المَنجَى اسمُ مكان من الفعل نجا، وهو المَوضع الذي يلوذ به المرء من سوء يلاحقه، الفاعل ناج والمفعول مَنجوٌّ، أما المصدر فنجاة. إذا بحث الواحد عن مَنجَى فهربًا مما يخشى، وإذا عثر عليه فراحة واطمئنان. المَنجَى هو أيضًا ما ارتفع من الأرض وأمِنَ الأذى، ونجا الواحد من الشرّ أي سلم، وبتشديد حرف الجيم؛ فإن نجَّت المقاومةُ الأسرى من محابسهم يعني أنها قد خلصَتهم منها.
***
ظهر الناجُون من النَّار في ثمانينيات القرن العشرين كجماعة دينية مُتشدّدة؛ خضع أعضاؤها للمُحاكمة بتهمة تأسيس تنظيم شِبه عسكريّ غير مَشروع، وقد وُجِهت لبعضهم اتهاماتٌ بمحاولات اغتيال مُتنوعة؛ قُطِعت على أثرها علاقاتٌ دبلوماسية كانت قائمة. النجاةُ من النار مَرهونةً في المَوروث الدينيّ بأداء الأفعالِ الطيبةِ المَحمودة، أما أن تقترنَ بمُمارسة العنفِ الهَادر ضد آخرين؛ فمُفارقةٌ مزعجة.
***
لصَوتِ المُطربة القديرة نجاة الصغيرة مذاقٌ مُرهَفٌ شديد الخصوصِيَّة، يحملُ في طياتِه الهدوءَ والسَّلام ويمتاز بالصَّفاء والاستقرار. جاء لقبُ “الصغيرة” فصلًا وتمييزًا بينها وبين نجاة عليّ الأكبر عمرًا، والحقُّ أنه بدا مُكملًا للصورة، ممثلًا للوجه الرائق المُريح، داعمًا للرقَّة والوداعة. استمَعت إلى نجاة مرارًا؛ لكني طالما فضَّلت أمَّ كُلثوم وأسمَهان وفايزة؛ أصواتًا حمَلت القوَّة والانطلاقَ إلى جانبِ عظمةِ الإحسَاس.
***
يقول المثلُ الشَّعبيّ “اديني عمر وارميني البَحر” والمعنى أن النجاةَ أكيدةٌ، ومضمونة مُسبقًا بضمان استمرار الحياة، وقد صَدقَت المقولةُ مراتٍ كثيرة وفي وقائعٍ شهيرة. هناك النَّاجون حرفيًا من غَدر جِبال الثلجِ وظلام المُحيط إبان غرقِ السَّفينة تيتانيك، والناجون يومًا بعد يوم من مراكب الهِجرة البائسة التي تغوصُ في قيعان البحار بسهولة، وبعيدًا عن المياه والأمواج والبرودة هناك من نجوا أيضًا من أحداث جسام؛ وانطبق عليهم المثل مَجازيًا. يقفز إلى الذاكرة “أكثم”؛ الناج الوحيد من بناية هليوبوليس الشهيرة التي أسقطها زلزال التسعينيات، والذي قضى تحت الركام أيامًا ثلاثة، وخرَج دون إصاباتٍ كبرى. نجا من موت مُحقَّق طوى من كانوا داخل البناء المنهار، وعاش من بعدهم حياة مديدة.
***
يقول جاهين في رباعياتِه: “بحر الحياه مليان بغرقى الحياه.. صرخت خش الموج في حلقي ملاه.. قارب نجاه؛ صرخت قالوا مفيش.. غير بس هو الحب قارب نجاة. عجبي”. النجاةُ المَعنوية من الكوارث صَعبة، وأكم من أشخاصٍ سَلموا بدنيًا من مآسٍ مادية كبرى؛ لكن التعاسةَ غشَت أرواحَهم، وأكم من أشخاصٍ يبدون على قدر من التماسُك والمنعة إزاء الملمات؛ فيما نفوسُهم في حقيقة الأمر كسيرة تبحث عن طوق نجاة.
***
في الصّدق نجاةٌ ولو صحبته زوابع وأعاصير، وفي الكَّذب هلاكٌ ولو مرَّ ظاهرًا دون جلبة؛ وإذ يُقال إنَّ “الكذب مالوش رجلين”، فالقَّصد أنه لا يقف في مواجهة الحقائق ولا يَصمد طويلًا، وسرعان ما يسقط ويتداعى. شهدنا على امتداد الأعوام كذباتٍ لا أول لها ولا آخر؛ منها ما صَعدَ بتوقُّعاتنا وأمانينا إلى الأعالي، ثم إذا بالواقع يصفعنا صفعًا، وبالقاع يستقبلنا خشنًا مُوحشًا مُخيفًا، وإذا بالمَنجَى يتباعد عن مجال رؤيتنا، وبالأفق يتلبَّد ويظلم.
***
في أحوالِ الخَطر الدَّاهم ثمَّة من يَهبُّ لمساعدة المُحتاجين وإنقاذهم ولو على حِساب حياته، ومَن يُفضل إنقاذَ نفسِه والتخَلي عمَن سواه؛ مُلتمِسًا المَنجَى بأيّ طريقة، باحثًا عن الأعذارِ التي تبرِّر ما اختار؛ فإن خرج سالمًا من مأزِقه؛ تأكد له حسنُ تصرُّفه، وداوم عليه مُستعينًا بالمَثل الشعبيِّ القائل: أنا ومِن بعدي الطوفان.
***
تعتَمِد النجاةُ الفردِيَّة على تَرك الآخرين يواجِهون مصائرَهم؛ دون محاولة لإرشادهم أو مُساندتهم، ودون إيلاء اهتمام لأزماتهم ومَواجعهم. في مُختلف البقاع مسئولون وحُكَّام فضَّلوا الهُروبَ بأموالهم وعائلاتهم حالما ثارت الجُّموع عليهم، وهناك أيضًا من قرَّروا البقاء وتحمُّل النتائج، والحقُّ أن الطوفانَ ينال من الهارِب إن آجلًا أو عاجلًا؛ ولو توفَّرت له الحماية، ولو تصوَّر لبرهة أنه قد نجا وأمن العقاب.
***
في أزمنةٍ غير بعيدة مارست فئةٌ من قدامَى المُحاربين اليابانيين طَقسَ الهاراكيري؛ يُغمد الواحد منهم سيفًا في بطنه بينما يَضرِب آخرٌ عنقَه من الخَلف، والدَّافع هو التخلُّص من أيّ إحساسٍ بالذل عند الوقوع في الأسر، أو حال خسارة معركة تُعَدُّ مِعيارًا للشرف. أحيانًا يكون المَوتُ مَنجىً وحيدًا من الأذى الرَّهيب، وفي إقدام بعضِ المُعتقلين وأصحابِ الرأي المُحتجزين على إنهاء حيواتهم داخل محابسهم؛ دلالةٌ دامغةٌ على مَبلغ ما يُلاقون من تَنكيل، وما يكابدون من إهدارٍ لحقوقهم الدنيا.
***
لانهيار المجتمع وتفسُّخه شواهد كثيرة؛ جرائم العنف الكاسِح التي تقع بين أفراد العائلة الواحدة خير شاهد، والعدوان على الضعيف برغم قلة حيلته، ثمَّ تجنُّب القويِّ برغم طغيانِه وتجبُّرِه شاهد آخر، والوقوفُ على توافِه الأمور وهوامِشِها مع غَضِّ النَّظر عن المتون الأصيلة، وعما يجري على الأرضِ من أحداثٍ جِسام؛ لدليل دامغ على مَبلغ التردِّي، ولإن تساءلَ الواحد عن المَنجى من هذا وذاك؛ فجوابٌ مَعلومٌ بالضرورة، إلا أن التطبيقَ يظلُّ من الصُّعوبةِ بمكان.
(*) بالتزامن مع “الشروق” المصرية
