فى لحظة تصوّر أنه بثقل شعبية يتوهمها يمكنه أن يكسر جدران مقاومة التطبيع، التى شيّدت شعبيا على مدى أكثر من أربعين عاما منذ معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية (1979).
سافر بطائرة خاصة أرسلت إليه من دبى ليشارك فى افتتاح فرع لشركة إماراتية فى تل أبيب، رقص على أنغام أغنية «هافانا نجيلا» للمطرب الإسرائيلى «عمير أدام»، احتضنه سعيدا، بُثت الصور على أوسع نطاق ممكن وانقلبت الدنيا على رأسه فى بلده مصر.
بضغط هائل من رأي عام غاضب على ما جرى فى دبى من انتهاك للمحرمات المصرية،أُالغى مسلسل رمضانى يقوم ببطولته، أوقفت شركة اتصالات شهيرة بث إعلان جديد قام بتصويره خشية أن تتضرر مصالحها، قرر اتحاد النقابات الفنية وقفه عن العمل لحين التحقيق معه، وأصدرت نقابة الصحفيين بيانا دعت فيه إلى منع نشر اسمه وصوره فى الجرائد محذرة من أن أى اختراق للتطبيع سوف يخضع للمساءلة النقابية.
كانت تلك ردة فعل غاضبة على رسائل الصور التى التقطت فى حفل دبى واحتفت بها إسرائيل كما لم يحدث من قبل.
لم تكن تلك مقدمة سلام دافئ مع أكبر دولة عربية بعد أربعة عقود وصفت بـ«السلام البارد».
العكس تماما هو الذى حدث، وتحول الممثل المتفلت إلى أمثولة حتى لا يجرؤ أحد آخر على اتباع الفعل نفسه.
بدت الصدمة الإسرائيلية مروعة، أعادوا اكتشاف قدر الكراهية المصرية لعنصريتها المتأصلة واستهتارها بكل ما هو إنسانى وعادل فى القضية الفلسطينية.
الرسالة وصلت إلى الإقليم كله، رفض التطبيع قرار شعبى نهائى فى مصر، لا سبيل إلى تجاوزه والتحايل عليه، أو القفز فوق محظوراته بادعاء أن الدنيا تغيرت، وأن اللغة القديمة لا تصلح مع العوالم الجديدة، التى تؤذن بـ«الحقبة الإسرائيلية».
أية معركة تكتسب خطورتها من سياق حوادثها وقدر تحدياتها وآثارها على حركة المستقبل.
اللقاء يعبر عن قلق سعودى من إعادة فتح ملف مقتل «جمال خاشقجى» بعد أن تتولى إدارة الرئيس الأمريكى المنتخب «جو بايدن» السلطة يوم (20) كانون الثاني/يناير المقبل
بالنظر إلى السياق التى جرت فيها واقعة دبى، التى دوت فى القاهرة، فإننا أمام مفترق طرق وسياسات وتحالفات أخطر من أن تنسب لممثل متفلت لا يعرف تاريخ بلده ولا حقيقة ما يجرى حوله ويتهدد مصيره لحقب طويلة مقبلة.
هناك – أولا – هرولة للتطبيع مع إسرائيل، دون قيد أو سقف، والدولة الخليجية الأكبر السعودية على وشك أن تتخذ الخطوة نفسها.
رغم النفى الرسمى أن يكون هناك لقاءً قد جرى فى مدينة «نيوم» على ساحل البحر الأحمر بين ولى العهد السعودى «محمد بن سلمان» ورئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتانياهو» بمشاركة ورعاية وزير الخارجية الأمريكى «مايك بومبيو» إلا أن الإسرائيليين أكدوا الواقعة.
من حيث التوقيت، فإن اللقاء يعبر عن قلق سعودى من إعادة فتح ملف مقتل «جمال خاشقجى» بعد أن تتولى إدارة الرئيس الأمريكى المنتخب «جو بايدن» السلطة يوم (20) كانون الثاني/يناير المقبل.
إعادة فتح ملف «خاشقجى» يؤثر بالضرورة على فرص ولى العهد على تولى السلطة بعد والده الملك «سلمان بن عبدالعزيز».
هكذا تجد الرياض نفسها محشورة فى زاوية ضيقة، إذا اعترفت بإسرائيل بداعى حفظ العرش فإن ما قد يحدث تاليا يصعب توقعه أو تجنب مخاطره.. وإذا امتنعت انتظارا لتولى الإدارة الجديدة السلطة فى الولايات المتحدة فأنه يصعب رفع السكين عن رقبتها.
فى الاحتمالين إشارات إلى أوضاع قلقة فى الخليج وخرائط سياسية مختلفة وأحلاف استراتيجية محتملة تنال من مصر وأمنها القومى بفداحة.
هناك – ثانيا – إقدام السلطة الفلسطينية على إعادة التنسيق الأمنى مع إسرائيل بصورة مفاجئة قبل أن يدخل «بايدن» إلى البيت الأبيض.
وهو تخاذل فى توقيت حرج حرضت عليه قوى عربية عديدة، تردد أن السعودية على رأسها، تمهيدا لإقدام محتمل على عقد اتفاقية تطبيع جديدة مع إسرائيل حتى يمكنها أن تقول: «لسنا فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين».
وهناك – ثالثا – أجواء تصعيد ضد إيران «العدو البديل» تلوح بعمل عسكرى أمريكى ضدها قبل انتهاء ولاية «ترامب».
التلويح لا يعنى أن الحرب سوف تحدث، فهناك قيود عديدة تمنع هذا الاحتمال، لكنه قد يكون مقصودا به ابتزاز الإدارة المقبلة حتى لا تعيد الاتفاقية النووية إلى الحياة مرة أخرى.
إذا ما تغيرت بالتطبيع المعادلات والحسابات فى الإقليم فإن الضرر الأكبر سوف يقع على مصر، يضرب فى صلب أمنها القومى ويهمش أدوارها إلى حدود الإلغاء، أو الإعدام الاستراتيجى.
هكذا اكتسبت معركة التطبيع الأخيرة أهميتها ورسائلها، التى تتجاوز أشخاصها المباشرين إلى أسئلة المستقبل والمصير، أن تكون أو لا تكون.
إذا ما قالت مصر لا، إذا ما ارتفعت إلى مستوى قامتها التاريخية، فإن روح المقاومة والرفض سوف تتمدد إلى الإقليم كله، تنقضى تحالفات وتسقط ادعاءات، ويرفع الشرق رأسه من جديد
باتساع النظرة إلى الملفات الملغمة التى تعترض مصر فإنها مستهدفة فى أمنها المائى، وإسرائيل حاضرة فى الملف بالتحريض، ومستهدفة فى سلامة حدودها، وإسرائيل متأهبة على حدودها بأفضل ما لديها من نخب عسكرية وأكثر من نصف قواتها المسلحة، ومستهدفة فى مستقبلها الاقتصادى، وإسرائيل جاهزة بمشروعات تعمل على تهميش قناة السويس وأن تكون هى مركز القيادة الذى يحدد الحصص والأنصبة حسبما يرى ويقرر.
بحسه التاريخى يدرك الشعب المصرى أين مواطن الخطر وأن إسرائيل ليست صديقا.
استدعيت على شبكة التواصل الاجتماعى صورا تقادمت عليها السنين من السجلات العسكرية تحت عنوان شبه متكرر: «هكذا يطبع الرجال؟»، ضمت إلى رجال القوات المسلحة أسرى إسرائيليين فى حرب (1973)، واستدعيت من السجلات العائلية صورا لأباء وأبناء استشهدوا فى ملاحم القتال.
إحياء الذاكرة الوطنية صلب قضية مقاومة التطبيع.
إذا محيت الذاكرة تخسر مصر كل شىء، فلا معنى لحرب خاضتها، ولا قيمة لتضحية بذلتها.
لماذا حاربنا؟
«حاربت مصر من اجل نفسها قبل أى اعتبار آخر»، كما كتب بخط يده الضابط الشاب «جمال عبدالناصر» فى حرب (1948) على دفتر مذكرات شخصية.
فى كل الحروب التالية (1956)، (1967)، (1973)، تصدرت الوطنية المصرية مشاهد النار والتضحية، بذلت وضحت، انتكست وصححت، دون أن يفقد شعبها بوصلته فى أى وقت، أن التطبيع عار وخيانة.
بقوة الرفض الشعبى أزيحت أغنية «هافا نجيلا» الإسرائيلية عن المشهد واستعادت مصر صوتها القديم، كأنها تتحدث عن نفسها، تاريخا ودورا رغم كل ما جرى ويجرى لها ومن حولها،
«أنا إن قدر الإله مماتى/ لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى»، كما أنشدت سيدة الغناء العربى «أم كلثوم» ذات يوم بعيد من كلمات الشاعر الكبير «حافظ إبراهيم».
إذا ما قالت مصر لا، إذا ما ارتفعت إلى مستوى قامتها التاريخية، فإن روح المقاومة والرفض سوف تتمدد إلى الإقليم كله، تنقضى تحالفات وتسقط ادعاءات، ويرفع الشرق رأسه من جديد.