منذ أسبوع تقريباً، كل المؤشرات تدل على أن الأمور بين السلطة السياسية ومصرف لبنان بلغت الحائط المسدود. التعاميم الأخيرة للمصرف المركزي بصياغاتها المربكة والمتناقضة وبمحاولة توضيحها ببيانات معاكسة. إنفلات سعر صرف الليرة وملامسته عتبة الأربعة آلاف ليرة لبنانية. الخطة المالية التي وضعتها شركة “لازار” والتي خلصت إلى وجود فجوة مالية حسابية لا أحد يملك مفاتيح تفسيرها إلا الحاكم بأمر الليرة اللبنانية.
وضع ميشال عون في سلم أولوياته قطع رقبة رياض سلامة. بالتدقيق المالي أولاً أو بالضغط للوصول إما إلى إقالته أو دفعه إلى الإستقالة. وجد حسان دياب كل الأسباب الموجبة لأن يصبح جزءا من الحملة البرتقالية ضد حاكم المصرف المركزي. ساعده في بلورة موقفه تعمد رياض سلامة تهميش موقع رئاسة الحكومة من جهة وإقفال أبواب مصرف لبنان أمام كل من يطلب رقماً أو توضيحاً من جهة ثانية.
عندما ذهب بعض الذين يؤمنون قنوات إتصال بين رياض سلامة وقوى سياسية لبنانية وازنة، من أجل جس نبض حاكم المصرف المركزي حيال كيفية تصرفه مع الحملة التي يتعرض لها، كان واضحاً في خياراته: لن أستقيل أبداً.
لم تكن الإستقالة موجودة في قاموس حاكم المصرف المركزي. السبب بسيط ومزدوج. الإستقالة تعني أمراً من إثنين: أولاً، الإتهامات التي تكال ضدي صحيحة بالكامل. ثانيا، رياض سلامة شخصية ضعيفة ويمكن إخضاعها أو إقالتها بالضغط.
لم يبق أمام من يريدون رأس رياض سلامة، في ضوء الحصانة التي يعطيها له قانون النقد والتسليف، إلا أن يستعينوا بالقانون نفسه، لكن الرجل لا عاهة صحية تعيقه عن العمل ولا خيانة عظمى موثقة إرتكبها.. إذن لا بد من تكوين ملف.
على هذا الأساس، تم التحشيد لجلسة مجلس الوزراء التي عقدت اليوم (الجمعة) في القصر الجمهوري. عون تطرق إلى ما يحصل بالنسبة الى سعر صرف الدولار الاميركي وقال “لا يمكن تحميلنا والحكومة الحالية ما حصل من اخطاء على مدى 30 عاماً، لان الحكومة عملت وتعمل منذ تشكيلها، على معالجة القضايا الملحّة، وقد حققت خلال 70 يوماً ما لم تحققه حكومات على مدى السنوات الثلاث الماضية”. أكمل من بعده حسان دياب مصوّباً على رياض سلامة، وعكس جزءا من الحوارات التي دارت بينهما في السراي الكبير، وخلص إلى أن الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي خطير جدا.. وأن رياض سلامة يتحمل مسؤولية الضغط الذي تتعرض له الليرة اللبنانية. موقف غير مسبوق في علاقة السلطة السياسية بحاكمية المصرف المركزي منذ إستقلال لبنان حتى يومنا هذا.
الجملة التي قالها دياب مكتوبة بعد الجلسة، قالها أيضا على طاولة مجلس الوزراء:”ثمة معضلة تتمثّل بغموض مريب في أداء حاكم مصرف لبنان إزاء تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، وهذا ما يؤدي إلى تسارع هذا التدهور الذي ينعكس سلباً على كل شيء في البلد، وخصوصاً على المستوى الاجتماعي والمعيشي، حيث تتفاقم الأزمات التي يواجهها اللبنانيون، في حين يبدو دور مصرف لبنان إمّا عاجزاً أو معطّلاً بقرار أو محرّضاً على هذا التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية”.
وأضاف “فليخرج حاكم مصرف لبنان وليعلن للبنانيين الحقائق بصراحة. ولماذا يحصل ما يحصل. وما هو أفق المعالجة. وما هو سقف ارتفاع الدولار… اللبنانيون يعيشون في قلق كبير. قلق على لقمة العيش، وقلق على جنى العمر. وقلق على الرواتب التي تآكلت وخسرت قيمتها. وقلق على المستقبل. هل ما زال بإمكان حاكم المصرف الاستمرار بتطمينهم على سعر صرف الليرة اللبنانية، كما فعل قبل أشهر، ثم فجأة تبخّرت هذه التطمينات”، متحدثاً عن فجوات في عمل مصرف لبنان، أبرزها “فجوة الأرقام والحسابات المالية”.
في مجلس الوزراء، لم يكد ينتهي دياب من مداخلته، حتى كرت سبحة المداخلات الهجومية ضد رياض سلامة. إختلط الحابل بالنابل. بعض الوزراء إلتزموا الصمت، لكن وزير المال غازي وزني، قال للوزراء إنه ليس محامي الدفاع عن رياض سلامة، لكن علينا الإلتفات إلى ثلاثة أمور:
أولا، الناحية القانونية: إقالة رياض سلامة على أي أساس، خصوصا في ضوء ما ينص عليه قانون النقد والتسليف ولا سيما المادة 19؟
ثانياً، إذا قررنا إقالة رياض سلامة، من هو البديل؟ هل إتفقنا على إسم حاكم المصرف المركزي، وهل توافقنا على أسماء نواب الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان؟ لا يجوز أن نقدم على خطوة في الفراغ بل يحتاج قرارنا إلى درس وتحضير للوصول إلى الهدف المنشود لا العكس.
ثالثاً، خذوا في عين الإعتبار أن ثمة تداعيات كبيرة للإستقالة. سأتكلم معكم بلغة غير شعبوية وأنا أدرك أنا كلامي لن يلقى قبولاً في الشارع، لكن نحن اليوم قامت قيامتنا فقط لأن سعر صرف الدولار لامس الأربعة آلاف ليرة، ماذا إذا إستيقظنا غدا صباحاً ووجدنا أن الدولار لامس عتبة العشرة آلاف ليرة أو الخمسة عشر ألف ليرة. عندها لن تطير الليرة ورياض سلامة والمصارف، بل ستطير الحكومة والبلد أيضاً، فماذا نكون فاعلين. هل نرمي البلد في المحظور والفراغ؟
وأضاف وزني: أن أدعوكم للتعامل بهدوء ومسوؤلية وأتمنى أن نجيب على الأسئلة الآتية: هل نستطيع توفير التغطية القانونية؟ من المسؤول عما وصلنا إليه؟ وألا يتطلب الأمر تحديد كل المسؤوليات وليس مسؤولية جهة وحيدة؟ وما هي المخاطر التي ستترتب على أي قرار تتخذه الحكومة؟
وختم وزني: نصيحتي إليكم، تعالوا نتفق على التعيينات وأن تكون لدينا خطة مالية نقدية وأن نترك شركة التدقيق تقوم بمهامها من أجل تحديد المسؤوليات وأن نفرض من الآن فصاعدا أكبر درجة من التنسيق بين المصرف المركزي والحكومة بكل مستوياتها ومسؤولياتها.
عند هذا الحد، إنتهى النقاش، وخرج الرئيس دياب لتلاوة بيانه المكتوب، فيما إتجهت الأنظار إلى عين التينة، حيث كان رئيس مجلس النواب نبيه بري، على تنسيق تام مع قيادة حزب الله التي كانت واضحة في موقفها: لا نرفع راية الهجوم ضد رياض سلامة ولسنا معنيين بالدفاع عنه وعن الأخطاء التي يرتكبها.
بدا واضحاً أن حزب الله يتفق مع رئيس مجلس النواب على مقاربة تضع حدين إثنين: أولا، التفاهم المسبق على بديل رياض سلامة، وألا يكون المطلوب الإتيان بموظف فئة رابعة في الدولة اللبنانية، حتى يكون “شرابة خرج” عند جهة سياسية معينة، وبالتالي يصبح جزءا من الإشتباك السياسي. ثانيا، ثمة إطار قانوني لا يمكن لأحد تجاوزه، أي قانون النقد والتسليف.
أدرك حزب الله أن ثمة ماكينة تعمل في الشكل ضد رياض سلامة، لكنها تعمل ضمنا لتثبيته، وهذه الماكينة سعت طوال الساعات الأخيرة، إلى الإيحاء أن حزب الله هو الذي قرر إقالة رياض سلامة وأن رئيسي الجمهورية والحكومة ينفذان ما يريده الحزب. أكثر من ذلك، تبين أن بعض الجهات الحليفة للحزب، تعمدت تسريب معلومات مضللة إلى السفارة الأميركية في بيروت مفادها أن موقفها من رياض سلامة هو بسبب الضغط الذي يمارسه حزب الله لإقالة حاكم مصرف لبنان!
لماذا دققت السفارة الأميركية في مواقف بعض القوى؟
أولا، بدا واضحا أن هناك رسالة ينبغي أن تصل إلى أهل الحل والربط مفادها أن الغطاء الدولي وتحديدا الأميركي لم يرفع عن رياض سلامة وما زال يمثل الرجل خطاً أحمر عند الأميركيين.
ثانيا، وهذه تسجل لحسان دياب، أنه قرر ألا يقيم وزناً للموقف الأميركي، وهو ذهب أبعد مما كان يتوقع ميشال عون في التعامل مع ملف حاكم المصرف المركزي، لذلك، حاول الأميركيون إيصال رسائل ناعمة إلى دياب، لكنه قرر أن يتجاهلها.
ثالثا، تمحور النقاش حول وجوب الإنضباط تحت سقف الخطة المالية التي وضعتها شركة “لازار” والتي لا تكتفي بتسليط الضوء على الفجوة الحسابية في أرقام مصرف لبنان، بل تدعو إلى تحقيق محاسبي وجنائي في آن معاً. هنا بدا الأميركيون واضحين في القول إن التدقيق في حسابات مصرف لبنان، لو أريد له أن يصل إلى خواتيمه، فهو سيطال كل رؤوس الطبقة السياسية في لبنان منذ ثلاثة عقود حتى الآن.
من الواضح حتى الآن، أن الحكومة لا تمتلك خطة للقتال لا في موضوع رياض سلامة ولا في الملف الإقتصادي. نموذج التعثر عن دفع اليوروبوند بلا خطة. إلغاء الكابيتال كونترول بلا خطة بديلة. ربما تقرر الحكومة غداً إلقاء خطة “لازار” في سلة النفايات، ولكن ما هي خطتها البديلة؟
هذا المسار إن أدى إلى مكان إنما إلى إضعاف موقع لبنان التفاوضي. بدل أن يذهب للتفاوض مع صندوق النقد، وهو واقف على قدميه أو ركبتيه، سيذهب زحفا في الأيام المقبلة، وذلك إذا إستمر تدهور سعر صرف الليرة. الأفدح هو ما سيبلغه الصندوق للبنان بشكل رسمي وسافر: “لا ديون للبنان نهائياً إلا بموجب خطة إصلاحية مسبقة، أولويتها البدء بتنفيذ خطة إصلاح قطاع الكهرباء، وبعدها نتكلم معكم”، أي لا أموال للبنان قبل أن يضع خطة إصلاح قطاع الكهرباء موضع التنفيذ.
ماذا في ضوء ما جرى في مجلس الوزراء؟
ظل رياض سلامة على موقفه الرافض تقديم إستقالته، وليس مستبعداً أن يقرر عقد مؤتمر صحافي للرد “بالأرقام والمعطيات التي أوصلت الوضع المالي إلى ما وصل إليه، كما طلب رئيس الحكومة”، وهذا هو المرجح، علماً أن هناك من كان نصحه بأن لا يكرر غلطة حسان دياب، “بالشكل، يمكنك أن تتوجه إلى القصر الجمهوري أو إلى السراي الكبير وتضع ملاحظاتك ضمن الغرف المغلقة، لأن الحديث العلني سيرتد سلبا على الأسواق وسيزيد الضغط على الليرة اللبنانية”.
غداً تهدأ العاصفة السياسية، لكن عاصفة الأسواق لن تهدأ والأخطر هي عاصفة الشارع التي ستزداد إشتعالا، وهذا المعطى يدركه كل أهل السلطة. ثمة كرة ساخنة وملتهبة من الغضب الشعبي، سواء الحقيقي منه، وهو الأساس، أو المفتعل لأسباب سياسية، وهو الهامشي، ستتدحرج يوماً بعد يوم، ولن يكون بمقدور أحد أن يضع حداً لها، خصوصاً وأن الدولار أصبح عملياً بلا سقف ولن يكون مفاجئاً أن نستيقظ في أيام قليلة على أرقام تحرق البلد ولا تبقي ولا تذر!
لقد أخطأ رياض سلامة أو إرتكب أخطاءً جسيمة. قد تكون حتى عبارة “أخطاء جسيمة” غير كافية. ربما ينبغي توصيفه بأكثر من ذلك بكثير. لكن في النهاية رياض سلامة هو مجرد موظف يعينه مجلس الوزراء. مصيبته الكبرى أنه قرر أن يمول فساد السياسيين من ودائع اللبنانيين الموجودة في مصرف لبنان، مثلما سمح لنفسه أن يستنزف تلك الودائع في سياق قرار تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، وهو قرار كان يحظى في مرحلة بحضانة لبنانية سورية في عهود إلياس هراوي وإميل لحود، ثم بحضانة محلية ودولية في عهود الفراغ الرئاسي وميشال سليمان وميشال عون.
ثمة نقطة أخيرة: حسان دياب أعلن عن أرقام خيالية هُربت من لبنان بعد 17 تشرين الأول/اكتوبر، لا بل منذ بداية هذه السنة وتحدث عن قانون ستقدمه الحكومة إلى مجلس النواب. هذا القانون إذا أنجزته ووضعه مجلس النواب موضع التنفيذ، لن تكون من بعده صورة لبنان السياسية، تلك التي إعتدنا عليها منذ مئة سنة حتى الآن. أقله سنقول إن الدولة العميقة التي هي عبارة عن إئتلاف المصارف والطبقة السياسية والمنظومة الطائفية قد أصيبت في صميمها.. وصار لزاماً علينا أن نبحث عن دولة عميقة من نوع آخر.