إخراج إيران من سوريا.. بالوعي والإعمار والنفوذ الروسي!

“وجّه اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في مطلع سنة 2020، بغارة أميركية، ضربة قاسية إلى قدرة إيران على إدارة معركة تصدير الثورة الإسلامية، والدفع بإنجازاتها قدماً، وتوسيع نفوذها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. اعتبر سليماني نفسه حامياً لقيم الثورة وحكم آيات الله، وعمل باسمهما، ولم يتخوف من اتخاذ قرارات مستقلة، وإنشاء علاقات شخصية وثيقة بزعماء وقادة وأطراف تتمتع بالقوة في المنطقة. نجح سليماني في فهم ضعف المنظومة الإقليمية، وطوّر مقاربة مبتكرة خاصة به، لتمكين قبضة إيران وتوسيع نفوذها الإقليمي، بواسطة قوات وكلائها. وعمل طوال عقدين من الزمن كمهندس لاستراتيجية إيران التوسعية في الشرق الأوسط، وخسارته تترك المرشد الأعلى علي خامنئي الذي كان سليماني ابنه المدلل، من دون بديل من نفس قامته.

لقد عثر سليماني على فرصة لإيران واستغلها من أجل تعميق وجودها وسيطرتها في سوريا. هو الذي خطط للتمركز العسكري والمدني لإيران في الدولة الممزقة، وعمل كـ”متعهد تنفيذي” لربط المحور الشيعي من إيران، مروراً بالعراق وسوريا، إلى لبنان. وهو الذي قاد معركة إنقاذ نظام الأسد وإخضاع المتمردين، بين أمور أُخرى، من خلال مهاجمة سكان مدنيين وطردهم من منازلهم إلى محافظات أُخرى في سوريا وخارجها، وفقاً لاعتبارات ديموغرافية وجيو – سياسية تُعتبر حيوية من أجل بقاء نظام الأسد واستقراره، ومن أجل تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا.

قاد سليماني شخصياً معركة حلب في كانون الأول/ديسمبر 2015، وفي صيف 2015، ذهب إلى موسكو ليطلب من روسيا التدخل العسكري في القتال ضد المتمردين. لاحقاً، نسّق سليماني بين المساعدة الجوية الروسية وبين القتال البري بقيادة إيرانية. ولقد شكل ذلك نقطة تحول في الحرب الأهلية في سوريا، التي أعادت عملياً سيطرة نظام الأسد على العمود الفقري في سوريا. ولم يتوقف عن التخطيط لاستمرار التشبيك الإيراني في سوريا، وبهذا المعنى أيضاً يترك موته فراغاً.

بقيادة سليماني، شمل التمركز الإيراني في سوريا التغلغل في الجيش والأجهزة الأمنية؛ إقامة واستخدام ميليشيات محلية وقُطرية؛ إقامة قواعد لتدريب الميليشيات الشيعية التي تعمل بقيادة إيرانية؛ بناء “آلة حرب” إيرانية تعتمد على منظومة صواريخ وطائرات من دون طيار موجهة إلى مهاجمة إسرائيل؛ إقامة بنية تحتية لإنتاج وتركيب صواريخ وتحسين دقة رؤوسها الحربية؛ بناء منظومة وسائل نقل وبنية تحتية لتخزين وسائل قتالية ونقلها من سوريا إلى حزب الله في لبنان؛ بالإضافة إلى التغلغل في المنظومات الحكومية في سوريا – تعليم، ثقافة، دين، بناء وإسكان، إعلام، ومشاريع اقتصادية.

إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق وسوريا في الأشهر المقبلة، مَن سيملأ الفراغ في منطقة الحدود بين الدولتين؟ هل ستكون روسيا مستعدة لإرسال قوات؟

لا يزال من المبكّر تقدير التأثير الكامل لاغتيال سليماني، وتطورات كثيرة يمكن أن تحدث في الفترة المقبلة في أعقاب الاغتيال. الحكومة والبرلمان العراقيان، إتخذا قراراً يطالب بانسحاب القوات الأميركية من العراق، وهذا ما سيؤدي، بموازاة ذلك، إلى انسحاب القوات الأميركية من شرق سوريا. حالياً، في الجانب السوري من الحدود، تسيطر القوات الكردية بمساعدة الولايات المتحدة، وفي الجانب العراقي، تعمل ميليشيات “الحشد الشعبي” التي تستخدمها إيران. إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق وسوريا في الأشهر المقبلة، مَن سيملأ الفراغ في منطقة الحدود بين الدولتين؟ هل ستكون روسيا مستعدة لإرسال قوات؟

الزاوية الإسرائيلية

إسرائيل التي اختارت عدم التدخل في الحرب الأهلية في سوريا، سمحت عملياً لإيران بقيادة سليماني، بالدفع قدماً بمشروع التمركز الإيراني والاندماج المتعدد الأبعاد في البلد. منذ أن فهمت إسرائيل مترتبات عدم التدخل، وهي تحاول عرقلة عملية التمركز وإحباط بناء “آلة الحرب” والبنى التحتية العسكرية الإيرانية.

شمل الجهد الإسرائيلي ثلاثة مجاري عمل: الأول، مهاجمة المواقع الإيرانية واعتراض عمليات نقل وسائل القتال، في الأساس المتطور منها، إلى حزب الله؛ الثاني، الضغط على روسيا للتضييق على خطوات إيران، وعلى تأثيرها في البلد، وإبعاد القوات الخاضعة لإمرتها عن الحدود مع إسرائيل؛ الثالث، الضغط على الولايات المتحدة لتأجيل انسحاب شامل لقواتها من شرق سوريا، ومن منطقة التنف، لضمانة فصل المحور الشيعي – الإيراني بين العراق وسوريا، ومنع سيطرة إيران على منطقة الحدود العراقية – السورية.

حالياً، ربما يتيح اغتيال سليماني فرصة نادرة بالنسبة إلى إسرائيل لبلورة سياسة جديدة، بالتنسيق وحتى بالتعاون مع الإدارة الأميركية، من أجل تفكيك المواقع الإيرانية العسكرية في سوريا. تستطيع إسرائيل، بغطاء أميركي، استغلال اللحظة التي خسر فيها نظام الأسد حليفه الاستراتيجي وراعيه.

بيْد أن نافذة الوقت التي نشأت مع غياب سليماني عن الساحة يمكن أن يتضح أنها ضيقة جداً. لذلك، من أجل استنفاد الفرصة، يجب أن نبدأ فوراً بمعركة مشتركة ومنسقة (عنوانها إخراج إيران) بين إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا، بمشاركة لاعبين إقليميين آخرين. ويجب أن تتزامن هذه المعركة مع عدد من الجهود:

زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى دمشق بعد أسبوع من اغتيال سليماني، لمّحت إلى أن روسيا تحاول استغلال الفرصة، واستلام القيادة، وتقليص النفوذ الإيراني في سوريا

أولا، اعتراف بالهيمنة الروسية في سوريا:

اختارت إسرائيل المحافظة على التنسيق الوثيق مع روسيا في حربها ضد التمركز الإيراني في سوريا. وكانت تأمل بأن تقوم روسيا بإخراج القدرات العسكرية الإيرانية من سوريا، وأن تقلص من وزن طهران في صوغ مستقبل الدولة. تدور بين روسيا وإيران منافسة على بلورة المنظومة السياسية في سوريا، وعلى السيطرة على عملية إعادة الإعمار وحصد المكاسب الاقتصادية الممكنة منها. حتى الآن، امتنعت روسيا من الدخول في مواجهة علنية مع إيران. ومع ذلك، خطوات مباشرة قامت بها موسكو، بينها زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى دمشق بعد أسبوع من اغتيال سليماني، لمّحت إلى أن روسيا تحاول استغلال الفرصة، واستلام القيادة، وتقليص النفوذ الإيراني في سوريا. عملياً، إجبار نظام الأسد على أن يحسم موقفه لمصلحة التوجّه المؤيد لروسيا بدلاً من التوجّه المؤيد لإيران. يتعين على إسرائيل أن تجند الولايات المتحدة التي تستطيع أن تقدم إغراءات للروس مثل التخفيف من العقوبات الغربية المفروضة عليها، في مقابل ضمان المصالح الإسرائيلية وإبعاد إيران عن سوريا.

ثانيا، دق إسفين بين دمشق وطهران:

إسرائيل سلّمت عملياً باستمرار حكم الأسد في سوريا على الرغم من أنها لم تعلن ذلك. أيضاً الولايات المتحدة تقبل حتى الآن النظام القائم، مع أنها لا تزال تطالب بتنحي الأسد عن كرسي السلطة بسبب الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه، والتي أدت إلى مقتل نصف مليون سوري، بالإضافة إلى القيام بإصلاحات سياسية في البلد. من أجل التوصل إلى إخراج إيران من سوريا، المطلوب توضيح ما هو المقابل ليكون الأسد مستعداً للتخلص من قيود إيران: هل في مقابل قبول غربي وعربي لاستمرار نظامه ورفع المقاطعة المفروضة عليه، سيعمل على إخراج القوات الإيرانية وتلك التي يستخدمها فيلق القدس من سوريا؟ إذا رفض الأسد التعاون، بإمكان إدارة ترامب أن تفرض جولة جديدة وأكثر قساوة من العقوبات على الأسد وروسيا وإيران. إسرائيل بدورها يمكنها العودة إلى استخدام ورقة التهديد المادي المباشر لبقاء نظام الأسد، إذا استمر في التمسك بنهجه، وسمح لإيران بأن تفعل في بلده ما تشاء.

ثالثا، قطع المحور الشيعي:

 التنسيق الاستراتيجي مطلوب مع الولايات المتحدة، ليس فقط من أجل تشجيع موسكو على تحمّل المسؤولية، بل أيضاً من أجل قطع المحور الشيعي من إيران حتى لبنان. من أجل ذلك، من الضروري انتشار القوات الأميركية في شمال شرق سوريا. يجب العمل على إقناع الرئيس ترامب بإرسال رسالة واضحة تتعلق بالالتزامات الأميركية حيال الموضوع (يوجد اليوم نحو 600 جندي أميركي في منطقة آبار النفط في منطقة دير الزور، وبضع مئات في قاعدة التنف القريبة من الحدود مع العراق – مناطق استخدمها سليماني كطرق لإمداد السلاح وإدخال المقاتلين الإيرانيين إلى سوريا ولبنان، وسعى للسيطرة عليها). مع ذلك، على إسرائيل أن تستعد لمواجهة إمكان أن يختار الرئيس ترامب أو يضطر، رغماً عنه، إلى سحب القوات الأميركية من العراق، وفي أعقاب ذلك، من شمال شرق سوريا. مع سيناريو كهذا يتعين على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة بناء قدرات وبذل جهود لمنع السيطرة الإيرانية على المنطقة بواسطة وكلائها.

يجب إلقاء الضوء على رسائل تدل على أن إيران تكبح أي مبادرة إصلاح سياسية في سوريا، كي لا تخسر تأثيرها في نظام حليفها الرئيس الأسد

رابعا، نقل مركز الثقل لتحييد النفوذ الإيراني الإقليمي إلى سوريا:

 من الصائب بلورة تفاهم بين واشنطن والقدس على أساس التقدير أن سوريا هي الحلقة الأضعف في سلسلة المحور الشيعي والأكثر هشاشة. بناء على ذلك، أي جهد ضد المحور الشيعي يجب أن يتمركز في سوريا. الضغط لإخراج المواقع الإيرانية من سوريا يتكامل مع سياسة “الضغط الأقصى” الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد إيران.

خامسا، جهد يتعلق بالوعي:

 موجّه إلى السكان في سوريا (على سبيل المثال في جنوب سوريا، حيث يسود عدم ارتياح عام حيال النظام وإيران. بناء على ذلك، يمكن أن تشكل هذه المنطقة ساحة اختبار لممارسة ضغط متعلق بالوعي) لدفع هؤلاء السكان إلى معارضة استمرار السيطرة الإيرانية على دولتهم وجرّهم إلى مواجهات مع إسرائيل. كذلك يجب إلقاء الضوء على رسائل تدل على أن إيران تكبح أي مبادرة إصلاح سياسية في سوريا، كي لا تخسر تأثيرها في نظام حليفها الرئيس الأسد. وفي الوقت عينه، يجب بذل جهد دعائي موجه للسكان في إيران، من خلال إبراز معطيات الاستثمارات الإيرانية في التمركز في سوريا وبناء المحور الشيعي، التي هي بالضرورة على حساب الاستثمار في اقتصاد إيران وفي مواطنيها.

سادسا، إعادة تحريك العملية السياسية في سوريا بقيادة عربية غربية:

يجب صوغ خطة لإعمار سوريا، بمشاركة دول غربية ودول عربية سنية، وضمن هذا الإطار تجنيد استعداد لتخصيص مصادر تمويل عملية إعادة الإعمار، لكن اشتراط تقديم المساعدة بإبعاد إيران عن سوريا.

الخلاصة:

يمكن استغلال الفرصة بعد اغتيال سليماني لتنفيذ خطوات تُخرج إيران من سوريا، بالتضافر مع ضغط اقتصادي على إيران،  يمكن أن يمس بقدرة إيران على مواصلة مشروع تمركزها في سوريا. من المحتمل في الفترة الزمنية المباشرة بعد غياب سليماني عن الساحة وجود فرصة لبناء تنسيق بين القوات الروسية – والأميركية من أجل الدفع قدماً بحل سياسي في سوريا، ووقف استمرار القتل، وإبعاد النفوذ الإيراني، وفرض إصلاحات حكومية في هذه الدولة، ووضع إطار للمساعدة الدولية في إعادة الإعمار. إن الدفع قدماً بهذه الأهداف يخدم جيداً المصالح الأمنية لدولة إسرائيل”. (نقلا عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”: https://www.palestine-studies.org/ar/daily/mukhtarat-view )