“كِمِل النقل بالزعرور”، هو ذلك المثل الشعبي الذي يستحضره الذهن كرد فعلي تلقائي على خبر يختتم فيه لبنان عاماً كان مليئاً بمشاهد أفلام الإثارة (الأكشن”) وينتظر آخر يبدو أنه سيكون مليئاً بمشاهد أفلام الخيال العلمي.
والزعرور، ومفرده زعرورة، هو شجر مثمر من فصيلة الورديات، ثمره أحمر أو اصفر اللون، فيه نواة صلبية تملأ معظم جوفه، ولبّه قليل، وإذا نضح كثر فيه الدود، فيرمي مشتريه بأكثر من نصفه. ولهذا فإنّ الفلاح لا يتذكر الزعرور إلا إذا وجد له مكاناً بعد أن ينتهي من تحميل بضاعته.
تذكر لبنان الزعرور – غصن، فأوجد له مكاناً حتى قبل أن ينتهي من تحميل بضاعة الموسم الجديد من مفاوضات التكليف والتأليف، وشؤون الليرة والدولار، والانهيار الاقتصادي القادم، وشعارات مكافحة الهدر والفساد، وطبول الحرب التي تقرع يومياً في الإقليم.
اذا كنتَ من الذين يحتاج دماغهم إلى نصف ساعة – أو ساعة واحدة أحياناً – لكي يعمل بطاقته الكاملة بعد الاستيقاظ من النوم، كما هي حال كاتب هذه السطور، فثمة أسئلة غير منطقية قد تطرحها على نفسك، ومن بينها، في حالتنا هذه: هل سيسمح لكارلوس غصن بأن يسحب أكثر من 300 دولار أسبوعياً من مصرفه في لبنان؟!
ولكنّ ما تحسبه سؤالاً غير منطقي هو المنطق بعينه في حالة كارلوس غصن، طالما أن العبث بات المنطق الوحيد في بلدٍ مثل لبنان، رفع قبل عامين صورة رجل أعمال متهم بالفساد على لوحات اعلانية ضخمة في بيروت، مذيّلة بعبارة “كلنا كارلوس غصن”… “كلّنا يعني كلّنا”، طالما أن الشعار بات “ترند” متجدد في “الثورة المغدورة” أو في الحالة اللبنانية “الثورة المركوبة”.
والترجمة المنطقية لعبارة “كلنا كارلوس غصن” هي أن كلاً منّا هو واحد من أغنى شخصيات العالم، لكأنّنا في حالة ثورية اعادت توزيع الثروة الغصنية على قاعدة “من كل حسب قدرته لكلّ حسب حاجته”، الأهم من ذلك ان كارلوس غصن بات معنا “في نفس الخندق” ثائراً على “الظلم والاضطهاد السياسي” في كوكب اليابان الشقيق!
ما سبق هو نصف الكأس الملآن، أما نصفه الفارغ، فهو أننا “كلّنا (الفاسد) كارلوس غصن”، مع أن أحداً منّا لم يحظى بنعمة ثروته المخفية عن السلطات المالية، وهو ما جعل البعض يرحّب بالعودة الظافرة للملياردير، متسائلين عمّا إذا كان يحمل حقائب سوداء في خارجها، وخضراء في باطنها، ويذهب في الخيال العلمي – المرشّح لأن يصبح واقعاً معاشاً – إلى تكهّنات بشأن امكانية تسليمه حقيبة سيادية تساهم في انقاذ لبنان، كما انقذ شركة “نيسان” قبل عقدين.
الى أن تتكشف ألغاز “عودة البطل”، سواء على لسانه، كما وعد، أو من خلال المقاربة الرسمية لقضيته، سياسياً وقضائياً، ثمة تساؤلات كثيرة تحتاج إلى إجابات تحترم ذكاء الداخل والخارج على حد سواء:
- هل تحقيق العدالة المبتورة في قضية غصن ممكن في لبنان، طالما أنه اختار أن يُحرر نفسه من العدالة اليابانية “الظالمة”؟
- هل وصول غصن إلى لبنان أتى في إطار صفقة مع اليابان أم لا ؟
- هل يحتمل لبنان، الذي بات يحتل رأس القائمة في لوائح الفساد العالمية، أن يخاط باكتساب سمعة سيئة إضافية كملاذ للهاربين من وجه العدالة؟
قد تجيب الأيام المقبلة على هذه التساؤلات، أو بعض منها، ولكن في بلد مثل لبنان ضياع الحقائق في متاهات السياسة والمال، يبقى احتمالية واردة.
بهذا المعنى، تصبح مقاربة قضية كارلوس غصن اختباراً جوهرياً لجدّية مكافحة الفساد، فإمّا أن يُكرم فيه القضاء اللبناني، بما يفتح كوّة أمل في الجدار المسدود، وإما أن يُهان، فلا يبقى أمام الشرفاء في هذا البلد سوى العمل بنصيحة الكاتب الراحل جلال عامر الذي قال يوماً “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بدَّ أن يهاجر فواً”… وحبّذا لو كانت وجهته هذه المرّة اليابان!