لعل القسم الأكبر من الذين فجّروا غضبهم في شوارع لبنان وساحاته، على مدى الأسبوعين الماضيين، هم صادقون في نقمتهم على الفساد والنهب والمحاصصة وسوء الإدارة. والثابت أن حركة الشارع أربكت الجميع، ودفعتهم لإعادة النظر في حساباتهم، وإعادة ترتيب استراتيجياتهم وسلم أولوياتهم، تجنبا لأن يكونوا ضحايا من جهة، وأملا في قطف ثمار غضب الناس في السياسة، من جهة ثانية. هل ثمة أصابع خفية فعلا كانت تدفع باتجاه انقلاب حقيقي في لبنان؟
انقلاب أم ثورة؟
- رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره (الوطني الحر) ومعه حليفه الأبرز حزب الله انتقلا سريعا من النظرة الايجابية للحراك في أيامه الاولى، الى القناعة بأن ثمة انقلابا يُنفّذ في الشارع ضد العهد والمقاومة معاً. قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله صراحة ان ثمة مؤامرة وان لديه معلومات وافية عنها، لعله سيكشف بعضا منها قريبا.
- سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية ووليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وسامي الجميل رئيس حزب الكتائب وأطراف سابقة تنتمي إلى معسكر قوى 14 آذار/مارس سابقا، رأت في الشارع فرصة سانحة لضرب العهد ورمزه الأكثر خطورة بالنسبة إليهم الوزير جبران باسيل، ورأوا ان هذا يخفف تلقائيا من “سطوة” حزب الله على القرار السياسي في لبنان.
- رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي مارس دورا وسطيا في لبنان خصوصا منذ اندلاع الحرب السورية في العام 2011، والذي صوت بالورقة البيضاء قبل ثلاث سنوات، ضد وصول ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، لم يكن مستاء من توجيه الحراك ضد العهد وباسيل، لكن سرعان ما أيقن أن الأمر يتجاوز حدود الهجوم عليه وعلى عائلته وعلى حركة أمل، ليحذر لاحقا من خطر انزلاق لبنان الى فخ سياسي وأمني خطير.
- رئيس الحكومة (المستقيل حاليا) سعد الحريري كان الأكثر قلقا، فبادر قبل غيره الى طرح مبادرة الإجراءات الإصلاحية، لكن ردة فعل الشارع عليها كان صادمة حيث ازداد عدد المناهضين لحكومته، ووجد نفسه عالقا بين شارع يكبر من جهة، وأطراف تلمح إلى وجود مؤامرة من جهة ثانية، وضغوط دولية بعدم دفع الجيش والقوى الأمنية للصدام مع المتظاهرين من جهة ثالثة. سرعان ما قرر الإنحياز بعد 12 يوما إلى المناخ الدولي والحراك الشعبي وقرر قلب الطاولة على الجميع مُدركا سلفا أنه بذلك يربح الشارع والمجتمع الدولي، وبأن الأطراف الأخرى مضطرة للعودة الى تسميته لأسباب داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية.
- أطراف حزبية وسياسية ووطنية أخرى وبينها مثلا الحزب الشيوعي اللبناني واسامة سعد (في صيدا) وجدت في الحراك فرصة مناسبة تماما لإعادة التموضع خصوصا ان الكثير من مطالب الناس الفقراء تناسب طروحاتها السياسية ـ الإجتماعية.
- الجيش اللبناني بقي على الحياد، فزاد من قلق القائلين بوجود شيء مريب، وبدأنا نسمع منذ يومين تلميحات مباشرة من حزب الله وحركة امل للسبب الذي حال دون تحرك الجيش لمنع قطع الطرقات. ثمة من ذهب به التشكيك الى حد القول إن قائد الجيش العماد جوزف عون موعود برئاسة الجمهورية. أما المقرّبون من المؤسسة العسكرية، فيقولون إن هذا هراء وان الجيش لا يريد سفك الدماء، وهو عمل جاهدا كي تبقى التظاهرات سلمية ولا تنزلق الى أتون الخطر. ثم ان الجيش لم يتلق أمرا من الحكومة كي ينفذه، وهو كان يردد أن حل الأزمة سياسي وليس أمنيا.
لعلّ ثمة مبالغة حصلت في تعظيم حجم القوات اللبنانية في الحراك، برغم رغبتها الدفينة بتصفية الحسابات مع العهد أولا ومع حزب الله ثانيا
بعد أيام البلبلة الاولى، وبعد اقتناع العهد بأن ثمة من يحاول تنفيذ إنقلاب عليه، وبعد يقين حزب الله بأن في الأمر “مؤامرة ما” تستهدف المقاومة (وهو ما قاله صراحة السيد نصرالله ولكن أيضا مرشد الثورة الايرانية السيد علي خامنئي)، وبعد ادراك نبيه بري أنه لا يستطيع ترك الأمور تذهب الى حد تحطيم صور قادة ورموز حركة أمل في معاقله التاريخية كمدينة صور ومنطقتها، تغيّرت المعادلة، من مجرد القبول بالأمر الواقع وإنتظار “تنفيس” الحراك مع الزمن، الى البحث عن سبل أخرى للمواجهة.
لعلّ ثمة مبالغة حصلت في تعظيم حجم القوات اللبنانية في الحراك، برغم رغبتها الدفينة بتصفية الحسابات مع العهد أولا ومع حزب الله ثانيا. لكن أعمال قطع الطرق والشعارات التي أطلقت ضد المقاومة في معاقل القوات زادت الشكوك كثيرا.
الشوارع ضد بعضها
لم يكن نزول شبان ينتمون بمعظمهم الى حركة أمل (بعنوان أهالي زقاق البلاط) علانية وفي وضح النهار الى وسط بيروت وضرب المتظاهرين وتحطيم الخيم والمنصات أمام الكاميرات خطأ عابرا، بل هو عمل مقصود، للقول بأن الشارع سيواجه بشارع أكبر. وكان المقصود أيضا ان هذه الهجمة جاءت قبيل ساعات فقط من استقالة سعد الحريري التي لم ينسّقها مع رئيس الجمهورية.
لم يكن بالصدفة كذلك نزول تظاهرة سيّارة كبيرة في الساعات الماضية في شوارع بيروت تأييدا للرئيس الحريري بعد استقالته. هذا إشهار علني لمدى تململ الشارع السني من التسوية الرئاسية والأكلاف التي دفعها رئيس الحكومة من رصيده الشخصي ورصيد رئاسة الحكومة. إنه انذار لمن يفكر بتسمية شخص غير الحريري، وللتذكير بأن الحريرية ما زالت قادرة على إستنفار شارعها خصوصا في مواجهة شوارع أخرى، ولا سيما التيار الوطني الحر وحزب الله.
لن يكون بالصدفة أيضا نزول جمهور التيار الوطني الحر آخر الأسبوع الحالي على الأرجح الى الشوارع وصولا إلى القصر الجمهوري دعما للرئيس عون ولجبران باسيل وللقول بان الشعبية الأكبر في الشارع المسيحي لا تزال للتيار الحر، وبان باسيل لن ينكسر بسهولة برغم محاولات البعض شطبه من معادلة رئاسة الجمهورية، بعد إنتهاء ولاية الرئيس عون.
ان كل ما تقدم يشير الى أمرين مهمين؛
أولهما، أن غضب الناس الذي تفجر في الشوارع والساحات وقفز فوق الطوائف والمذاهب والمناطق، يمرُّ حاليا في منعطف حرج، بحيث ستكشف الأيام المقبلة هل ان هذا الشارع قادر فعلا على قلب المعادلة للمرة الاولى في تاريخ لبنان؟
وثانيهما، ان المحور الذي أقلقه وجود “انقلاب” او “مؤامرة” لا يزال يملك الأدوات المناسبة لتطويق أي محاولات داخلية او خارجية تستهدفه أو تستهدف سلاحه.
تسوية بلا رابح أو خاسر
يبقى السؤال المحوري الأخير: كيف سيتعامل المجتمع الدولي مع المعادلة المقبلة في حال نجح محور حزب الله – العهد(عون) في امتصاص غضب الشارع وتحويله لمصلحته؟ فلبنان بحاجة عاجلة الى مساعدات اقتصادية، ورقبة الاقتصاد اللبناني حاليا بيد أميركا والغرب.
لعل الحل الوحيد والمقبول لمنع الانهيار، يكمن في تشكيل حكومة ترضي الداخل والخارج وتقنع الجميع بأن لا خاسر ولا رابح، وتلبي عددا مهما من المطالب الإصلاحية الاقتصادية دون اهتزاز التسويات السياسية.
هذا ما يجري العمل عليه حاليا، تفاديا لصدام الشوارع. لكن شبح الصدام مستمرٌ في ظل صراع محورين من طهران والعراق مرورا بسوريا واليمن ولبنان. لن يستقر الا بتفاهم أميركي – إيراني، وهذا مرتبط بتطور الانتخابات الاميركية لمعرفة هل يبقى ترامب أم يرحل.