لقاء باريس المُخصص للبنان “ينتهى قبل أن يبدأ”!

قيلَ وكُتبَ الكثير عن المساعي الفرنسية للمساعدة في إيجاد المخارج المقبولة لمأزق الانتخابات الرئاسية اللبنانية وآخرها استضافة باريس للقاء خماسي فرنسي - أميركي - سعودي - قطري - مصري، فماذا عن الأجواء التي رافقت هذه الجهود وعن نتائجها؟

تروي شخصية ديبلوماسية فرنسية رفيعة زارت لبنان أخيراً، وهي سبق لها أن زارته مرات عدة في مناسبات وظروف مختلفة، أنها أصيبت بصدمة لدى وصولها إلى بيروت، وذلك بفعل “العتمة” التي تلفّ العاصمة (نتيجة انقطاع التيار الكهربائي بشكل متواصل). وتضيف: “صحيح أننا سمعنا وقرأنا عن هذه الأزمة أكان في التقارير الديبلوماسية أو من خلال التحقيقات والمقالات الصحافية، ولكن ما تراه بأم العين يترك أثراً بليغاً في النفس التي يعتريها الذهول والألم والكآبة”.

لكن هذه الصدمة تبقى أقل ثقلاً ووقعاً وذهولاً من التي ستشعر بها هذه الشخصية الزائرة بعد لقائها بعدد من المراجع الرسمية اللبنانية، على حد قول تلك الشخصية. فخلال الحديث مع ممثلي هذه السلطات تأتي المفاجأة الصادمة من أن هؤلاء المسؤولين في لبنان يتحدثون عن كل المواضيع الإقليمية والدولية ويغوصون فيها ويُحلّلون تفاصيلها، أما الغائب الأبرز عن كلامهم فهو الشعب اللبناني وهمومه ومشاكله و”كأن المتحدثين يعيشون في كوكب آخر”!

وأكثر ما يقلق الأوساط الفرنسية المعنية بالملف اللبناني “ليس الفراغ الرئاسي فحسب بل مجموع الفراغات في مختلف مفاصل الدولة والشغور في مؤسساتها”، والتخوف من أن ينعكس انسداد الأفق السياسي الذي يترافق مع الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق على الإستقرار الإجتماعي ويُهدّد الوضع الأمني مع انتشار حال الفوضى والجريمة والفلتان مع تزايد تدفق الهجرة غير الشرعية باتجاه الشواطىء المتوسطية – الأوروبية. وتشير هذه الأوساط إلى أنه من الخطأ أن يعتقد البعض في لبنان أن الوضع الحالي مشابه ومماثل لظروف عام 2014 وتُشدّد على أن الوضع اليوم في سنة 2023 قاتمٌ وخطيرٌ جداً والانهيار يهدّد بالسقوط الكامل للبنيان اللبناني.

تسارع الرسائل والاشارات المتبادلة في الأيام والساعات التي سبقت إنعقاد اللقاء الخماسي وأظهرت “إعادة تموضع ومراجعة حسابات” للجهات الداخلية والخارجية المعنية بالملف الرئاسي اللبناني

كل هذه العوامل جعلت فرنسا تتحرك على أكثر من صعيد داخلي لبناني وفي أكثر من اتجاه خارجي. وهي كثّفت اتصالاتها في الأسبوعين الأخيرين اللذين سبقا انعقاد اللقاء الخماسي في باريس يوم الإثنين الماضي.

والملفت للإنتباه أن سؤالاً طُرح عشية انعقاد هذا اللقاء على مصدر يُلمُ بملف العلاقات الفرنسية – اللبنانية حول توقعاته من هذا الحراك الفرنسي، فسارع إلى التقليل من الزخم الذي أراد كثيرون إعطاءه للقاء لا بل ذهب أبعد من ذلك إلى حد قول كلام تشاؤمي: “انتهى هذا اللقاء قبل أن يبدأ”، مُضيفاً أنه “لن يُقدّم ولن يؤخر”!

لا أولوية للملف اللبناني

ما هي المعطيات التي يستند إليها هذا المصدر القريب من الإتصالات المتعلقة بالملف اللبناني لإبداء هذا الرأي قبل 48 ساعة من إنعقاد اللقاء؟

أولاً، صفة اللقاء: “تشاوري – تقني”، أي أنه ليس تقريرياً ولا تنفيذياً.

ثانياً، مستوى ممثلي الدول الخمس المشاركة: موظفون ومستشارون وسفراء. لا تمثيل وزارياً ولا رئاسياً.

ثالثاً، غياب دواعي “العجلة والأولوية” عن الملف اللبناني في سلم الإهتمامات الإقليمية والدولية الحالي.

رابعاً، أجواء التوتر والتشنج بين باريس وطهران، حيث تردت مؤخراً العلاقات الثنائية الفرنسية – الإيرانية، وجاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى باريس وزيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إلى الرياض لتصب الزيت على النار نتيجة الموقف الفرنسي المتشدد أكان حيال الوضع الإيراني الداخلي أو على صعيد الملف النووي. (السلطات الايرانية تحتجزحالياً في سجونها ستة فرنسيين ووجهت إلى بعضهم تهمة التجسس، في وقت تعتبرهم باريس “رهائن دولة” لدى إيران. وعلم أن مساع قائمة في الوقت الحاضر لاطلاقهم ومنهم من يشكو من وضع صحي صعب، وقد أُطلق فعلاً مساء أمس (الجمعة) سراح المحتجزة السابعة وهي باحثة جامعية تحمل الجنسية المزدوجة الإيرانية والفرنسية). .

خامساً، عدم نضوج ظروف التقارب السعودي – الإيراني. صحيح أن التواصل قائم ومتقدم بين البلدين إلا أن شروط حلحلة المشاكل العالقة بينهما وأولها القضية اليمنية لم تتبلور بعد.

سادساً، والأهم، تسارع الرسائل والاشارات المتبادلة في الأيام والساعات التي سبقت إنعقاد اللقاء الخماسي وأظهرت “إعادة تموضع ومراجعة حسابات” للجهات الداخلية والخارجية المعنية بالملف الرئاسي اللبناني.

وفي هذا الإطار، يبدو أنه كانت ثمة طروح تم تقديمها خلال الاتصالات والمشاورات البعيدة عن الأضواء وكان الفرقاء المعنيون ينتظرون أجوبة بغية تحديد الموقف المناسب.

ويُشير المصدر إلى أن ثمة قناعة في أن عقدة الرئاسة اللبنانية مزدوجة؛ خارجية مرتبطة بالتسوية السعودية – الإيرانية، وداخلية متمثلة بموقف حزب الله من الاستحقاق الرئاسي. من هنا كان هذا الفريق هو محور مساعي التشاور وتبادل وجهات النظر. وقد جهدت باريس لتحييد ملف علاقاتها المتوترة مع إيران عن رغبتها في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع حزب الله.

إقرأ على موقع 180  حرب إسرائيلية.. وانتفاضة فلسطينية

ما بين “الضمانات” و”التطمينات”

في ظل هذه الأجواء، تسارعت عملية تبادل الرسائل أكان من خلال الزيارات أو التسريبات الصحافية وإطلاق التغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال التصريحات والمواقف العالية النبرة. فالجانب السعودي حاول من جهته الحصول على “تطمينات”، فكانت زيارة سفير المملكة إلى اليرزة واستقبال الرياض لموفد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط النائب وائل أبو فاعور وغيرها من الاتصالات التي بقيت طي الكتمان.

من جهته، تحرك حزب الله على خطين: الأول، معرفة “حقيقة الضمانات الفعلية” التي يحصل عليها في حال سار بخيار قائد الجيش العماد جوزيف عون، والثاني، على خط الرابية وميرنا الشالوحي بفعل حرصه على ابقاء “خيط رفيع” مع حلفائه المسيحيين، فهو اذا تخلى عن حليفه سليمان فرنجية وانتكست علاقته مع التيار الوطني الحر قد يجد نفسه “متجرداً من اي غطاء مسيحي وازن”.

تبعت ذلك عملية تفسير كل خطوة من هذا الجانب وذاك. ففي حين أحدثت خطوة السعودية باتجاه اليرزة “نقزة” في أوساط حزب الله، جاءت زيارة الحزب والبيان المكتوب للنائب محمد رعد بداية الرسالة والتي تولى الرئيس نبيه بري التعبيرعنها بشكل أوضح من خلال التسريبات، وهو انه لا يحبذ إجراء اي تعديل دستوري. ثم أضاف بالصوت والصورة بكلامه عن “بلوغ سن الرشد السياسي”، وبالتالي لا حاجة لأي وصاية خارجية. وكرّت بعدها سبحة تصريحات علنية لأركان حزب الله منتقدين بأعلى صوت “التدخلات والمداخلات الخارجية”.

رأى المصدر الفرنسي المُتابع أن شخصية الرئيس العتيد ستأتي كنتاج للتسوية وبمواصفات تُطمئن هذا الجانب دون أن تكون معادية أو مزعجة للجانب الآخر

في المقابل، أثارت تغريدة فرنجية حول الجنرال قاسم سليماني ووصفه بـ”الرجل العظيم” حفيظة الجانب السعودي، وفي وقت لاحق “أغضب” تعليقه الملتبس بعد الزلزال الذي ضرب سوريا الأوساط القريبة من دمشق.

هذا التخبط في المواقف المتبادلة وردود الفعل عليها أعاد تلبيد الغيوم في أجواء المساعي الرئاسية وجعل الجهات الخارجية المعنية وفي مقدمها فرقاء اللقاء الخماسي يتريثون في إصدار أي موقف في انتظار تبلور تطورات جديدة تأتي بظروف مؤاتية وتتخذ عندها كل دولة من الدول الخمس المعنية الموقف الملائم.. وفي هذا الإطار، رأى المصدر الفرنسي المُتابع أن شخصية الرئيس العتيد ستأتي كنتاج للتسوية وبمواصفات تُطمئن هذا الجانب دون أن تكون معادية أو مزعجة للجانب الآخر.

والملفت للنظر أنه في الوقت الذي كان البعض في بيروت ينتظر ويعوِّل على صدور بيان حول لقاء باريس الخماسي، صدر في العاصمة الفرنسية عن الناطق باسم وزارة الخارجية بيان ثنائي فرنسي – أميركي يشير إلى مواضيع بحث وتشاور خلال إتصال هاتفي بين وزيرة خارجية فرنسا كاترين كولونا ونظيرها الأميركي انطوني بلينكن. وقد عدّد البيان هذه المواضيع والمواقف المشتركة التي اتخذت حيالها من أوكرانيا إلى ايران وصولاً إلى الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة مع التطرق الى الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، أما الغائب الأكبر والأبرز عن البيان.. فكان الوضع في لبنان والاستحقاق الرئاسي فيه!

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الموقف الفرنسي - الأميركي لبنانياً وفلسطينياً نحو "التعاون الوثيق"