزء من اللعبة المؤسسية. وفي المقابل، يُحاط نشاطه بسجال سياسي وإعلامي دوري، حيث تُوجَّه إليه أحيانًا اتهامات بتبرير العنف، فيما يؤكّد هو التزامه العمل السلمي داخل لبنان ونبذ تشكيل أي جناح مسلّح.

نظام الخلافة

فكريًا، ينطلق حزب التحرير من تصوّر يعتبر القومية والدول الوطنية نتاجًا استعماريًا، ويرفض الديموقراطية بوصفها «حكم البشر»، في مقابل طرح «حكم الله» عبر نظام الخلافة المستند إلى النصوص الشرعية. وعليه، يركّز على تكوين عقلية سياسية إسلامية لدى أعضائه ومناصريه أكثر من التركيز على التربية الروحية أو العمل الخدماتي. وإلى ذلك، يتبنّى «الصراع الفكري والسياسي» السلمي كوسيلة تأثير أساسية، معتمدًا حلقات تثقيف منهجية، وشبكات دعوية محدودة، وحضورًا في بعض الجامعات والمعاهد الشرعية. وبالموازاة، يوظّف أدوات التواصل الرقمي لتوسيع نطاق التأثير وتثبيت سرديته في القضايا الإقليمية والمحلية.

تنظيميًا، يتدرّج عمل حزب التحرير عبر ثلاث مراحل متتابعة ترتبط بعضها ببعض: أولًا، مرحلة التثقيف لإعداد أفراد مؤمنين بفكره من خلال حلقات منتظمة ومواد مؤصّلة. وثانيًا، مرحلة التفاعل مع المجتمع لتكوين «رأي عام واعٍ بالإسلام» عبر البيانات والخطب والوقفات الاحتجاجية، وقد ظهرت هذه الممارسة في طرابلس وصيدا والبقاع، ولا سيما في قضايا فلسطين وسوريا والرسوم المسيئة للنبي محمد. وثالثًا، مرحلة تسلّم الحكم التي تفترض تبنّي «الأمة» للحزب ومنح «أهل القوة» له السلطان؛ وهي تبقى طرحًا نظريًا في الحالة اللبنانية، إذ يرفض الحزب الانقلاب المحلي ويؤكّد أنّ لبنان، متى قامت الخلافة، سيكون جزءًا من سلطانها العام. وهكذا تتحدّد استراتيجيته على المدى البعيد بوصفها تراكمًا فكريًا لا حسمًا ميدانيًا.

الحزب والدولة

وماذا عن علاقة حزب التحرير مع الدولة؟

تتجسّد هذه العلاقة في معادلة مزدوجة قوامها حرية نسبية للنشاط الدعوي مقابل رقابة أمنية انتقائية. من جهة، لا يشارك الحزب في البرلمان ولا في المؤسسات التنفيذية أو البلدية، مكتفيًا بمحاولة التأثير عبر الخطاب التبليغي وتنظيم الفعاليات. ومن جهة أخرى، تراقب الأجهزة الأمنية أنشطته، وتقوم أحيانًا باستجوابات أو توقيفات عند الاشتباه بمخالفات أو مخاطر على النظام العام. كما يدور حوله سجال إعلامي وسياسي داخل لبنان وخارجه، يُستخدم فيه معيار «حماية النظام العام» لتبرير إجراءات الدولة. ومن ثمّ، يتأرجح حضوره بين مساحة حركة مضبوطة ومراقبة أمنية محسوبة تعكس حساسية المشهد الطائفي.

وعلى الرغم من انتظامه الداخلي وحضوره الإعلامي، لم يتحوّل حزب التحرير إلى قوة جماهيرية واسعة. ويُعزى ذلك إلى خطابه التجريدي وصعوبة ترجمته إلى مطالب يومية ملموسة، فضلًا عن رفضه المبدئي للعمل الانتخابي الذي يحرمه من شرعية تمثيلية وقنوات نفوذ محلية. وإلى جانب ذلك، يتنافس مع تيارات إسلامية أخرى على القاعدة الاجتماعية ذاتها، بينما يرفض التحالف مع الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الجماعة الإسلامية بدعوى «مشاركتهم في أنظمة كافرة». كما يصطدم أحيانًا بالمؤسسات الدينية الرسمية والمجتمع المدني والإعلام، ويتكرّس في المقابل انطباع عنه كتيار أيديولوجي جامد. وبذلك، ومع أنّه يقدّم نفسه فوق طائفي، تبقى حاضنته الأوسع عمليًا في البيئة السنية المتذمّرة من الانكفاء السياسي، ما يزيد من محدودية تمدّده خارجها.

إقرأ على موقع 180  المرض ليس حزب الله.. إنّه النظام الطائفي!

الثورة الحقيقية!

اقتصاديًا، يقترح حزب التحرير منظومة بديلة تستند إلى أحكام الشريعة، من تحريم الفائدة إلى إعادة توزيع الثروة عبر بيت المال وآليات الزكاة والملكية العامة للثروات الكبرى، سعيًا إلى عدالة اجتماعية. وفي السياق اللبناني، يُوظَّف هذا الطرح لنقد الرأسمالية والفساد، ولإبراز فشل الدولة الطائفية في إدارة الانهيار المالي. وبعد انتفاضة تشرين 2019، حاول الحزب استثمار تراجع الثقة بالمؤسسات للترويج لرؤيته كنظام شامل، مطلقًا شعارات تعتبر «الثورة الحقيقية» ثورة على الطائفية والديمقراطية. ومع ذلك، ظل حضوره محكومًا بحساسية الساحات وتوجّس شرائح مدنية من الأطر الأيديولوجية الصلبة، ما حدّ من قدرته على تحويل اللحظة إلى قاعدة نفوذ أوسع.

إقليميًا، ومع تطوّر الحرب في سوريا وتصدّع بعض الأطر القومية، رفع حزب التحرير منسوب خطابه العابر للحدود، معتبرًا أنّ التحوّلات تفتح نافذة لإعادة طرح مشروع الخلافة. غير أنّ الواقع اللبناني، القائم على توازنات طائفية دقيقة ومخاوف متبادلة، يجعل أي سردية تتجاوز الدولة الوطنية موضع ريبة مزمنة. ولذلك، يراهن الحزب على تراكم الوعي لا على الحسم الميداني، وعلى تأثير الخطاب لا على المشاركة المؤسسية.

وفي المحصّلة، يبدو أنّ استمرار التوازن القائم بين حرية نسبية لنشاط حزب التحرير ورقابة أمنية انتقائية سيبقى رهن عاملين متلازمين: مسار الأزمات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، ومدى انتقال نشاط الحزب من المجال الفكري الدعوي إلى أشكال قد تُعدّ تهديدًا مباشرًا للأمن العام أو لقاعدة العيش المشترك في بلد شديد الحساسية الطائفية والسياسية.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عندما يقف نصرالله على أرض التناقضات اللبنانية