أقرت الكنيست الصهيونية حل نفسها، بأغلبية 91 صوتاً وعدم وجود اعتراضات قبل ساعات قليلة من نفاذ القانون القاضي بحل الكنيست تلقائيا خلال 90 يوماً إذا لم تتمكن من جمع 61 صوتاً يؤيدون تكليف أحد أعضائها بتشكيل حكومة جديدة. وسمح قرار الكنيست للأحزاب بالاتفاق على موعد محدد لإجراء الانتخابات، فيما إستمر تبادل الاتهامات الحزبية بالمسؤولية عن دفع الكيان العبري نحو الانتخابات للمرة الثالثة.
وبدا للجمهور الصهيوني أن أغلبية أحزابه تهتم بأمرها أكثر من إهتمامها بالمصلحة العامة، لأنها عجزت أولاً عن توفير مبالغ طائلة هي تكلفة الإنتخابات على الإقتصاد الإسرائيلي. وما زاد الطين بلة، أن هذه الأحزاب قررت عبر الكنيست زيادة تحميل الخزينة العامة تكاليف الدعاية الانتخابية لأعضاء الكنيست والقوائم الإنتخابية. ومن المؤكد أن هذه المسائل والاتهامات المرافقة لها، سوف تصاحب الحملة الانتخابية في المدة المتبقية على موعد الانتخابات، نظراً لقدرتها على التأثير على أصوات الناخبين. وهذا ما بدأ يظهر من تصريحات كل من قادة “الليكود” و”أزرق أبيض” و”إسرائيل بيتنا”.
نتنياهو تعامل كقيصر في السنوات الأخيرة، وغرق في مستنقع فساد قاد إلى توجيه اتهامات خطيرة له في ثلاثة ملفات فساد كبيرة
ومهما يكن من أمر، فإن اضطرار الدولة العبرية للذهاب إلى انتخابات ثالثة في غضون عام يشكل سابقة تاريخية تعبّر عن أزمة سياسية عميقة داخل المجتمع الصهيوني. ويرى البعض أن جانباً من هذه الأزمة يعود إلى شخصية زعيم “الليكود”، بنيامين نتنياهو، الذي تعامل كقيصر في السنوات الأخيرة، وغرق في مستنقع فساد قاد إلى توجيه اتهامات خطيرة له في ثلاثة ملفات فساد كبيرة. غير أن آخرين يعتقدون أن المشكلة تكمن أساساً في اندفاع اليمين القومي والديني إلى محاولة حسم الخلافات الجوهرية حول بنية وطبيعة المجتمع خصوصا في مسألتي السلام مع الفلسطينيين وعلاقة الدين بالدولة.
وكان واضحا، على الأقل من خلال نتائج انتخابات المرتين السابقتين، أن لليمين القومي والديني أغلبية واضحة في الكنيست لم يضعفها سوى واقع الخلافات المتصاعدة داخل هذا المعسكر. ومعروف أن خلافات شديدة كانت قائمة بين نتنياهو، وحزب “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينت وقادت في حينه إلى إخراج بينت من الكنيست. غير أن الخلاف الأشد أهمية هو القائم شخصيا بين نتنياهو وزعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان. وقد قاد هذا الخلاف أكثر من مرة إلى اسقاط حكومة اليمين وتقديم موعد الانتخابات. ولم تفلح كل مساعي الوساطة بعد أن إتخذ الخلاف بينهما طابعاً أيديولوجياً يتمثل بموقف ليبرمان من مسألة الدين والدولة.
وكانت قد بذلت مساعٍ مختلفة للحيلولة دون حل الكنيست مجدداً، ومنها ما اقترحه رئيس الكيان، رؤوفين ريفلين، وزعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان لمنع إجراء انتخابات ثالثة، وذلك عن طريق تشكيل حكومة وحدة وطنية. غير أن الصراع على هوية من يرأس هذه الحكومة ووجهتها، حال دون نجاح هذه المحاولة.
وشهدت الأسابيع الأخيرة ألاعيب من كل من “الليكود” و”أزرق أبيض” لإظهار أن الطرف الآخر هو من يعيق تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. وتمثلت آخر الألاعيب بمطالبة زعيم “أزرق أبيض”، بني غانتس خصمه نتنياهو بتسهيل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية عن طريق إعلان أنه لن يطلب بقاءه تحت الحصانة البرلمانية في مواجهة لوائح الاتهام ضده بالفساد. وحتى اللحظة الأخيرة قبل إقرار الكنيست حل نفسها، كانت هناك توقعات باحتمال أن يقدم نتنياهو على هذه الخطوة. لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدُث.
وكما كان الحال في الانتخابات السابقة، فإن جانباً هاماً من الحملة الانتخابية سيتوجه نحو مسألة الحصانة لبنيامين نتنياهو. وقد سبق للكثير من المعلقين أن أشاروا إلى أن كل ما يطمح إليه نتنياهو هو الحصول على أغلبية تمنع اسقاط الحصانة عنه ليبقى رئيساً للحكومة أطول فترة ممكنة حتى أثناء المحاكمة وقبل صدور الحكم النهائي. وربما لهذا السبب صعّد نتنياهو من ميله لليمين المتطرف على أمل توحيد هذا المعسكر خلفه عبر إستناده إلى الدعم الأمريكي، من جهة؛ وإعلاناته المتكررة بشأن ضم غور الأردن والكتل الاستيطانية، من جهة ثانية.
أعلن لبيد أن “الانتخابات المقبلة ستغدو مهرجانا للكراهية والعنف والاشمئزاز”، وقال “ما كان بالماضي الاحتفال الأكبر للديموقراطية (في إسرائيل)، يتحول اليوم إلى لحظة العار لهذا الحصن”
عموماً بدأت المعركة الانتخابية في إسرائيل قبل أن تقر الكنيست حل نفسها. ويمكن تلخيص توجهات هذه المعركة بتصريحين لعضوين بارزين في “أزرق أبيض” و”الليكود” في الكنيست ليل أمس. فقد أعلن الرجل الثاني في “أزرق أبيض”، يائير لبيد أن “للانتخابات المقبلة ثلاثة أسباب: الرشوة، الخداع وخيانة الأمانة”، وهي عناوين لائحة الاتهام القضائية ضد نتنياهو. وقد رد على ذلك وزير الخارجية “الليكودي”، إسرائيل كاتس بقوله أن “لهذه الانتخابات ثلاثة أسباب فقط: يائير لبيد وغابي أشكنازي وموشي يعلون الذين حالوا دون غانتس وإقامة حكومة وحدة وطنية”. بدوره، أعلن لبيد أن “الانتخابات المقبلة ستغدو مهرجانا للكراهية والعنف والاشمئزاز”، وقال “ما كان بالماضي الاحتفال الأكبر للديموقراطية (في إسرائيل)، يتحول اليوم إلى لحظة العار لهذا الحصن”.
وهذا يعني أن الحملة الانتخابية للطرفين ستستند إلى قضايا فساد نتنياهو وإلى الاتهامات بشأن من يتحمل مسؤولية عدم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. ومن الواضح أن التركيز سيكون على الأشخاص وليس على القضايا، ما يعني أن كل طرف سيبحث في الأرشيف عن الماضي الأسود للطرف الآخر. وبين هذا وذاك، ستطرح قضايا كالتي أثيرت في الأيام الأخيرة، وبينها أيضا مسألة ضم غور الأردن ورفض منح الحصانة البرلمانية لنتنياهو.
يبدو أن “القائمة العربية المشتركة” هي الأكثر وثوقاً بنفسها حيث أعلن الدكتور أحمد الطيبي أن القائمة ستزيد كتلتها هذه المرة في الكنيست من 13 عضواً إلى 15 عضواً
تجدر الإشارة إلى أن ثمة معنى لما أطلقه عضو الكنيست من “الليكود” دافيد بيتان من أن الانتخابات المقبلة هي “الفرصة الأخيرة لنتنياهو”. وقال أن “نتنياهو سيجلب المزيد من المقاعد لليكود، وهو وحده القادر”، لكنه استدرك قائلاً أن “الليكود سيفحص هوية زعيم الحزب وفق نتائج الانتخابات”. وهذا يشجع على ما سبق وأعلنه جدعون ساعر، المنافس الأقوى لنتنياهو في “الليكود”، من أن نتنياهو لا يمكنه أن يجلب الحكم لحزب “الليكود” مرة أخرى.
في كل حال، قرر “الليكود” إجراء انتخابات مبكرة للزعامة في 26 كانون الأول/ديسمبر الحالي ومن المتوقع أن يتنافس فيها كل من جدعون ساعر وبنيامين نتنياهو، خلافاً لموقف كثيرين من أعضاء “الليكود”.
ومن المتوقع أن يتوجه “الليكود” في معركته الانتخابية في آذار/مارس المقبل ضد العرب واليسار و”أزرق أبيض” معاً. في المقابل، سيركز “أزرق أبيض” على “الليكود”. ويبدو أن معسكر اليمين سيواجه صراعات داخلية شديدة خصوصا بين “الليكود” واليمين الجديد و”إسرائيل بيتنا”. وقد تموضع زعيم “إسرائيل بيتنا” في الوسط بين “الليكود” و”أزرق أبيض”، متهماً الطرفين بإفشال حكومة الوحدة الوطنية.
وثمة خشية لدى أطراف معسكر اليمين من فشل أحد أحزابه في اجتياز نسبة الحسم التي تمكنه من دخول الكنيست المقبلة. كما أن هذه الخشية قائمة أيضا في معسكر اليسار، وخصوصاً لدى كل من حزبي “ميرتس” و”العمل”.
ويبدو أن “القائمة العربية المشتركة” هي الأكثر وثوقاً بنفسها حيث أعلن الدكتور أحمد الطيبي أن القائمة ستزيد كتلتها هذه المرة في الكنيست من 13 عضواً إلى 15 عضواً.
ومن المهم الإشارة إلى أن أموراً مستقبليةً كثيرةً تعتمد على حجم المعسكرات. والمعروف أن خصام أفيغدور ليبرمان مع نتنياهو وحملته على الأحزاب الدينية قد تنتهي إذا خرج نتنياهو من زعامة “الليكود” نهاية هذا الشهر. وفي هذه الحالة، فإن معسكر اليمين سيكون في موقع أفضل لتشكيل الحكومة. ومعروف أيضا أن حزب “أزرق أبيض” لا جرأة لديه للاستناد إلى أصوات “القائمة العربية المشتركة”، كما أنه ليس سهلاً على “القائمة” أن تدعم صراحةً حزباً يحارب العرب ويعزز الاحتلال.
وأياً يكن الأمر، فإن إستطلاعات الرأي في الكيان الصهيوني لا تظهر حدوث تغييرات كبيرة في النتائج المحتملة عما هو قائم. ولكن الأمر لا يحتاج إلى تغييرات كبيرة. ربما أن تغييرا طفيفا يكفي. فقد أفلح نتنياهو هذه المرة في تشكيل قوة مانعة حاصرت “أزرق أبيض” وتكفي قوة جديدة قليلة لتغيير هذه الصورة.
وتظهر آخر الاستطلاعات أن ما يسمى بمعسكر الوسط ـ يسار – العرب يمكن أن ينال في الانتخابات المقبلة 60 مقعداً. وإذا حدث ذلك، فإن إحتمالات إستمرار الأزمة السياسية تبقى عالية في ظل الشرخ الواسع بين مكونات الحلبة السياسية الصهيونية. ولكن هذه الصورة قد تتغير إذا غاب نتنياهو عن المشهد.
(*) كاتب عربي متخصص بالشأن الإسرائيلي