الحريري وباسيل: أنا الديكتاتور.. أنا الرئيس

مع التأجيل الجديد للإستشارات النيابية الملزمة من اليوم الإثنين حتى الخميس المقبل، لن تتغير الأرقام والمعطيات، إلا إذا عدنا إلى مربع البحث عن شخصية يسميها سعد الحريري لرئاسة الحكومة الجديدة

أكثر من خمسين نائبا، سيعيدون تسمية سعد الحريري، الخميس المقبل، في لحظة إقتصادية ومالية خطيرة وإستثنائية لم يواجه لبنان مثيلاً لها منذ الإستقلال حتى يومنا هذا. الآخرون من النواب، إما سيمتنعون، وهم حوالي 40 نائباً، أو أقلية ترشح إسماً ثانياً (مثل نواف سلام)، أو تفويض رئيس الجمهورية بأن يسمي من يشاء، وذلك كما فعلت بعض الكتل النيابية في مستهل عهد الرئيس اللبناني السابق إميل لحود في العام 1998، وهذا الأمر ينطبق على كتلة لبنان القوي وحلفائها تحديدا (حوالي 25 نائباً).

ماذا بعد؟

أولاً، لا بد من العودة إلى عشية التكليف. ما جرى في وسط بيروت، في اليومين الماضيين، لم يكن حدثاً أمنياً أو أعمال شغب أو من صنع بعض “الزعران” ممن لا يمون أحد عليهم، سياسةً وأمناً. ما جرى كان سياسياً بإمتياز، وربما تتكشف أبعاده الكاملة لاحقاً. الأكيد أن ثمة معلومات خطيرة بحوزة بعض الأجهزة الأمنية: كان المطلوب ليس إسالة دم وحسب، بل سقوط ضحايا، لذلك، بدا للوهلة الأولى أن لا سياق ولا تفسير سياسياً منطقياً لما يجري. ثم تبين أن ثمة تضافر قوى بين أهل السلطة وبعض الحراك المرتبط بأجهزة و”أجندات”، ولكن لكل منهم لعبته وحساباته، لا بل صار لمعظم القوى العسكرية والأمنية الرسمية محركاتها السياسية بالدرجة الأولى، وهذا الأمر يسهّل كثيراً محاولة فهم ما جرى في وسط العاصمة وبعض الأحياء المحيطة به، وهو سيناريو قابل للتكرار في الساعات والأيام المقبلة، “طالما أن بعض الأجهزة تغني على ليلاها السياسية”، على حد تعبير مصادر واسعة الإطلاع.

ثانياً، يُسجل لسعد الحريري أنه نجح على مدى 50 يوماً في محاولة الإستثمار في الحراك الشعبي، سواء في ساحات مناطقية مثل طرابلس وعكار وصيدا والبقاع وبعض العاصمة، أو في الحراك السياسي، فخاض لعبة حرق أسماء المرشحين لرئاسة الحكومة، وآخرهم سمير الخطيب، من دون أن يرف له جفن، لكأن أوضاع لبنان الإقتصادية والمالية، وخصوصا ما يشهده القطاع المصرفي، تسمح بترف إضاعة الوقت وخوض المناورات السياسية، وهي مسألة تطال أيضا خصوم الحريري الذين كان بمقدورهم حسم الأمور منذ اليوم الأول، لا تركها تأخذ مداها، على قاعدة “إنضاجها”، حتى تصبح أمراً واقعاً بعد أربعين يوماً.

نحن أمام لحظة إفتراق، ستجعل قوة الدفع الرئيسية في الحراك، وخصوصا المكونات اليسارية الوازنة، تصوّب على الحريري، بوصفه “يشكل رأس حربة لنهج إقتصادي ومالي يتحمل مسؤولية أساسية عما آلت إليه أوضاع لبنان”

ثالثاً، ثمة نقطة ألمحنا إليها، قبل أيام قليلة، بأن تكليف سعد الحريري سيضع الحراك أمام لحظة حقيقة صعبة وحاسمة. لن يكون سهلاً إستثناء الحريري من معادلة “كلن يعني كلن”، وبالتالي، نحن أمام لحظة إفتراق، ستجعل قوة الدفع الرئيسية في الحراك، وخصوصا المكونات اليسارية الوازنة، تصوّب على الحريري، بوصفه “يشكل رأس حربة لنهج إقتصادي ومالي يتحمل مسؤولية أساسية عما آلت إليه أوضاع لبنان منذ ثلاثة عقود وحتى يومنا هذا”. في المقابل، قد نشهد أداءً حريرياً في مواجهة الحراك، تجلت باكورته في الأوامر التي أعطتها وزارة الداخلية وقيادة قوى الأمن الداخلي، أمس، للتعامل مع ما جرى في عدد من أحياء العاصمة. كما أن المستشار السياسي للحريري الدكتور غطاس خوري قال، يوم السبت الماضي، كلاماً واضحاً من معراب:”صحيح هناك شعار كلن يعني كلن، ولكن هناك أيضا جمهور آخر موجود في البلاد، وإذا ما أردنا الحل علينا الأخذ بالإعتبار كل من هم في البلد من دون استثناء أي طرف”، وفي هذا التصريح أول تلميح إلى إستخدام الشارع الحريري في مواجهة شارع الحراك.

رابعاً، ثمة مأزق سياسي يواجه العهد، لم يكن يخطر في بال أحد، لا العهد نفسه (ميشال عون وجبران باسيل) في أسوأ كوابيسه، ولا ألد خصومه في الساحة المسيحية، في أجمل أحلامهم. أن يُقرر “التيار الوطني الحر” برئاسة باسيل أن يكون رأس حربة معارضة حكومة العهد الثالثة. واقع إن حصل يطرح أسئلة كثيرة، خصوصا وأن باسيل حَكَمَ مسبقا على الحكومة الآتية بأنها ستفشل حتماً، وبالتالي، هل يعقل أنه في هكذا لحظة سياسية مفصلية، يتصرف هذا الحزب أو ذاك بما يفيد منظومة مصالحه حصراً دونما إلتفات إلى واقع البلد الخطير، وهل الإنهيار إذا وقع سيطال فئة دون أخرى وهل سيكون العهد بمنأى عن الفشل إذا فشلت أية حكومة جديدة، وهل يمكن أن يقتصر مردود الفشل على رئيس الوزراء وباقي مكونات الحكومة ولا يطال رئاسة الجمهورية؟

إذا قرر رئيس الجمهورية أن يسمي أغلبية الوزراء المسيحيين ـ وعلى الأرجح سيفعل ذلك ـ فإنه يقول للحريري أنا لن أسمح في عهدي بوجود “ديكتاتور مودرن” في رئاسة الحكومة إسمه سعد الحريري

 

خامساً، برغم التسريبات التي أوحت أن ميشال عون نفسه لن يسمي أي وزير مسيحي في الحكومة الجديدة، فإن الوقائع تشي بعكس ذلك. لا أحد يتصور أن التيار الوطني الحر يمكن أن يتخلى عن وزارات مثل الطاقة والخارجية والعدلية والبيئة، وإذا قرر رئيس الجمهورية أن يسمي أغلبية الوزراء المسيحيين ـ وعلى الأرجح سيفعل ذلك ـ فإنه يقول للحريري أنا لن أسمح في عهدي بوجود “ديكتاتور مودرن” في رئاسة الحكومة إسمه سعد الحريري. لذلك، ستصبح المعادلة أصعب بالنسبة إلى عون وباسيل، بأن يتصرف أحدهما كحاكم والثاني كمعارض. الأفدح أن المعارض للعهد والحكومة، أي باسيل، سيكون هو الحاكم الفعلي للبلد!

إقرأ على موقع 180  عن مشروعَي أركون والجابري في ظِلال ميشال فوكو (5)

سادساً، وفق اللعبة السياسية التقليدية، ثمة موازين قوى لا أحد يستطيع القفز فوقها أو تجاهلها. يستطيع فريق الأكثرية النيابية أن يسقط أية حكومة في مجلس النواب. يسري الأمر كذلك على مجلس الوزراء، كون هذا الفريق لن يقبل بأقل من الثلث الوزاري الضامن وربما النصف زائدا واحد. أي في الحالتين، سيكون صمود الحكومة أو سقوطها بيد فريق الأكثرية النيابية. لذلك، سيكون الحريري معنياً بأن يضبط جدول أعمال ما يسميها “حكومته الإنتقالية” ـ إذا تشكلت ـ (يقدّر رئيس الحكومة المستقيل أن عمرها لن يتجاوز الستة أشهر) بالتنسيق والشراكة الكاملة مع “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل)، أو أن ينجح في “ضبط” جدول أعمال حكومة تصريف الأعمال، في إنتظار توفر الظروف لتشكيل حكومة جديدة.

سابعاً، لا يبدو في هذه اللحظة السياسية أن هناك من يرغب بتجاوز الميثاقية أو المس بالصيغة السياسية برغم تحفظه أو إعتراضه عليها. الأنكى من ذلك أن أكثر المتمسكين بالميثاقية في السنوات الأخيرة يريد الإنقلاب عليها. فليس خافياً على أحد، خصوصاً بعد إطلالة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأخيرة، أن فريقاً وازناً ضمن فريق الأكثرية النيابية، على رأسه التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، كان يدفع بإتجاه حكومة اللون الواحد، بلا أدنى تردد، وهو “قاتَلَ” (بكل معنى كلمة القتال) للخروج من الخيار الحريري، غير أن “الثنائي الشيعي” متآزرا ومتحداً، رفض أصل البحث بهكذا خيار، متسلحاً بالميثاقية نفسها التي أوصلت عون إلى رئاسة الجمهورية. وقد كان جواب “الثنائي” واضحاً: “لا نحن قادرون ولا نملك الرغبة أو الإرادة بتخطي الموقع الميثاقي لأي مكون طائفي أو مذهبي أو سياسي، لا بل نحن حريصون وأكثر من أي وقت مضى، تبعاً للحظة الإستثنائية، على تثبيت المعادلة الميثاقية ورفض المس بها، وهذه قاعدة تسري على الجميع بما فيها التيار الوطني الحر، فإذا حاول الحريري، بعد تكليفه، المس بالموقع الميثاقي أو التسلل من خرم إبرة محاربة الفساد لضرب الميثاقية، ولا سيما ببعدها المسيحي، فنحن سنكون في طليعة الرافضين والمتصدين لأية محاولة للمس بالميثاقية”. الميثاقية نفسها جعلت الحريري، علىىالأرجح، يطلب تأجيل الإستشارات إلى يوم الخميس المقبل، خصوصا بعد تبلغه قرار القوات اللبنانية عدم تسميته، ما يفقده الميثاقية المسيحية (القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والكتائب لن يسموا الحريري)

لا الحراك يستطيع أن يستمر أسير “اللا” ولا يجوز لأية قوة سياسية أن تتصرف بذهنية الإستثمار في الكارثة الوطنية المحدقة بالبلد أو الإستئثار الطائفي أو السياسي

ثامناً، ما بعد تكليف الحريري، لن يكون كما قبله. لا القوى التي ستسميه، قد تمضي في رحلة التأليف معه، ولا القوى التي لم تفوّضه، قد يكون موقفها سلبياً منه بعد التأليف. الأمر رهن بمسار التأليف الوزاري الشائك والمتشابك، وبالتالي، لن يكون بمقدور الحريري أن يفوز بحكومة إختصاصيين لا يكون إلا هو السياسي الوحيد فيها. حتماً، سيكون محكوماً إما بالذهاب إلى حكومة إنقاذية تكنوسياسية، بأوسع غطاء وطني ميثاقي، أو أن يعتذر في نهاية رحلة التكليف، وهي رحلة يرجح أن تطول هذه المرة، كما تبشّر معظم المؤشرات والمعطيات الداخلية والخارجية.

تاسعاً، لا مناص من تشكيل حكومة جدية فاعلة ومنتجة. حكومة تعطي بإسم معظم الوزراء فيها إشارات إيجابية إلى الداخل والخارج. حكومة تضع الجميع أمام مسؤولياتهم وتحرج من يريد أن يتهرب من المسؤولية الوطنية، فلا الحراك يستطيع أن يستمر أسير “اللا” ولا يجوز لأية قوة سياسية أن تتصرف بذهنية الإستثمار في الكارثة الوطنية المحدقة بالبلد أو الإستئثار الطائفي أو السياسي. أيضاً لا يجوز للمصارف أن تتصرف بوصفها الآمرة والناهية والمتحكمة برقاب اللبنانيين وجنى عمرهم وتعبهم، ولا يحق لمصرف لبنان أن ينسحب من المسؤولية المالية ويرميها على غيره، ليحصر دوره بالأمرة النقدية، خلافاً لسلوكياته في كل العقود السابقة. ثمة كارثة إقتصادية ومالية وإجتماعية، وحتماً ستزداد الأمور صعوبةً، وسيزداد حجم المتضررين ولا بد من آليات تشرك الجميع في الإنقاذ، من دون إستثناء أحد.

عاشراً، لا بد وأن تبقى العين مفتوحة على الأمن. ثمة مراهنات على جر البلد إلى مطارح صعبة جدا، وما تملكه الأجهزة الأمنية من معلومات يشي بأن مناخ الفوضى قد يسهّل كثيرا على من يريد الإستثمار والإصطياد في الماء العكر، وللفوضى من يريد أن يجعلها مدخلاً لخيارات سياسية ـ رئاسية، قد تكون أولى تعبيراتها “حكومة طوارىء عسكرية”… لننتظر ونرَ.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عن مشروعَي أركون والجابري في ظِلال ميشال فوكو (5)