شكل اغتيال ابي احمد المهاجر، الذي جرى أمس في قرية أطمة على الحدود التركية – السورية، منعطفاً جديداً في العلاقة المتعرجة التي جمعت بين الولايات المتحدة و”هيئة تحرير الشام”، ويطرح في الوقت ذاته العديد من التساؤلات عن السبب الكامن وراء هذه العودة الأميركية لممارسة هواية اصطياد قادة “النصرة” وهي التي أخلت لهم الميدان طوال العامين المنصرمين لتجريب حظهم في ممارسة “التمكين” وإدارة المدن.
هذا التطوّر يطرح العديد من التساؤلات: هل انقضت المهلة الأميركية المعطاة للنصرة من أجل إظهار اعتدالها أم أن بعض أجنحة النصرة ما تزال تحافظ على إرث جماعة “خراسان” ورأت الولايات المتحدة أنه لا بد من بتر أجندتهم التي تتلون بخيوط لها امتدادات عالمية؟ أم لعل الأمر يتعلق برغبة واشنطن في ترك بصمتها على المخاضات التي تشهدها الجماعات الجهادية في محاولة منها لتغليب تيار ضد تيار آخر داخل الجماعة الواحدة؟ وهل تقتصر هذه الاغتيالات الأميركية على البعد الأمني فحسب، أم ثمة غايات سياسية تتخفى وراء القناع الأمني تتمثل في محاولة اقتحام ميدان لعب الآخرين والعمل على خلط أوراقهم؟
وجاء اغتيال المهاجر بعد خمسة اسابيع تقريباً من اغتيال أبي بكر البغدادي زعيم “داعش” السابق في بلدة باريشا بريف إدلب الشمالي. وقد ذكر “180” في تقرير سابق أن اغتيال البغدادي أثار مخاوف “النصرة” من وجود خطة أميركية تسعى إلى إعادة خلط أوراق الجماعات الجهادية عبر استهدف رؤوسها القيادية فقط. ومع ذلك فإن ما ينبغي التوقف عنده هو معيار اختيار الأهداف من قبل الطائرات الأميركية وتوقيت تنفيذ العمليات، إذ من شأن ذلك أن يسلط الضوء قليلاً على حقيقة ما ترمي إليه واشنطن.
من الواضح أن البوصلة الأميركية تتحرك بعيداً عن رأس الجولاني، وإن كانت أحياناً تدور في فلك الدائرة الضيقة المقربة منه. وبالتالي يبدو أن الجولاني ما زال صالحاً للعب دور بيضة القبان في تحولات الجماعات الجهادية ومسارات إفرازها بين تيارات متباينة من حيث التشدد.
البوصلة الأميركية تتحرك بعيداً عن رأس الجولاني، وإن كانت أحياناً تدور في فلك الدائرة الضيقة المقربة منه
ويبدو كذلك أن واشنطن ما زالت تراعي هذا الدور المنوط بالجولاني –وإن كان من دون اتفاق معه- نظراً لخشيتها من أن يؤدي قطاف رأسه إلى انفراط حبات سبحة الجهاديين وتدحرجها نحو الجماعات الأكثر تشدداً وتطرفاً.
وبطبيعة الحال فإن واشنطن ليست وحدها من تتبنى هذه السياسة، بل يبدو أن ثمة إجماعاً ضمنياً بين مختلف الأطراف على عدم استهداف الجولاني بشخصه نتيجة ما يمكن أن يحدثه ذلك من فراغ قد يفسح المجال أمام “القاعدة” و”داعش” للتقدم والاستفادة منه.
ومن المعروف أن تيار الجولاني استفاد كثيراً من سياسة غض الطرف جراء انشغال جميع الدول بمواجهة “داعش”. وكان غض الطرف حينها مقصوداً لغاية محددة هي استعمال الجولاني كوجهة بديلة قادرة على منافسة تنظيم “داعش” في استقطاب المقاتلين الأجانب. ويبدو أن هذا الدور ما زال مستمراً حتى الآن في ظل انشقاق الجولاني عن “القاعدة” ودخوله في تنافس معها، وهذا يؤكد أن الاستهداف الأميركي أمس إنما ينحصر ضمن دائرة محددة في قيادة “هيئة تحرير الشام” تعتقد الولايات المتحدة أنها يمكن أن تشكل خطراً على الأمن العالمي.
ومن الصعب حالياً استشفاف ما تمثله عودة التنشيط الأميركي لبنك أهدافها من “هيئة تحرير الشام” على صعيد طبيعة نظرتها الراهنة إلى هذا التنظيم خصوصاً في ظل مساعي اتُّهمت الولايات المتحدة ببذلها من أجل فرض اعتدال “جبهة النصرة” على المجتمع الدولي، وهو الاتهام الذي وجهه سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر شهر أيلول المنصرم.
ومما قاله لافروف حينذاك: “يتم الحفاظ على جداول الأعمال المخفية في مجال مكافحة الإرهاب على الرغم من قرارات مجلس الأمن الملزمة للجميع بإدراج في قوائم المنظمات الإرهابية، فقد أصبح بالنسبة لبعض البلدان قاعدة لإخراج الإرهابيين من تحت الضرب وحتى إقامة تعاون معهم على الأرض، كما يحدث هذا، على سبيل المثال، في أفغانستان وليبيا وسوريا”.
وشدد لافروف على أنه “في الولايات المتحدة، بدأوا بالفعل يتحدثون بصوت عالٍ عن أن جبهة النصرة على أنها هيكل معتدل يمكن التعامل معه”. وأضاف “يريدون إقناع أعضاء مجلس الأمن بهذا المنطق غير المقبول، كما اتضح من المناقشات الأخيرة حول وضع إدلب السورية”.
فهل تشير عودة سياسة الاغتيالات إلى تراجع الولايات المتحدة عن نهجها السابق في محاولة فرض “اعتدال” جبهة النصرة، أم على العكس قد تعزز تلك العودة هذا النهج من خلال تصفية ما تظن الولايات المتحدة أنها العناصر والقيادات الأكثر تطرفاً وبالتالي محاولة تخليص النصرة من شوائب التطرف التي ما تزال عالقة في بنيتها، من أجل مواصلة جهودها السابقة التي أشار إليها الوزير الروسي؟.
أسئلة كثيرة قد تبقى بدون إجابات واضحة. ولكن من المؤكد أنه مهما كانت الاعتبارات السياسية التي تقود سلوك الولايات المتحدة، فإنها تظلّ أدنى من الاعتبارات الأمنية التي تأخذها واشنطن على محمل الجد. وربما يؤكد توقيتُ تنفيذ اغتيال المهاجر هذه النقطة، إذ جاء في خضم مواجهات تتخذ منحى تصاعدياً بين الجيش السوري من جهة و”هيئة تحرير الشام” وحلفائها من جهة ثانية على جبهة ريف إدلب الجنوبي. فلم تكن الولايات المتحدة لتنفذ عملية الاغتيال في هذا التوقيت لولا إحساسها بالأهمية الأمنية البالغة للتخلص من الهدف وأن فرصة رصده قد لا تتكرر في القريب العاجل.
قد تكون في الأفق ثمة انعطافة أميركية في طريقة التعاطي مع “جبهة النصرة”، وقد تكون لهذه الانعطافة ما يبررها من اسباب أمنية تتعلق بالأمن القومي الأميركي (حسب مبررات واشنطن في العادة)، لكن من الواضح أن التدخل الأميركي في مناطق غرب سوريا – الخاضعة لاتفاقات خفض التصعيد- بدأ بالتزايد على نحو ملحوظ في الأشهر الأخيرة، من اغتيال البغدادي إلى اغتيال المهاجر، وقبلهما غارات حصدت عشرات من رؤوس “حراس الدين” و”أنصار التوحيد”.
قد تكون في الأفق ثمة انعطافة أميركية في طريقة التعاطي مع “جبهة النصرة”
السؤال الذي سيطرح نفسه كيف ستنظر أضلاع مثلث أستانا (روسيا، تركيا، وإيران) -بحكم أنها تولت مسؤولية منطقة إدلب- إلى تصاعد التدخل الأميركي في هذه المنطقة؟ هل ستتفهم الدول الثلاث الدواعي الأمنية التي ستسوقها واشنطن أم ستقرأ ذلك على أنه مسعى أميركي لخلط أوراق منطقة خفض التصعيد والعمل على قلب الطاولة على جميع الأطراف من خلال تلاعبها بخريطة الجماعات الجهادية والتحكم بمسارات تحولاتها على وقع الأحداث الميدانية والاستهدافات الأمنية؟