أما وقد طويت صفحة إستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وصار مجرد رئيس حكومة تصريف أعمال، فإن الأسئلة تتمحور حول ما بعدها دستوريا وسياسيا.
أولاً، تعتبر إستقالة رئيس الحكومة نافذة بمجرد أن يقدمها إلى رئيس الجمهورية، لا بمجرد إعلانها سياسياً من بيت الوسط.
ثانياً، ينص الدستور على صلاحية رئيس الجمهورية بتسمية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس المجلس النيابي إستنادا إلى إستشارات نيابية ملزمة. لا مهلة زمنية يحددها الدستور لإجراء هذه الإستشارات، لكن مفهوم تسيير المرفق العام هو الذي يحتم عليه أن لا يطيل أمد الفراغ، وثمة سوابق دستورية تشي بتريث رئيس الجمهورية في تحديد موعد الإستشارات النيابية من أجل إنضاج ظروف تسمية الرئيس المكلف سياسيا، خصوصا إذا كان واقع البلد مأزوم، كما هو في الحالة اللبنانية.
ثالثاً، من الواضح أن ثمة مشاورات داخلية تجري في دوائر سياسية معنية بتسمية رئيس الحكومة الجديد، وبالتوازي معها، ثمة رسائل دولية تصب كلها في خانة إعادة تسمية الحريري رئيسا للحكومة، لكن القرار السياسي النهائي رهن إستشارات نيابية ستجري في الأسبوع المقبل على الأرجح.
رابعاً، أدت نتائج الإنتخابات النيابية في العام 2018، إلى تبدل الأكثرية النيابية من خانة فريق 14 آذار/مارس إلى فريق 8 آذار/مارس. يستطيع الفريق الأخير أن يحدد هوية رئيس الحكومة بأكثرية موصوفة تصل إلى حوالي سبعين نائبا، شرط أن يكون هناك تناغم بين الرباعي (التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل وسليمان فرنجية مع حلفاء آخرين)، بينما لا يستطيع فريق 14 آذار/مارس أن يأتي بأكثر من خمسة وخمسين نائبا يصبون أصواتهم لمصلحة تكليف الحريري، وبينهم بطبيعة الحال وليد جنبلاط (9 نواب) والكتائب (3 نواب).
لن يكون بمقدور الحريري العودة إلى رئاسة الحكومة إلا بموجب تفاهم سياسي مع مالكي مفتاح الأكثرية النيابية، أي حزب الله وميشال عون ونبيه بري
خامساً، ليس خافيا أن التطورات التي أعقبت الإنتخابات النيابية وصولا إلى الحراك الشعبي، قد أدت إلى إحداث تشققات في بعض الكتل النيابية، مثل خروج نهاد المشنوق من كتلة المستقبل برئاسة الحريري، وتمايز شامل روكز ونعمت افرام وميشال معوض عن كتلة لبنان القوي برئاسة جبران باسيل، فضلا عن إنتهاء الكيان الوهمي الذي عطل البلد سابقا وهو اللقاء التشاوري النيابي الهجين الذي كان يضم النواب عبد الرحيم مراد والوليد سكرية وقاسم هاشم وجهاد الصمد وفيصل كرامي وعدنان طرابلسي.
سادساً، لن يكون بمقدور الحريري العودة إلى رئاسة الحكومة إلا بموجب تفاهم سياسي مع مالكي مفتاح الأكثرية النيابية، أي حزب الله وميشال عون ونبيه بري، لكن لكل من هذه القوى حساباته، أقله أن لا إنسجام في الموقف بين بري وكل من حزب الله وعون في ما يخص مضبطة الشروط التي يمكن أن تفرض على الحريري، لأجل إعادة تكليفه، ناهيك عن إحتمال وجود رغبة لدى رئيس المجلس النيابي بالتمايز عن حلفائه ربطا بمجريات الحراك الشعبي الأخير، من دون إستبعاد خيار البحث عن رئيس حكومة من خارج الأسماء المتداولة.
سابعاً، ثمة مسار دستوري ـ سياسي للتكليف والتاليف يمكن تلخيصه بالآتي:
أ- شكل الحكومة الجديدة:
- من سيكلف بتأليف الحكومة، سواء أكان الحريري أم غيره، عليه أن يتفاهم أولا مع من يملك مفتاح الأكثرية النيابية حول طبيعة الحكومة الجديدة: موسعة، مصغرة، أم متوسطة، وهل ستكون سياسية إئتلافية أم مزيج من سياسية وتكنوقراط أم تكون حكومة من التكنوقراط فقط؟
- عند هذه النقطة تحديدا، يتقرر أولا من سيتم إختياره لتأليف الحكومة، خصوصا وأن الرباعي ميشال عون وحزب الله وحركة أمل وسليمان فرنجية متفاهم على وجوب أن تكون الحكومة الجديدة سياسية بإمتياز، ولا مانع من تطعيمها ببعض الوجوه التكنوقراطية (من أصحاب الكفاءة والإختصاص).
هل سيكون الحريري محرجا خارجيا وتحديدا أميركيا وسعوديا وإماراتيا إذا تم إستبعاد القوات اللبنانية عن أية تشكيلة حكومية جديدة؟
ب – التوزيع السياسي والطائفي للحكومة الجديدة:
- من يملك القدرة على التحكم بالأكثرية النيابية (8 آذار/مارس) عازم، على الأرجح، على وضع “فيتو” على إحتمال توزير القوات اللبنانية، ربطا بموقفها الأخير من الحراك الشعبي، الذي جاء مخالفا لرأي باقي المكونات السياسية، وصولا إلى إستقالة وزرائها من الحكومة الحريرية، في محاولة تهدف إلى الإستثمار السياسي في الشارع المسيحي.
- لا يسري “الفيتو” السياسي على القوات على الحزب التقدمي الإشتراكي الذي خرج من الأزمة من دون أن يخذل “الثنائي الشيعي” ولا سعد الحريري أولا بالبقاء في الحكومة وثانيا بالحماسة لقرار الحريري بالإستقالة. السؤال الأساس هل سيكون الحريري محرجا خارجيا وتحديدا أميركيا وسعوديا وإماراتيا إذا تم إستبعاد القوات اللبنانية عن أية تشكيلة حكومية جديدة؟
- إذا كانت الحكومة مصغرة، وهذا هو المرجح، فإنها ستضم 16 وزيرا. ثمة مطبات بين “الثنائي” حول من يختار الوزير الشيعي الثالث وهل يتم إعتماد الندية بين وليد جنبلاط وطلال إرسلان (وزير لكل منهما في حكومة من 16 وزيرا)، ومن يختار الوزيرين السنيين إلى جانب رئيس الحكومة. يسري ذلك على التوزيع الحزبي المسيحي، وما إذا كان التيار الوطني الحر سيحتكره وحده مع حليفه حزب الطاشناق الأرمني، وهل سينال سليمان فرنجية حصته وماذا عن الكتائب؟
- ما هي التوازنات التي ستحكم الوزارة الجديدة، أي من سيملك الأكثرية أو الثلث المعطل فيها، وهل سيكون بمقدور فريق رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي وحزب الله إمتلاك أكثرية الثلثين (10 + 1 في حكومة من 16 وزيرا)، وهل سيكتفي الحريري بالثلث المعطل (6 وزراء)؟
ج – إختيار الأسماء:
تبدو هذه النقطة هي قدس الأقداس. جبران باسيل سيكون في صلب أية حكومة جديدة. هذه النقطة غير قابلة للجدل في القصر الجمهوري ومن يريد أن يشكل الحكومة الجديدة يجب أن يعلم أن هذه هي كلمة السر التي تسهّل أو تعقد تسميته. إذا أصر رئيس الجمهورية على باسيل، من يقنع نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية بإبعاد وزرائهم ممن صارت مطلوبة رؤوسهم في الإعلام؟
النقطة الأهم في هذا السياق، أن حزب الله، وإستنادا إلى معطيات خارجية مواكبة للحراك، كان مدركا أن جوهر المطالبة يحكومة تكنوقراط هدفه إقصاء الحزب عن أية حكومة جديدة، ربطا بتصاعد العقوبات الأميركية ضد الحزب، وجاء موقف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لكي يعطي وصفة في هذا الإتجاه بقوله إن المظاهرات السلمية والتعبير عن الوحدة الوطنية “أرسلت رسالة واضحة وهي أن الشعب اللبناني يريد حكومة فعالة وإصلاحا اقتصاديا ووضع حد للفساد المستشري”، وهو الموقف الذي عبرت عنه عواصم غربية أخرى مثل باريس ولندن.
أول قرار يريد ميشال عون وجبران باسيل إتخاذه فور ولادة الحكومة الجديدة هو الإطاحة برأس قائد الجيش جوزف عون
وبموجب الأعراف، يتسلم رئيس الحكومة المكلف من الكتل النيابية أسماء الوزراء قبل أن تصدر مراسيم التأليف، لكن درجت العادة أن رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي لا يسلمان رئيس الحكومة المكلف الأسماء إلا قبل طباعة المرسوم الرئاسي. هنا تصبح إرادة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي لا ترد. سلاحهما توقيع الأول منفرداً والتشاور الثنائي بينهما، قبل إعلان مراسيم تأليف الوزارة.
تختصر هذه العناوين صراعا خفيا على الصلاحيات، بين الرئاسات الثلاث، ولعل الحريري بات محكوما حاليا بمعادلة عدم العودة إلى رئاسة الحكومة بشروط التسوية السياسية الرئاسية التي حكمت عمله طيلة ثلاث سنوات، كونها ستجعله يتنازل عن صلاحياته أو يتساهل في الدفاع عنها، وهذه النقطة أضعفته كثيرا في شارعه. في المقابل، لا يريد رئيس الجمهورية أن يغادر صورة “الماروني القوي”، بينما يبدو رئيس المجلس النيابي الحلقة الأضعف، بالمعنى الدستوري وليس السياسي.
خاتمة: هل نحن على عتبة الإعلان عن إنتهاء الجمهورية الثانية وبدء العد العكسي لولادة الجمهورية الثالثة، وهل ستكون الولادة الجديدة محكومة فقط هذه المرة بممر إقتصادي ومالي ساخن أم أن الممر السياسي والأمني للوصول إلى صيغة جديدة لا بد منه؟
تصعب الإجابة اليوم على هذا السؤال، لكن ثمة أمور يجب رصدها بعناية في المرحلة المقبلة، وأولها قدرة رئيس الحكومة المستقيل على إستثمار الحراك في المستقبل القريب لمصلحة عودته إلى السراي الكبير، وهذه ستشكل مفارقة لا مثيل لها في تاريخ الجمهورية الثانية، عندما يسقط رئيس الحكومة في الشارع، فيتضامن معه من أسقطوه ويصفقون له ثم يتظاهرون لأجل عودته. هذه العجيبة لا تحصل إلا في لبنان.
رب قائل أن مفهوم الصدفة غير مألوف في العقل السياسي. هناك قاعدة ذهبية لهذا العقل “التزامن يقترح الترابط”. هنا تكفي الإشارة الى تزامن حدثين ليتحقق الترابط. حدثان تزامنا في لبنان في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة: استقالة الحكومة الحريرية وفتح الجيش اللبناني للطرقات في العاصمة وخارجها.
هذا التزامن يقود للإستنتاج بأن أول قرار يريد ميشال عون وجبران باسيل إتخاذه فور ولادة الحكومة الجديدة هو الإطاحة برأس قائد الجيش جوزف عون… على الأرجح، سيكون سعد الحريري في طليعة الرافضين. هل المطلوب التفاهم على هذه النقطة قبل ولادة الحكومة الجديدة؟ وهل يستطيع الحريري مخالفة إرادة الأميركيين؟
من المفارقات أيضا أن قدرة الحراك على التحكم بمسار تأليف الحكومة، ستكون صعبة ولكنهها تبقى رهن معطيات الشارع وما سيفرزه في الأسابيع المقبلة.
أيام الفراغ الآتية على لبنان ستكون عامرة، وفي الوقت نفسه، ستفتح الشهية للكلام السياسي، والبداية من عند خطاب الأمين العام لحزب الله يوم الجمعة المقبل، خصوصا وأن حزب الله قرر الدخول في موسم الصوم الكلامي.. حتى إشعار آخر.