تبّاً! كان منتظراً من الرئيس المكلف لعب أفضل من تكرار نكتة عتيقة هجرها السياسيون منذ زمن بعيد، بعدما لم تعد تضحك لبنانياً. كان مرتقباً منه أن يبدأ من حيث انتهى كتاب الألف صورة وصورة (وكُلها لحسّان) الذي بات تسليتنا الوحيدة مُذ طاف الكتاب على السطح مجدداً إثر تكليف حسّان بتشكيل الحكومة. الكتاب الذي كلّف الكوكب عدداً ليس هيناً من الأشجار. الكتاب الذي بحجم مركب صيد ومع ذلك لا يصلح لاصطياد سمكة.
ليس على حسّان دياب الآن أن يُنافس من سبقه إلى المنصب. تخطاهم جميعاً بمجرد أن حمل العبء الذي لو آل لغيره لما اتصل إليه، من رياض الصلح إلى سعد الحريري. فحسّان بدا كمن قفز قفزة عملاقة، سوبرمانية، من الرجل الذي لا يترك أثراً في ذاكرة أحد، إلى الرجل الذي لن ينساه بعد اليوم أحد.
هذه النجومية التي سطعت بشكل خرافي، لم يكن تكليفه سببها، بل كتاب انجازاته خلال “ولايته” وزارة التربية. الكتاب الذي ظلمناه إذ لم نعرف عنه إلا أنه كلّف لبنان سبعين مليون ليرة. الكتاب الذي لم يُتح لنا، إلى لحظة اكتشافه، أن نتفرج فيه على حسّان مُصغياً، مُلتفتاً، مُحدثاً، مُفتتحاً، مُنتصباً (لا. لا يوجد نائماً على الإرجح لأن حسّان يبدو في معظم الصور فاتحاً عينيه محدقاً في الكاميرا). الكتاب الملحمي. الكائن الاسطوري. الكتاب.. الكتاب.
لن ينافس حسّان أي رئيس حكومة لبناني، أو غير لبناني. حسّان لن ينافس حتى ونستون تشرشل، أشهر رئيس وزراء في تاريخ البشر. حتى الملكة إليزابيث الثانية المستوية على العرش منذ مئات السنين لا تنافسه. حتى دونالد ترامب. حتى عزيزنا الكوري الشمالي، ووالده وجدّه من قبله. النرجسيون لا يسعون إلى المنافسة، لأنهم، حُكماً، لا يرون غيرهم في المرآة. وعلينا أن نتفق بأن حسّاناً شخص نرجسي. لكنه نرجسي متسرع. وضع كل برتقالاته في كتاب واحد، حتى صار الكتاب هو المنافس الوحيد، اللعين، لحسّان. حتى يكاد يكون السؤال الآن ليس في كم كلّف الكتاب، وماذا في الكتاب، وأيُّ ضحكٍ وفّره لنا الكتاب، بل كيف يتخلص حسّان من الكتاب.
لا شك أن حسّان دياب سيتجاهل الكتاب، لكن الكتاب لن يتجاهل حسّان دياب. سيظل يلاحقه، إن اعتذر عن التكليف أم لم يعتذر، إن شكّل حكومة أم لم يشكّل. إن أخرج لبنان من إنهياره المُستدام أم لم يُخرجه
لا شك أن حسّان دياب سيتجاهل الكتاب، لكن الكتاب لن يتجاهل حسّان دياب. سيظل يلاحقه، إن اعتذر عن التكليف أم لم يعتذر، إن شكّل حكومة أم لم يشكّل. إن أخرج لبنان من إنهياره المُستدام أم لم يُخرجه. إن أنقذ هذا البلد الحزين أم لم يُنقذه. حتى اللحظة، حسان دياب هو الحمامة التي ينتظرها نوح لتحمل للبلد الغارق.. غصن الزيتون، لكنه لا يشي بأنه حمامة الخلاص.
إنه أستاذ جامعي آخر، بسيرة ذاتية لا شيء في ضخامتها يوحي بأن لصاحبها رؤية واضحة، علمية، أكاديمية، سياسية، إقتصادية، إجتماعية، لإخراج لبنان مما هو فيه، حتى لو كان يصف نفسه بأنه مستقل. إنه رئيس شبه مجهول، تضخمت أناه بشكل كاريكاتوري حين صار في السابق وزيراً، ولا يعرف ما الذي ينتظره وقد صار رئيساً، وأي نوع من السياسيين سيتعاطى معه، وليس له رأي واحد حاسم في مسألة من مسائل البلد المنهك. ليس لديه إلا ذاك الكتاب الذي لا يصلح مرجعاً لأحد، إلا لذكرياته، ناظراً إلى صورته في المرايا المتقابلة، كأنه جالس إلى كرسي حلاق.
لن يأتي بالتغيير رجل خارج من كتاب مصوّر. وحده سوبرمان فعلها في بدايات القرن العشرين. لكن ذاك أتى من كوكب آخر شمسُه حمراء، وإكتسب قوة إستثنائية بسبب شمس كوكبنا الصفراء. بات يطير وينقذ بيد واحدة طائرة تهوي، ويتنفس في فضاء من دون أوكسجين ويذيب الفولاذ بنظراته. حسان دياب ليس سوبرمان. لم يأتِ من كوكب آخر. إنه ابن هذه البيئة اللبنانية المتكلفة الكاذبة. ابن المجتمع العام الذي يفترض أن النجاح يرتبط بتضخم الـ”سي. في” وفي ترداد الكليشيه المناسب في اللحظة المناسبة، وليس في الإعتراض على الحال الراسخ. ليس في الإعتراض على الطبقة الحاكمة برمتها، ليس في الإعتراض على أدنى الأخلاق السياسية والاجتماعية المعدومة لهذا البلد.
كل هذا لا يعني حسّان دياب. إنه نرجسي لا يجيد أي مشاعر أو أفكار أخرى ما دامت تتخطى صورته. لا يحب. لا يكره. لا يتخذ موقفاً مع أو ضد. ليس لديه قضية حقيقية إلا نفسه. هكذا قال كتابه المحفوظ ولا شيء فيه يوحي بأنه سيتخطى ما جاء في كتابه من إنبهار بالمنصب وبالاحتفالات الرسمية المرافقة له، الخاوية من أي معنى.
ليس حسّان من سينقذ لبنان، حتى لو شكل حكومة منه فقط ولا أحد فيها غيره. حتى لو جلس في مجلس وزراء من دون ميشال عون. مجلس وزراء كل جدرانه مرايا، لا يتكرر فيها إلا حسّان دياب
يشبه زين العابدين بن علي، الرجل الذي بقي في تمام شبابه حتى بينما الكاميرا تلتقطه عن بعد أمتار بعيدة وهو يقول “فهمتكم فهمتكم”. حسّان ليس ديكتاتوراً. يبدو أبعد بسنوات ضوئية من أن يكون كذلك، وأكثر لطفاً. والبلد لن يسمح. لن يكون حتى بديكتاتور.
لكن، ماذا لو؟
ماذا لو أن موجة شعبية تسونامية جارفة، عبرت بحسّان دياب فوق الطوائف وفوق 17 تشرين/أكتوبر، وفوق كل الزعامات المكرسة وفوق جبران باسيل. ماذا لو بات هو القائد المفدى؟ الأخ الأكبر؟ 1984؟ أي كتاب مصور سيُصدر ومن كم صفحة؟ كم عدد الصور التي ستطبع فيه؟ كم مرة سيكون حسّان دياب مفتتحاً، ملتفتاً، مصغياً، ناظراً في صورته ناظراً في صورته ناظراً في صورته ناظراً في صورته في المرآة؟ لمن ننصب تماثلاً، له أم لكتابه السماوي العظيم؟
هذا خيال علمي، وحسّان دياب أقل من أن يكون بطلاً لقصة خيال علمي. إنه رجل مخدوع، جعلته السياسية اللبنانية يظن أنه فعلاً قادر على انقاذ هذا البلد بمجرد أن يردد الكلام الملائم للمرحلة. ويبدو، لنرجسيته الصافية، أنه صدق. لا تكفي البروفيسور النوايا الطيبة إذا وُجدت. لا تكفي. إن الورطة اللبنانية أكبر من حسّان ومن كتابه. ليس حسّان من سينقذ لبنان، حتى لو شكل حكومة منه فقط ولا أحد فيها غيره. حتى لو جلس في مجلس وزراء من دون ميشال عون. مجلس وزراء كل جدرانه مرايا، لا يتكرر فيها إلا حسّان دياب وحده إلى اللانهائية وما بعدها، كما لو أنه في كتابه.