تمثّل سوريا بالنسبة إلى دول الجوار معبراً هاماً للبضائع، ومركز توريد للبضائع بشتى أنواعها، وعلى رأسها البضائع الزراعية التي كانت تنتقل من سوريا أو عبرها إلى أسواق عربية لتصريفها، أو حتى إلى آسيا الوسطى وأوروبا، الأمر الذي جعل من الموقع الجغرافي مركز تشبيك اقتصادي هام.
خلال السنوات العشر الماضية تسببت الحرب السورية وانقطاع هذه الطرق بتغيرات كبيرة، تفاقمت آثارها مع مرور الوقت، وتشابكت مع عوامل أخرى وضعت المنطقة كلها في دائرة فوضى اقتصادية وانهيارات متتالية تمس بجوهرها الأمن الغذائي.
خلال سنوات الحرب العشر، نشرت عشرات المعاهد ومراكز الدراسات تقاريراً ودراسات تتحدث عن أهمية سوريا الجغرافية بالنسبة لاقتصاد المنطقة، وما تمثله من مركز حيوي هام للدورة الاقتصادية في المنطقة، إضافة إلى دور الزراعة السورية كأحد مصادر الغذاء في المنطقة، وما تسببت به الحرب السورية من أضرار اقتصادية بالغة على دول الجوار، وعلى الحركة الاقتصادية في المنطقة بشكل كامل.
عماد الاقتصاد السوري
تسببت الحرب بأضرار كبيرة في القطاع الزراعي السوري، الذي كان يساهم بنحو ربع الناتج المحلي السوري، وظهرت آثار ذلك بشكل مباشر على المواطن السوري، الذي فقد قسماً كبيراً منه مصادر رزقه، إضافة إلى الأضرار البالغة في الاقتصاد السوري عموماً، والخسائر التي لحقت به بعد توقف تصدير قسم كبير من المزروعات التي كانت تمثل أهم عوامل الموازنة بين الصادرات والمستوردات، وباباً رئيسياً لإدخال القطع الأجنبي (الدولار) إلى سوريا لتحقيق تلك الموازنة، كما ظهرت آثار هذا الضرر على بعض دول الجوار التي كانت تعتمد على سوريا.
اليوم، وبعدما استعادت الحكومة السورية مساحات واسعة من سوريا، وتراجعت الأعمال القتالية في مناطق عديدة تمثّل مراكز ثقل الاقتصاد الزراعي في سوريا، وأمام تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار، والأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريون، يشدد الخبراء الاقتصاديون السوريون على ضرورة إصلاح القطاع الزراعي المتضرر بأسرع وقت ممكن، وإعادة إحياء هذا القطاع الذي كان يعتبر عمود سوريا الاقتصادي.
وزارة الزراعة وفي آخر تقديرات لحجم الخسائر التي تسببت بها الحرب، في شهر حزيران من العام الماضي، قدرت حجم الخسائر في القطاع الزراعي في سوريا بنحو 16 مليار دولار، في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2016. وأوضح وزير الزراعة السوري أحمد القادري في لقاء مع وكالة “سبوتنيك” الروسية أن هذه التقديرات لا تشمل الأضرار التي لحقت بمشاريع الري الحكومية وقنوات الإنتاج في قطاعات التجارة الخارجية والتصنيع الزراعي التي تضررت نتيجة تضرر القطاع الزراعي، الأمر الذي قد يضاعف هذه الأرقام.
قدرت وزارة الزراعة حجم الخسائر في القطاع الزراعي في سوريا بنحو 16 مليار دولار، في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2016
وأمام الحاجة إلى ترميم هذا القطاع وإعادة إحيائه، تبرز الطرقات والمواصلات كواحدة من أكبر العقبات أمام ذلك، إذ لا يمكن تنمية القطاع الزراعي دون تأمين طرق لتوريد البضائع الزراعة ونقلها، سواء بين المحافظات السورية، أو حتى إلى دول الجوار، أو أوروبا.
متضررون كثر
يعتبر الأردن ولبنان والعراق من أكثر الدول تضرراً من الحرب السورية، سواء موجات النزوح السورية التي أثقلت كاهل اقتصادات هذه البلدان، أو بسبب انقطاع الطرق، وتوقف حركة الاستيراد والتصدير التي تمر عبر سوريا، إضافة إلى انقطاع المنتجات السورية عن تلك الأسواق والبحث عن بدائل بتكاليف أكبر.
مركز “كارينغي” للدراسات وفي بحث نشره تحت عنوان “سوريا والأمن الغذائي في المنطقة” اعتبر أن عودة النشاط الزراعي، وفتح الطرقات أمام حركة البضائع الاقتصادية في سوريا من شأنه أن يعزز الأمن الغذائي في المنطقة كلها، مشيراً إلى أن انقطاع الطرق السورية ساهم في تعزيز الحركة التجارية عبر طرق أخرى، فمثلاً اعتمد الأردن على الاحتلال الإسرائيلي وموانئه في حركة الاستيراد، وتحولت تركيا إلى استخدام طرق كردستان العراق لتوريد البضائع إلى العراق، عوضاً عن الطرق السابقة التي كانت تمر عبر سوريا، كما ساهم انقطاع الطرق بالتحول إلى الطرق البحرية والبرية باهظة التكلفة لنقل البضائع، الأمر الذي يمكن أن يرى أثره على الاقتصاد اللبناني، فعلى الرغم من زيادة حجم الصادرات اللبنانية إلى دول مجلس التعاون الخليجي إلى 263 مليون دولار في العام 2016 مقارنة بـ 214 مليون دولار في العام 2012، عندما كانت الحدود الأردنية لا تزال مفتوحة، واجه المصدرون اللبنانيون مشكلة تكاليف النقل التي ارتفعت 60 في المئة مقارنة مع النقل البري الذي كان يمر عبر سوريا.
وعلى الرغم من افتتاح معبر القائم- البوكمال بين سوريا والعراق، إلا أن حركة التجارة بين البلدين ما زالت متوقفة بسبب الصراعات التي تشهدها المنطقة الشرقية من سوريا من جهة، والأحداث التي يشهدها العراق، إضافة إلى الضغوط الدولية (الأميركية خصوصاً) على العراق لمنع إعادة إحياء التجارة مع سوريا.
ومن شأن إعادة تفعيل خط الاستيراد من سوريا أن يخفف من عبء الأزمة التي يعيشها العراق، الذي خسر أهم المحافظات الزراعية خلال السنوات الماضية (صلاح الدين ونينوى وكركوك، الأنبار)، سواء بسبب سيطرة تنظيم “داعش” على تلك المناطق، أو بسبب حركات النزوح العراقية خلال معارك استعادة هذه المحافظات، إضافة إلى الأزمات المائية التي تعاني منها تلك المحافظات، علماً أن العراق كان يستورد قبل اغلاق الحدود العراقية-السورية نحو 1.1 مليار دولار من سوريا، معظمها منتجات زراعية وحيوانية.
تركيا.. المستفيد الأكبر
منذ اندلاع الحرب في سوريا، حاولت تركيا الاستفادة بشتى الوسائل من هذه الحراب، سواء عن طريق تحويل موجات اللجوء إلى ورقة ابتزاز لأوروبا، أو الاستفادة من هذه الموجات وتحويلها إلى جسور للتمدد داخل سوريا والتوسع فيها.
وإضافة إلى ذلك، تحولت المناطق الشمالية من سوريا الخارجة عن سيطرة الحكومة إلى سوق كبير لتوريد البضائع التركية الرديئة، وتهريبها حتى إلى الداخل السوري، والسيطرة على موارد زراعية هامة في الشمال السوري، بينها الزيتون الذي تعتبر كل من إدلب وعفرين أحد أهم مراكز زراعته في سوريا، حيث تقوم الحكومة التركية بشراء الزيتون وزيت الزيتون السوري الفاخر بأسعار بخسة، أو تقوم بمصادرته، لتعمد لاحقاً إلى إعادة تصديره عن طريق تركيا إلى أوروبا.
تحولت المناطق الشمالية من سوريا الخارجة عن سيطرة الحكومة إلى سوق كبير لتوريد البضائع التركية الرديئة
كذلك، ارتفع حجم الصادرات الزراعية التركية إلى سوريا ثلاثة أضعاف مقارنة بما قبل اندلاع الحرب السورية، فبينما كانت صادرات تركيا إلى سوريا في العام 2010 تبلغ نحو 200 مليون دولار، بلغت صادرات تركيا الزراعية إلى سوريا العام 2016 نحو 600 مليون دولار.
واستفادت تركيا بشكل كبير من تدهور الأوضاع الأمنية والدمار الذي لحق بالقطاع الزراعي العراقي، وإغلاق الحدود السورية – العراقية حيث يحتل العراق المرتبة الرابعة بين أكثر البلدان استيراداً من تركيا، وفق أرقام رسمية تركية. كذلك يعتبر العراق أكثر الدول المجاورة لتركيا استيراداً منها، حيث تجاوزت الصادرات التركية إلى العراق 8.3 مليار دولار العام 2018، مقارنة ب 6 مليارات دولار فقط العام 2010، وتعتبر المنتجات الزراعية والحيوانية أكثر المواد التي يستوردها العراق من تركيا.
استثمارات مؤجلة
تنتظر سوريا والدول المتضررة من إغلاق طرق النقل البري فيها، والتي كانت تعتمد على الزراعة السورية كأحد مصادر الأمن الغذائي، عودة الحياة الطبيعية وإعادة تنشيط القطاع الزراعي فيها، وهو ما تستعد له الحكومة السورية عبر سلسلة من القرارات والمشاريع.
استعداداً للمرحلة المقبلة، ودفعاً لاستثمار الموقع الجغرافي وشبكة الطرق في سوريا، أعادت وزارة النقل السورية دراسة الطرق السورية، وقامت بتغيير تصنيف عدد من الطرق وتحويلها إلى طرق مركزية، حيث بلغ طول الشبكة الطرقية المركزية في سوريا 8280.3 كيلومتراً في عام 2018، بعدما كانت 7074 كيلومتراً في عام 2006، الأمر الذي أفسح المجال للبدء بتنفيذ استثمارات كبيرة على هذه الطرق ضمن نظام “BOT” حيث تمنح الشركات حقوق تأهيل البنية التحتية واستثمارها كطرق مأجورة لفترة معينة قبل إعادتها إلى الحكومة السورية الأمر الذي من شأنه أن يخفف عبء إعادة تأهيل الطرق المتضررة من جهة، ويحقق عوائد مالية كبيرة للحكومة السورية.
وإضافة إلى الطرق المأجورة، من شأن إعادة فتح الطرقات أن يحقق مداخيل مالية كبيرة للحكومة السورية عن طريق رسوم “الترانزيت”، كما تساهم هذه الطرق بدفع حركة الإنتاج الزراعي والصناعي في سوريا، حيث ستوفر منافذ سريعة لتصريف البضائع وتصديرها.
وتبقى هذه الاستثمارات مؤجلة في الوقت الحالي إلى حين استكمال استعادة الطرق الرئيسية والمحورية في سوريا، ومن بينها طريق حلب – حماة – دمشق، وطريق حلب – اللاذقية، وهما الطريقان اللذان اتفقت تركيا وروسيا على فتحمها قبل نهاية العام 2018، إلا أن ذلك لم يتحقق حتى الآن، الأمر الذي دفع موسكو ودمشق إلى بدء عملية عسكرية على محاور طريق حلب – حماة في إدلب، حيث وصلت القوات السورية إلى مدينة معرة النعمان آخر معاقل المسلحين على الطريق الدولية. كما أطلق الجيش السوري قبل يومين عملية عسكرية على المحور الجنوبي الغربي من حلب، وذلك استكمالاً لاستعادة الطريق كاملاً وإعادة تأهيليه وفتحه، وهو ما تعول الحكومة السورية على أن تظهر نتائجه الأولية بشكل سريع عن طريق دفع عجلة الإنتاج الصناعي في حلب، وتسهيل حركة مرور البضائع الزراعية داخل سوريا وإلى خارجها أيضاً ما يعني دفع عجلة الإنتاج الزراعية وتنميته أيضاً، ونتائج أخرى على المستوى البعيد تتعلق باستثمار موقع سوريا وإعادة تفعيل الطرق الدولية وحركة الترانزيت، بالتوازي مع مواصلة العمل على تفعيل المعابر الحدودية مع العراق، المجمدة في الوقت الحالي، ما سيعود بالفائدة على سوريا ودول الجوار المتضررة.