يحاول هذا المقال أن يقرأ ذلك، بدءاً من مساءلة فكرة أو مقولة فلسطين كـ”قضية مركزية” بالنسبة للعرب، وبأي معنى؛ وكيف تراجع الاهتمام بالصراع مع إسرائيل وبالمقاومة، وهل أعادت حرب غزة فلسطين “قضية مركزية” حقاً؟
نالت قضية فلسطين تأييداً ودعماً كبيرين في المنطقة والعالم. وخاصة إبان الحرب الباردة والقطبية العالمية. وغالباً ما كان الدعم لأسباب لا تتعلق بفلسطين مباشرة، وإنما بالموقف بين الغرب والشرق، وخاصة مواقف المناهضين لأمريكا، والمؤيدين لحركات التحرر الوطني. وهذا يفسر – مع عوامل أخرى – تراجع الدعم والتأييد لفلسطين عندما انهار الإتحاد السوفياتي وتراجع اليسار في العالم.
والواقع، أن قضية فلسطين كانت موضوع دعم من جهة، وصراعاً من جهة أخرى، ولعل الصراع كان الأغلب، وخاصة في المنطقة العربية. اختلف العرب على من تَهُمُّهُ القضية أكثر، ومن الذي يحقُ له رفع لوائها أكثر من غيره. ودفعت “المزاودات” و”المنافسات” الأطراف العربية إلى المبالغة في الحديث عن القضية وإكسابها، لفظياً وبلاغياً أساساً، مقام الأولوية في السياسات. وأعلنها جميع العرب تقريباً “قضية مركزية”. وأخذ كل طرف يتدبر أمره معها على طريقته. وحدث استقطاب حاد على خلفية الموقف والرؤية من الصراع.
لقد صَحَّحَ حدثُ غزة جانباً من المدارك الشائعة عن تراجع الاهتمام بالصراع مع إسرائيل، حتى بين الفلسطينيين أنفسهم. وأظهر – إلى حد ما – أن الشعوب العربية لديها قابلية وبداهة الاهتمام بالقضايا الأساسية والعناوين الكبرى، ولو أن ذلك لم يحصل – حتى الآن – على قوة الدفع اللازمة بما يُمكّن من عودة فلسطين “قضية مركزية”
حاولت التنظيمات والفصائل الفلسطينية الإفادة من تناقضات الصراعات العربية على “الإمساك” بالورقة، من أجل الحصول على ريوع سياسية ومادية. وبالطبع ضخ تلك الموارد في الصراع ضد إسرائيل، ولكن غالباً ما كان يحدث ذلك (أي ضخ الموارد) في المنافسات والصراعات الفلسطينية-الفلسطينية، وإلى حد ما العربية-العربية، باعتبار أن المنظمات الفلسطينية كانت تتخذ أحياناً مواقف إلى جانب هذا البلد العربي أو ذاك في أمور لا تتصل مباشرة بالصراع مع إسرائيل أو بقضية فلسطين. ولا شك أن جانباً من التمويل كان هدفه خلق المزيد من الانقسام بين الفلسطينيين.
لذلك يبدو السؤال: هل عادت القضية الفلسطينية قضية مركزية، مشروطاً بسؤال آخر سابق: هل كانت القضية الفلسطينية هي “القضية المركزية” للعرب فعلاً، باعتبار ما كان منهم حيالها خلال عدة عقود؟
يبدو أننا قدمنا بكلام يُحدّد خط الإجابة، وأوردنا الجواب قبل السؤال. والجواب هو بالقطع: لا.
لم يضع العرب قضية فلسطين في موضعها المناسب في تقديرات السياسة الفعلية لديهم، ولم يخصّصوا لها الموارد المناسبة، بوصفها “قضية مركزية”. ولا يُغيّر من ذلك حجم الاهتمام الإعلامي والسياسي، وحتى المساعدات المالية. وغالباً ما كانت الأخيرة سبباً للمزيد من “التنافس والشقاق”، و”التطويع والتهجين”، وبالطبع “الفساد” داخل المنظمات والفصائل.
قضية فلسطين هي “قضية مركزية” من حيث بداهات السياسة، لكنها غالباً ما كانت “ورقة” و”إدعاء” أكثر منها قضية فعلية، حيوية ووجودية بالنسبة لعدد من فواعل السياسة والحكم في المنطقة العربية. الجميع تقريباً إدعى “أُبُوَّة” ما أو “دوراً أبوياً” في القضية، لكن ليس لأمر يخصها بالذات، بما هي قضية شعب عربي وأرض عربية تحت الإحتلال. وإنما لـ”الامساك بالورقة” ومنع الآخرين من “استخدامها”. ولو أن العرب ليسوا سواء في ذلك، وثمة من قدّم الدماء والموارد من أجل فلسطين. وهذا باب فيه كلام كثير.
مضت سنوات طويلة، من دون تحقيق تقدم مهم في تدبير الصراع، بل زادت مشقة التفكير في الموضوع، وأحياناً مجرد استمرار الحديث فيه. وتراجع الاهتمام بالقضية إلى مرتبة أدنى في شواغل الناس وأجندة السياسات في الإقليم، ما خلا استثناءات قليلة، بما في ذلك العرب أنفسهم، الذين أصبحوا أكثر انقساماً حيال ما يجب فعله. وحدث شيء من ذلك بين الفلسطينيين أنفسهم.
ولاحقاً، ركّز بعض البلدان العربية جهوده من أجل “تحييد” القضية، حتى لا تكون عائقاً أمام علاقاته مع أمريكا وبالطبع إسرائيل. حدث ذلك بشيء من التشفي والانتقام، من الحركة الوطنية الفلسطينية، واصطفافاتها وإزعاجاتها السابقة! وشيء من التعجل، انتهازاً للفرصة، وسعياً لـ”تكييف” القضية، قُلْ: “تفكيكها”، قبل أن يحدث أمر ما في الإقليم والعالم، وتخرج فواعل تعيدها إلى وضعها المركزي في أجندة الإقليم (والعالم).
والآن، مع “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والحرب التي تلته، برز اهتمام عربي وإقليمي وعالمي بقضية فلسطين والصراع مع إسرائيل، وخاصة على صعيد الرأي العام، الأمر الذي عزّز التقديرات بأن قضية فلسطين تعود إلى واجهة السياسة العربية والإقليمية والدولية، وأن اهتمام العرب والمسلمين مثلاً، ونعني اتجاهات الرأي العام ومواقف التيارات والفواعل المناهضة للغرب وإسرائيل، يُعزّز فرضية عودتها “قضية مركزية” لدى العرب.
قد لا يُدشّن حدث غزة المستمر منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر عودة فلسطين إلى موقعها المركزي بالنسبة للعرب، حتى لو كانت – في جانب كبير منها – عودة بلاغية وصورية، إن أمكن التعبير، إلا أنه “فتح باب الإمكان”، وهو إمكان مشروط بـ”حسن التدبير” من قبل الفلسطينيين، وتوافر بيئة عربية (وإقليمية) داعمة. وهذه أمور قد لا تكون مُيسّرة باعتبار الظروف في يومنا هذا.
لقد صَحَّحَ حدثُ غزة جانباً من المدارك الشائعة (كانت مستقرة تقريباً!) عن تراجع الاهتمام بالصراع مع إسرائيل، حتى بين الفلسطينيين أنفسهم. وأظهر – إلى حد ما – أن الشعوب العربية لديها قابلية وبداهة الاهتمام بالقضايا الأساسية والعناوين الكبرى، ولو أن ذلك لم يحصل – حتى الآن – على قوة الدفع اللازمة بما يُمكّن من عودة فلسطين “قضية مركزية”.
وهكذا، يُمكن القول إن حدث غزة كان “شرطاً لازماً، ولكنه غير كافٍ”. وقد أظهر المقاومون – حتى الآن – جدارة كبيرة في إثبات أحقية وأهلية الفلسطينيين في الصراع، لكن ذلك – على أهميته وفرادته – ربما لم يقع موقعاً مناسباً لدى كثير من فواعل الفكر والسياسة في فلسطين والعالم العربي.