لعبة الممرات البحرية.. من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي (2)

إذا كان القسم الأول من هذا النص يرصد صعود الجنوب اليمني كسلطة أمر واقع عند بوابة البحر، فإن هذا القسم ينتقل إلى ارتدادات ذلك على بقية الأطراف، وكيف تقرأ السعودية هذا التحول؟ كيف يرد الحوثيون عليه بحربٍ في البحر الأحمر؟ وكيف تدفع الأولويات الغربية، المتركزة على أمن الملاحة، نحو أفكار مثل "الاعتراف الوظيفي" بالجنوب، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على توازن الداخل اليمني والنظام الإقليمي الأوسع؟

هذا الارتقاء في مكانة الجنوب اليمني يضع المملكة العربية السعودية أمام معضلة صعبة. فمنذ تدخلها العسكري في اليمن عام 2015، تبنت الرياض خطاب الحفاظ على وحدة البلاد تحت مظلة “الشرعية”. غير أنّ سنوات الحرب الطويلة، وتباين الأولويات بينها وبين أبوظبي، أفرزت واقعاً أقل انسجاماً، فالإمارات استثمرت بوضوح في بناء قوات محلية جنوبية، بينما حاولت السعودية المحافظة على نفوذها في محافظات مثل المهرة ووادي حضرموت عبر قوات موالية لها أو قوى قبلية وحزبية قريبة منها.

ومع توسع نفوذ “المجلس الانتقالي”، ازداد التوتر في بعض هذه المناطق. فقد شهدت محافظات شرقية محاولات متكررة من قوات قريبة من “الانتقالي” لتوسيع حضورها، قابلتها ضغوط سعودية سياسية وأمنية لكبح هذا التمدد. في مناسبات عدة، حلّقت الطائرات السعودية في أجواء حضرموت والمهرة في استعراض قوة فُسّر محلياً كرسالة تحذير، أكثر منه مقدمة لمواجهة مباشرة. وبينما تصر الرياض رسمياً على دعم الحكومة اليمنية المعترف بها، يدرك المسؤولون السعوديون أنّ سلطة هذه الحكومة على الأرض آخذة في التضاؤل، وأنّ التفاوض المباشر مع سلطات الأمر الواقع – في صنعاء وعدن على السواء – بات أمراً لا مفر منه.

على الجانب الآخر من خطوط الجبهة، يراقب “أنصار الله” (الحوثيون) هذه التحولات بقلق لا يخلو من شعور بالحصار. فالجماعة التي انطلقت من صعدة في شمال اليمن باتت اليوم تسيطر على العاصمة صنعاء، وعلى معظم المحافظات الشمالية، وعلى شريط ساحلي مهم يضم ميناء الحديدة على البحر الأحمر. لكنها، في المقابل، فقدت أجزاء واسعة من الجغرافيا النفطية جنوباً وشرقاً، وتواجه حصاراً اقتصادياً وعسكرياً خانقاً.

خلال العامين الماضيين، اختار الحوثيون الضغط من خلال البحر الأحمر لرفع الضغط عنهم ولمساندة حلفائهم. فمنذ أواخر 2023، تبنوا سلسلة من الهجمات على سفن تجارية وحربية في البحر الأحمر وخليج عدن، قالوا إنها تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل أو الداعمة لها، “نصرة لغزة”. هذه الهجمات، دفعت الولايات المتحدة وبريطانيا وشركاء آخرين إلى إطلاق عملية بحرية متعددة الجنسيات لحماية الملاحة، وإلى تنفيذ ضربات جوية وصاروخية ضد مواقع حوثية في اليمن.

في صنعاء، يقدم قادة الجماعة هذه المواجهة بوصفها جزءاً من “حرب مفتوحة” مع إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما في الخليج. غير أنّ كثيراً من المحللين يرون أن دوافع الحوثيين أكثر براغماتية، فتصعيد البحر الأحمر يمنحهم ورقة ضغط إقليمية ودولية، ويعزز خطاب “المقاومة”، ويساعد على حشد مقاتلين في الداخل، في وقت تتقلص فيه مواردهم الاقتصادية.

يبدو اليمن، بشماله وجنوبه، أكثر من كونه ساحة حرب أهلية ممتدة. إنه مرآة لعالم يتغير ميزان قوته حول الممرات البحرية، من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي. فبين خرائط قديمة تمزقت، وحدود جديدة تُرسَم بخطوط متعرّجة على شاشات غرف العمليات وغرف الأخبار، يبقى السؤال معلّقاً: هل ينتهي الأمر ببحر آمن فوق برّ ممزق، أم أنّ البحث عن الأمن في الماء سيقود إلى انفجار جديد في اليابسة؟

إذا ما ترسخ واقع سلطات الأمر الواقع في الجنوب اليمني، وتعززت الشراكات الأمنية بين “المجلس الانتقالي” وقوى إقليمية وغربية، يخشى بعض الدبلوماسيين أنْ يلجأ الحوثيون إلى ما يسمونه في أحاديثهم الخاصة “خيار الأرض المحروقة”، كاستهداف مكثف للبنية التحتية النفطية والغازية في الجنوب، وتوسيع نطاق الهجمات البحرية باتجاه أهداف إسرائيلية على أرض “صوماليا لاند” أو “أرض الصومال”، وربما جرّ إيران إلى انخراط أوضح في البحر الأحمر، بما يرفع مستوى المخاطر على حركة التجارة العالمية.

في هذه الأثناء، تجد الدول الغربية نفسها أمام معادلة شائكة. فمن جهة، تعلن العواصم الغربية التزامها بوحدة اليمن وسيادته، وتدعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة. ومن جهة أخرى، باتت أولويتها العاجلة – وفق تحليلات “بروكينغز” و”مجلس العلاقات الخارجية” – هي ضمان أمن الممرات البحرية القريبة، حتى لو تطلّب ذلك نمطاً من التعامل البراغماتي مع سلطات أمر واقع في الجنوب والشمال.

بعض الدبلوماسيين والخبراء يتحدثون، في جلسات مغلقة، عن فكرة “اعتراف وظيفي” بالجنوب، أي السماح لـ”المجلس الانتقالي” بإدارة موارده وعقد اتفاقيات نفطية وتجارية محددة، والمشاركة في ترتيبات أمنية تخص باب المندب وسقطرى، من دون الذهاب إلى اعتراف سياسي كامل بانفصال الجنوب. مثل هذا المسار قد يضمن – نظرياً – تدفق النفط عبر موانئ الجنوب، واستقراراً أكبر للملاحة، في وقت لا يبدو فيه أنّ إعادة توحيد اليمن تحت سلطة مركزية واحدة أمر ممكن في الأجل القريب.

غير أن هذا النهج يحمل معه مخاطره الخاصة. إذ يحذر باحثون في “مجموعة الأزمات الدولية” و”تشاتهام هاوس” من أنّ أي خطوة تُفهم على أنها شرعنة لانفصال الجنوب، قد تدفع الحوثيين إلى تصعيد أوسع، وقد تشجع أقاليم أخرى في أفريقيا وآسيا على المطالبة بنماذج مماثلة من الانفصال بحكم الأمر الواقع، ما يهدد منظومة القانون الدولي التي تقوم على قدسية الحدود القائمة.

إقرأ على موقع 180  "اليُتم السُني" في لبنان.. من الحريرية إلى الميقاتية!

على شرفة تطل على ميناء عدن، ينظر مسؤول محلي شاب إلى السفن وهي تدخل وتخرج، ثم يقول: “الجميع يريدون البحر، لا أحد يريد أنْ ينظر إلى اليابسة”. يقصد بذلك أنّ اهتمام العالم يتركز اليوم على الناقلات وخطوط الملاحة وتأمين الطاقة، أكثر مما يتركز على إعادة بناء دولة يمنية مستقرة. لكن الواقع أنّ المصيرين متداخلان، فلا يمكن تأمين البحر على المدى الطويل فوق أرض تتشظّى، ولا يمكن إعادة بناء بلد ممزق من دون الاعتراف بأنّ من يسيطر على المضيق والجزر والموانئ، يملك اليوم نصيباً كبيراً من أوراق التفاوض.

بهذا المعنى، يبدو اليمن، بشماله وجنوبه، أكثر من كونه ساحة حرب أهلية ممتدة. إنه مرآة لعالم يتغير ميزان قوته حول الممرات البحرية، من شرق المتوسط إلى القرن الأفريقي. فبين خرائط قديمة تمزقت، وحدود جديدة تُرسَم بخطوط متعرّجة على شاشات غرف العمليات وغرف الأخبار، يبقى السؤال معلّقاً: هل ينتهي الأمر ببحر آمن فوق برّ ممزق، أم أنّ البحث عن الأمن في الماء سيقود إلى انفجار جديد في اليابسة؟ في عدن، كما في كثير من العواصم، لا يملك أحد حتى الآن إجابة قاطعة.. يتبع

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الخطة "باء" الغربية للبنان: التغيير بالانتخابات النيابية