ماذا ينتظر السوريون من روسيا؟

تراجعَ إيقاعُ العمليات العسكرية في سورية، إلا أن الحرب رغم ذلك لا تزال تمثل "الإطار الإرشادي" أو "المرجعي" لكل ما يجري في الحدث السوري والإقليمي. هذا يعني أن ليس ثمة نهاية قريبة للحرب، وأن وجود روسيا في سورية سوف يمتد إلى أمدٍ غير معلوم، بكل الدلالات والفرص والتحديات الملازمة لذلك، لدى الروس والسوريين على حد سواء.

من غير المعروف بالتمام كيف تنظر روسيا لوجودها ودورها في الحرب السورية، وخاصة مع بروز مدارك تهديد متزايدة لديها بشأن “ارتفاع التكاليف” و”انخفاض العائد” من مشاركتها في الحرب؛ وما هي “نقطة التوازن” المحتملة أو الممكنة بين هذا وذاك، بين “صعوبة التراجع” في سورية، و”صعوبة الاستمرار”، وإلى أي حدٍّ يمكن أن تستمر حالة “الانحباس” و”اللا يقين” في المشهد السوري؟

إنَّ لدى السوريين هواجس مركبة وثقيلة حيال مستقبل الوجود والدور الروسي في بلادهم، وخاصة مع بروز تجاذبات وديناميات روسية في سورية تتجاوز الحدث السوري نفسه، أخذت تؤثر – بنظر شريحة من فواعل الفكر والسياسة – في طبيعة الحرب نفسها، وفي مستقبل المجتمع والدولة في سورية، مثل: العلاقة مع تركيا وتأثيرها في مستقبل منطقة إدلب، والعلاقة مع الولايات المتحدة والكرد وتأثيرها في منطقة شرق الفرات، والعلاقة مع فواعل ومجتمعات المصالحات والتسويات وتأثيرها في سلطة الدولة وخياراتها في المنطقة الجنوبية، وكذلك الأمر بشأن العلاقة مع “إسرائيل” وتأثيرها في المشهد السوري ككل. ولو أن السوريين يدركون “المكاسب” الكبيرة الناجمة عن تلك العلاقات والتفاعلات، لكنها مكاسب تخالطها تهديدات كبيرة أيضاً!

وهكذا، فإن ما يريده السوريون من روسيا، وهذا تقدير أولي، هو “وضوح الرؤية”، وإعادة تأكيد أولويات الموقف الروسي في سورية، وأن يكون هدف استعادة الدولة السورية موحدةً وقويةً ومتماسكةً هو “البراديغم” الرئيس في سياساتها السورية، وأن يقوم “حوار استراتيجي” بين الطرفين لوضع “أجندة مشتركة” للمستقبل.

ولا تزعم هذه الورقة أنها قدمت إجابات ناجزة عن سؤالها الرئيس، إنما حاولت أن تبحث وتتقصّى في “خط المعنى” الرئيس للسؤال، وفي خطوط التفكير لدى شريحة قد تكون كبيرة من السوريين، في مناطق سيطرة الدولة السورية والموالين عموماً لنظام الرئيس بشار الأسد؛ وأما السوريون على الجوانب الأخرى من الحرب، فيتطلب الأمر حيالهم مقاربة مختلفة.

أولاً- لا يقين سورياً    

حينما وجَّهَ عددٌ من المنابر الإعلامية ومراكز البحث الروسية انتقادات حادة للنظام السياسيّ في سورية، برزت تقديرات كثيرة حول تغير أو تحول في الموقف الروسي من الحرب السورية، وحيال النظام السياسي تحديداً، وأن روسيا ربما ترفع يدها عن الحدث السوري، تاركة النظام السياسي تحت تأثير الضغوط المتزايدة، بقصد دفعه لإجراء تغييرات في الداخل، أو أنها ربما تحاول “التدخل” في بنية النظام السياسي من أجل “إجراء تغيير ما” في البلاد. وبالرغم من نفي روسيا وجود أي تغيُّر أو تحوُّل في موقفها، إلا أن الانتقادات المشار إليها تركت تأثيراتها، ولو أنها كانت عبارة عن “إشارات وتنبيهات” أكثر منها تحولات فعلية.

وقف كثير من السوريين والمتابعين للحدث السوري أمام تقديرات متسرعة – إلى حدٍّ ما – بأن روسيا بدأت بتغيير سياساتها حيال دمشق، وأن ذلك جزء من تفاهمات أو مساومات روسية – أمريكية، ليس لإسقاط النظام السياسي، وإنما للضغط عليه من أجل إجراء تغييرات في الداخل، والعودة إلى  إطار واشتراطات القرار 2254

تزامنت الانتقادات (أو بالأحرى الضغوط) الروسية المشار إليها مع تطورات خطيرة في الحرب:

  • زيادة التدخل السياسي والعسكري الأمريكي في شرق الفرات.
  • زيادة الاعتداءات الإسرائيلية على مواقع سورية وإيرانية في مختلف المناطق في سورية.
  • تزايد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على إيران في سورية والعراق ولبنان.
  • الإعلان عن بدء تنفيذ “قانون قيصر”.
  • تزايد الأزمة الاقتصادية وانهيار أسعار الصرف وزيادة الأسعار، وبروز تحديات اقتصادية – اجتماعية ثقيلة في الداخل السوري.

ومما زاد في حالة “اللايقين” لدى السوريين، هو بروز مؤشرات أمريكية متعاكسة حيال روسيا، وفق تصريحات جيمس جيفري مثلاً:

  • غزل أمريكي بشأن تحول محتمل في موقف روسيا حيال النظام السياسي، والقول: إنَّ واشنطن توافق على وجود الروس وإخراج جميع الفواعل الأخرى من سورية، بما فيها الأمريكية؛ وهذا بمثابة عرض صفقة أو تلميح بإمكانية ذلك.
  • تلويح أمريكي بأن مهمة أمريكا الرئيسة هي جعل سورية “مستنقعاً” لروسيا، وهذا ما أعلنه صراحة المسؤول الأمريكي عن الملف السوري جيمس جيفري[1].

ولذا فقد وقف كثير من السوريين والمتابعين للحدث السوري أمام تقديرات متسرعة – إلى حدٍّ ما – بأن روسيا بدأت بتغيير سياساتها حيال دمشق، وأن ذلك جزء من تفاهمات أو مساومات روسية – أمريكية، ليس لإسقاط النظام السياسي، وإنما للضغط عليه من أجل إجراء تغييرات في الداخل، والعودة إلى  إطار واشتراطات القرار 2254 أو – وهذا ما تم التركيز عليه كثيراً – تغيير موقفه من إيران وحزب الله[2].

ثانياً- “قانون قيصر” و”إعادة إنتاج” الحرب

تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الاستفادة من “دروس” الحرب طوال عشر سنوات، وتقصِّي الأسباب التي حالت دون تحقيق أهدافها بالتمام، بالتركيز على “احتواء” أو “تفكيك” عوامل “صمود دمشق”، والعوامل التي دفعت روسيا وإيران وأطراف أخرى للوقوف معها، ومواصلتهما ذلك حتى بعد مضي عشر سنوات من حرب بالغة التكاليف والمخاطر.

وقد اكتشف الأمريكيون وحلفاؤهم أن تراجعهم في الحرب السورية ينطوي على مصادر تهديد أكبر وأبعد مما كانوا يتصورون، ليس أن الحرب لم تصل إلى النهاية المرجوة أمريكياً، بل إنَّ الانسحاب أو التراجع يمثل انتصاراً لسورية وحلفائها.

من ثَمَّ، فإن المطلوب أمريكيّاً هو “إعطاب” مسار استعادة سلطة الدولة السورية، وإعاقة التقدم الذي تحققه روسيا (وإيران) في المشهدين الإقليمي والعالمي، وهذا يقتضي من الولايات المتحدة “تغيير النمط”، بتوسيع دوائر الاستهداف، والتضييق والخنق لقلب الحدث وهو دمشق. وهذا ما يُفْتَرَضُ أنه أصل “قانون قيصر”.

قالت الولايات المتحدة – على لسان جيمس جيفري – أنها لا تريد إسقاط النظام السياسي، وإنما “إجباره” على العودة إلى “اشتراطات” قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254[3]، وهي وفق المنظور الأمريكي، الصريح والمضمر في آن[4]، بمثابة العودة بالحدث السوري إلى لحظة آذار/مارس 2011.

بدا كما لو أنَّ “قانون قيصر” قد “حقق” جانباً من أهدافه، حتى قبل تطبيقه، وخاصة لجهة ارتفاع أسعار صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأخرى، والارتفاع الكبير في الأسعار

وهكذا، فإن الهدف الرئيس لسياسات “الخنق الاقتصادي” الأمريكية والأوربية، وفي مقدمها “قانون قيصر”، هو[5]:

  • جعل تكلفة الحرب عالية، و”تعظيمها” إلى الحد الذي يجعل الاستمرار فيها مخاطرة لا تُحتمل، ليس بالنسبة للنظام السياسي والمجتمع والدولة في سورية فحسب، وإنما لحلفائها أيضاً، وخاصة روسيا التي تتعرض لضغوط أمريكية متزايدة.
  • تجميد خرائط السيطرة من جهة الحكومة، بل إيقاف العمليات العسكرية لها، وقد عبّر المبعوث الأمريكي للشأن السوري جيمس جيفري عن ذلك صراحة حينما قال: إنَّ على دمشق أن توقف العمليات العسكرية حيال إدلب؛ بالإضافة إلى رسم أمريكا خطوطاً حمراء أمام دمشق وحلفائها بشأن “شرق الفرات”.
  • تهيئة الظروف للفواعل الأخرى من أجل استمرار أجنداتها، أولها الولايات المتحدة في منطقة “التنف” ومناطق “شرق الفرات”، وتركيا في إدلب وريف حلب، وإلى حد ما “شرق الفرات”، و”إسرائيل” في المنطقة الجنوبية وغيرها.

ثالثاً- إجهاد في الداخل

مهّد لإعلان تنفيذ “قانون قيصر” ورافقته حرب نفسية وإعلامية مهولة، وقعت على السوريين –والمعنيين بالحدث السوري– في لحظة “إجهاد” اقتصادي وسياسي واجتماعي ونفسي غير مسبوقة، رفعت من مستوى “اللا يقين” حيال اللحظة الآتية، وحيال قدرة سورية على مواجهة تطورات الموقف، ومدى قدرة – وربما رغبة – عدد من حلفاء سورية والشركاء الإقليميين والدوليين على مواصلة التفاعل معها بالرغم من “قانون قيصر” وبمواجهته.

وبدا كما لو أنَّ “قانون قيصر” قد “حقق” جانباً من أهدافه، حتى قبل تطبيقه، وخاصة لجهة ارتفاع أسعار صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأخرى، والارتفاع الكبير في الأسعار، ولو أن المعروف بين السوريين والمعنيين بالحدث السوري، أن جانباً كبيراً مما حدث في قطاع الاقتصاد والمال والأعمال وتدفقات السلع وارتفاع الأسعار ليس نتيجةً محضةً ولا تأثيراً للقانون المذكور، إنما هو مرتبط بتطورات وتجاذبات أخرى حدثت في سورية نفسها، بالإضافة إلى التأثيرات التراكمية العميقة للفساد وضعف الأداء في قطاع الإدارة الحكومية وقطاعات المال والأعمال.

رابعاً- “قانون قيصر” يهدد روسيا

ورد ذكر روسيا صراحة في “قانون قيصر”، وهذا بحدِّ ذاته مصدر تهديد، بل استهداف مباشر للسياسات والرهانات الروسية في سورية، وترهيب للمؤسسات والشركات الروسية لمنعها من العمل في سورية، وهذا يتجاوز اهتمامات ومصالح روسيا في سورية إلى صورة ومكانة واهتمامات روسيا في الإقليم والعالم، الأمر الذي يتطلب استجابة روسيّة مناسبة أو بالأحرى استجابة متناسبة مع هذا التهديد الأمريكي.

قد تكون الاستجابة المتوقعة هي الرد على القانون الأمريكي من حيث أراد القانون نفسه أن يستهدف، أي بالعمل ما أمكن على احتواء ما يريده الأمريكان منه، فإذا أراد القانون “خنق” سورية اقتصادياً، وتجفيف مصادر الدخل وإيقاف التدفقات المالية والسلعية من وإلى سورية، إلخ، فإن المطلوب هو كسر حلقة ذلك الخنق والتهديد، ذلك بالتمكين لسورية من أجل مقاومة القانون، وتفكيك تداعياته عليها، وخاصة التداعيات الاجتماعية-الاقتصادية.

يعلم السوريون أن مواجهة “قانون قيصر” تعتمد في جانب كبير منها على مدى استعداد روسيا لـدعم سورية في مواجهة الخنق والعقوبات والحصار، ولا شك في أن الروس يدركون حجم التهديد الذي يطالهم هم أنفسهم في سورية ويطال بلادهم واستراتيجياتهم انطلاقاً من سورية

يعلم السوريون أن مواجهة “قانون قيصر” تعتمد في جانب كبير منها على مدى استعداد روسيا لـدعم سورية في مواجهة الخنق والعقوبات والحصار، ولا شك في أن الروس يدركون حجم التهديد الذي يطالهم هم أنفسهم في سورية ويطال بلادهم واستراتيجياتهم انطلاقاً من سورية، وأن نجاح الأمريكان في “خنق” دمشق اقتصادياً هو جزء من الحرب واستمرار لها إنما بوسائل أخرى، هو بكلمة واحدة: إخفاق روسيا وسياساتها ورهاناتها في المنطقة، وعندئذ سوف تبدو روسيا كما لو أنها لم تأت إلى سورية، و”كأنك يا أبو زيد ما غزيت”، حسب المثل السوري.

خامساً- دين المعنى

يبدو أن شعور شريحة كبيرة من السوريين بـ”الامتنان” لروسيا، تخالطه مشاعر قلق وتوجُّس أيضاً من طبيعة ذلك الوجود، ومن التحولات والتداعيات الناتجة عنه، مثل – وهذا ما تتكرر الإشارة إليه – الأثمان المترتبة على التفاهمات الروسية مع تركيا و”إسرائيل” وحتى أمريكا، الأمر الذي يجعلهم في حالة من “عدم اليقين” حيال اللحظة الآتية.

إنَّ من عوامل أو محددات وجود روسيا في سورية، واشتراكها النشط والفعال في الحرب، هو الرهان الروسي على أن تكون سورية منطلقاً لـ”وضعية جديدة” لروسيا في الشرق الأوسط والعالم، والسعي لإقامة نظام عالمي أكثر توازناً، ومتعدد الأقطاب، وهكذا تمثل سورية فضاء أو حيزاً لتظهير “فكرة روسيا” عن نفسها، واستعادة صورتها كقوة كبرى.

يمكن الحديث هنا عن نوع من “دَين معنوي” لدى السوريين حيال روسيا، ولو أن الكثير منهم يرى أن صمود سورية (بمساعدة إيران وحزب الله)، وخاصة في الأمد الواقع بين 2011-2015، أعطى روسيا فرصة غير مسبوقة كي تدشن مرحلة جديدة في سياستها الخارجية ووضعها ومكانتها في العالم.

وهكذا فإن الروس حاضرون في الحدث السوري حيث يصعب أن تحضر سورية وإيران وحزب الله، وذلك في:

  • التماس أو الاحتكاك العسكري المباشر مع تركيا والولايات المتحدة و”إسرائيل”.
  • إدارة المفاوضات والتسويات مع الجماعات المسلحة والضبط الأمني في مناطق التسويات، كما هو الحال في درعا والمنطقة الجنوبية.
  • القوات الجوية والعمل العسكري الميداني والإمداد الذي لا غنى عنه في الحرب.
  • دور روسيا الحاسم في المحافل الدولية[6]، ودفع روسيا بملف “عودة العرب إلى سورية”، والأهم هو وقوفها بالمرصاد ضد محاولات الولايات المتحدة وحلفائها إصدار قرارات ضد سورية في مجلس الأمن.
إقرأ على موقع 180  "من الآخر".. من يجمع باسيل بالحريري؟

غير أن “الدَّين المعنوي” لسورية حيال روسيا، هو – على ما يبدو – أمام نوعين أو مستويين من “الاستحقاق”:

  • أن يُسدد معنوياً بقبول مطالب والتزامات وإكراهات عميقة، كما هو الحال في الموقف من طبيعة العلاقات بين روسيا وكل من تركيا و”إسرائيل” ومناطق التسويات، إلخ، فيكون على السوريين “تقبل” ذلك “تماشياً” مع إرادة ومصلحة روسيا وتفاهماتها الإقليمية والدولية بشأن الحرب السورية.
  • أن يُسدَّدَ مادياً بـ”عقود شبه حصرية” في قطاعات النفط والغاز والموانئ والنقل وغيرها.

سادساً- روسيا كفاعلٍ داخليٍّ

الروس حاضرون في كل ما يتعلق بالحدث السوري تقريباً، وهم حاضرون على وجه اليقين في: قضايا الحرب والسلم، والتنمية، ومحاربة الإرهاب، وسياسات الحل أو التسوية، وسياسات ما بعد الحرب، إلخ، الأمر الذي يجعل من روسيا فاعلاً “مُقرِّرَاً” في كثير من الأحيان، وفاعلاً “مُفَسِّراً” في كل الأحوال تقريباً، على ما في هذا من تعميم وإطلاق يتطلب المزيد من التدقيق والتقصّي[7].

ترسم روسيا “حدوداً غير منظورة” للوجود الإيرانيّ في سورية، وهذا جزء من تفاهمات عميقة بينها وبين “إسرائيل”، وهو غير بعيد عن تفاهمات مع الولايات المتحدة، لكن ذلك يمكن أن يمثل تهديداً وضرراً لروسيا نفسها في حال انتكست تفاهماتها مع “إسرائيل”

هذا يؤهل روسيا لأن تكون “فاعلاً داخلياً” أيضاً في السياسة السورية، باعتبار طبيعة الحرب الدائرة:

  • توسيع دائرة الاهتمام والتركيز الروسية من الأمن والعسكرة والتفاعلات الخارجية إلى الاقتصاد والاجتماع، واليوم إلى السياسات الداخلية. وثمة حديث متكرر عن دورٍ روسي في إعادة تنظيم الجيش، وحضورٍ في مختلف جوانب السياسات العامة، الاقتصادية على نحو خاص.
  • برزت تقديرات عن اهتمام روسي بالديناميات الداخلية العميقة لصنع السياسات، وخاصة ما يتعلق بإدارة ملفات الاتصالات والنفط والغاز وغيرها، من أجل تعزيز الأداء والفعالية والإنتاجية من جهة، ومن أجل ضمان تأثير أكبر في “إدارة” و”توجيه” قطاعات ذات أولوية في اقتصاد البلاد، وأيضاً من أجل ضمان “سداد” جانب من الالتزامات المالية جراء الحرب.
  • لم يكن متصوراً أن تقوم روسيا بأدوار بديلة، أو أن تمثل “سلطة موازية” أو “سلطة ضامنة” في بعض مناطق سورية، كما هو الحال في المنطقة الجنوبية وفي بعض النقاط والمواقع في محيط “خط الفرات”، أو أنها تدعم نمطاً هجيناً وملتبساً من “سلطة الأمر الواقع” غير المعلنة وغير المسماة، ولكن المحمية من قبلها، خاصة في المنطقة الجنوبية.
  • ترسم روسيا “حدوداً غير منظورة” للوجود الإيرانيّ في سورية، وهذا جزء من تفاهمات عميقة بينها وبين “إسرائيل”، وهو غير بعيد عن تفاهمات مع الولايات المتحدة، لكن ذلك يمكن أن يمثل تهديداً وضرراً لروسيا نفسها في حال انتكست تفاهماتها مع “إسرائيل” أو شهدت علاقاتها توتراً متزايداً مع الولايات المتحدة، وحتى مع تركيا.
  • “رعاية” و”ضمان” التسويات الداخلية، ومؤتمرات الحوار الوطني كما هو الحال في مؤتمر الحوار السوري في سوتشي، ومئات بل آلاف اللقاءات مع فواعل سياسية ومسلحة معارضة من أجل المصالحة والتسوية.
  • إقامة “مسارات موازية” لعملية جنيف المتعثرة والفاشلة حتى الآن، بوساطة عمليتي أستانة وسوتشي، ودفعها بملفات اللاجئين وإعادة الإعمار واللجنة الدستورية.

سابعاً- أسئلة الدور وآفاقه

تراجع إيقاع العمل العسكري في البلاد، لكن المخاطر لم تتراجع؛ بل زادت، ومن الواضح أن روسيا تقوم بعملية مراجعة دائمة للموقف، وخاصة لـ “الموازنة” بين إيقاعي وجودها ودورها: العسكري والسياسي، وبالأخص على الصعيد الداخلي، ذلك أن الهدف الرئيس هو التمكين لسلطة الدولة السورية أو استعادتها، والوصول إلى حلٍّ قابل للاستقرار والاستمرار في سورية، وهذا ما يبدو أنه مطلب السوريين الرئيس أيضاً من روسيا. ولذا تبرز أسئلة عميقة لديهم في المرحلة الراهنة:

  • إلى أي مدى يمكن لروسيا أن تواصل دورها في دعم الدولة السورية ضد الإرهاب وفي مسار الحل أو التسوية، وفي مواجهة التدخلات الخارجية، وخاصة من أمريكا وحلفائها في شرق الفرات وفي سوريا عموماً؟
  • أوصلت التفاهمات أو التجاذبات بين موسكو وواشنطن الأزمة السورية إلى موضع جيد حتى الآن، أو هي ضبطت أي انزلاقات أو تطورات غير محسوبة، لكنها وصلت إلى “عتبة” على درجة كبيرة من التعقيد، وخاصة أن الولايات المتحدة قررت البقاء في شرق الفرات، وتعمل على تعزيز كيانية ذات سياسات انفصالية هناك، وكذلك تحاول تركيا في منطقة إدلب وريف حلب.
  • إنَّ تراجع العمليات العسكرية والمواجهات وَضَعَ سورية أمام مواجهات أو تحديات لا تقل خطورة، تتمثل بـ: أنماط وسياسات الحل والتسوية، واللجنة الدستورية، وشرق الفرات، وإعادة الإعمار، واللاجئين ومؤخراً عقوبات “قانون قيصر”.

كيف يرى الروس دور السوريين القائم أو المحتمل في تحقيق مصالح مشتركة في المستقبل؟ فهذا يساعد في إزالة أي التباسات قائمة أو محتملة أيضاً في الإدراك والإدراك المتبادل بين الطرفين؟

يدرك السوريون أن الأجندة كبيرة ومعقدة، وأنَّ روسيا لا تقرأ الحدث السوري قراءة مطابقة لقراءتهم، وهذا أمر طبيعي، وهم لا يستطيعون أن يطلبوا منها ذلك، صحيح أن روسيا حليف لهم في الحرب، إنما بالمعنى الذي يقرأه ويراه الروس لا بالمعنى الذي يقرؤونه ويرونه هم.

إذا لم تعد التحالفات تامة وكاملة ومطابقة، ثمة منطق للتحالفات اليوم مختلف جداً عما كان الطرفان أو كان العالم يعرفه سابقاً، هنا يظهر كيف يمكن لروسيا أن تكون حليفاً بالفعل لسورية، وحليفاً لـ “إسرائيل”، لإيران وتركيا، وتحصل على ثقة كبيرة لديهم، وقد كان ذلك أمراً حسناً ومفيداً بنظر السوريين، لكنه مبعث قلق كبير لديهم، إنما هذه طبيعة السياسات في عالم اليوم، وعلى السوريين أن “يتدبروا” ذلك أو “يتكيفوا” معه ما أمكن.

ثامناً- الحاجة لـ”حوار استراتيجي”

يطمح السوريون في أن تكون روسيا أكثر إقداماً في موقفها ودورها في الحرب، وخاصة لجهة ضبط أو موازنة سياسات وتدخلات ورهانات الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا وغيرها، ليس بالتركيز على مصالح روسيا الذاتية أو منظوراً إليها انطلاقاً من موسكو فحسب، وإنما مصالح روسيا الذاتية والغيرية ومنظوراً إليها انطلاقاً من دمشق أيضاً.

ومن المهم – بنظر السوريين – أن يدقق الروس في إمكانية إجراء “حوار استراتيجي” مع السوريين حول العلاقات بين الطرفين، بدءاً من التساؤل عن كيفيّة رؤية السوريين لدور الروس القائم أو المحتمل في تحقيق مصالح مشتركة في المستقبل، والعكس صحيح، أي كيف يرى الروس دور السوريين القائم أو المحتمل في تحقيق مصالح مشتركة في المستقبل؟ فهذا يساعد في إزالة أي التباسات قائمة أو محتملة أيضاً في الإدراك والإدراك المتبادل بين الطرفين.

من الفوائد المحتملة لـ”حوار استراتيجي” هو فهم العوامل التي تدفع روسيا للتردد أو الإحجام عن اتخاذ خطوات أكثر وضوحاً أو أكثر حسماً حيال ما يتهدد سورية، وفهم ما الذي “تتفاداه” روسيا في سورية، وفهم ميزان التفاعلات بين روسيا وكل من الولايات المتحدة وتركيا و”إسرائيل” وإيران عموماً وفي سورية تحديداً، وحتى ميزان التفاعلات بين روسيا وفواعل المعارضة ومنها الفواعل في مناطق التسويات مثل درعا والقنيطرة.

يساعد الحوارُ في المقابل على فهم ما الذي “يتفاداه” النظام السياسي في الداخل والخارج، وخاصة في عملية التغيير أو الإصلاح، أو عملية التسوية واشتراطات القرار 2254، والضغوط عليه بشأن علاقاته مع إيران وحزب الله، وهواجسه حيال علاقات روسيا بكل من تركيا و”إسرائيل”، وما الذي يمكن أن تقوم به روسيا من أجل تفكيك ما يعده النظام السياسي مصادر تهديد كبيرة وعميقة جراء الحرب.

تاسعاً- معقد الأمل

لعلَّ التحدّي أو الهاجس العميق والمقيم لدى السوريين حيال روسيا هو فهم تصور روسيا لطبيعة وشكل سورية ما بعد الحرب، فهذا يساعد في تدبير المواقف والسياسات، وضبط التجاذبات بين الطرفين، كما يساعد في “ضبط التوقعات المتبادلة”، أو على الأقل البحث عن صيغ يمكن التفاهم حولها، وخاصة أن ما تراه روسيا أمراً عادياً مثل “النظام الفيدرالي” يراه النظام السياسي مصدر تهديد كبير، وهذا ينسحب على أمور أخرى تتعلق بالتسوية مع “إسرائيل” مثلاً.

إنَّ أي محاولة للإجابة عن سؤال: ماذا يتنظر السوريون من روسيا؟ لا تستقيم ما لم يتم النظر إلى الموضوع من منظار الروس أيضاً، وانطلاقاً من سؤال معاكس وهو: ماذا ينتظر الروس من سورية؟

وهكذا، ينتظر السوريون من روسيا:

  • استمرار الدعم في الحرب ضد الإرهاب، وضد التدخلات الخارجية.
  • دفع عملية الحل أو التسوية، واحتواء الضغوط الأمريكية بهذا الخصوص.
  • استعادة سلطة الدولة، والحفاظ على وحدة المجتمع والدولة في سورية.
  • تفكيك خطوط وخرائط الهيمنة والتدخل والكيانيات في شرق الفرات وشمال سورية (وجنوبها).
  • دفع أو حث السياسات العامة وبيروقراطية الدولة على الإصلاح والتجديد، والمهنية والشفافية والإنتاجية، إلخ.
  • المساعدة في إجراء مراجعات وتقييمات وإصلاحات معمقة للنظام السياسي والقانوني والدستوري، ولطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، إلخ، و”تفكيك” العوائق التي تحول دون ذلك، ارتباطاً بنتائج واستخلاصات “حوار استراتيجي” معمق بين الجانبين.
  • تفكيك أي مدارك أو مصادر تهديد قائمة أو محتملة حيال سورية، جراء التفاهمات بين روسيا وكل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا وغيرها.

خاتمة

إنَّ أي محاولة للإجابة عن سؤال: ماذا يتنظر السوريون من روسيا؟ لا تستقيم ما لم يتم النظر إلى الموضوع من منظار الروس أيضاً، وانطلاقاً من سؤال معاكس وهو: ماذا ينتظر الروس من سورية؟

وقد سبقت الإشارة إلى ضرورة قيام “حوار استراتيجي” بين الجانبين، لجلاء الكثير من الأمور، وتعيين “النواة الصلبة” للعلاقات أي ما يمثل “ثوابت” فيها، ووضع خرائط معرفية وإجرائية لـ “الموضوعات الخلافية” باعتبار أن ديناميات السياسات والمصالح ليست متطابقة يقيناً ولا ضرورة.

وحتى تحقق روسيا مبتغاها من الانخراط في الحرب السورية، فإن من أَولى ما يجب الاهتمام به هو التمكين لسورية من أجل “استعادة نفسها” بشكل آمن ومستقر ما أمكن، وألا تكون “سورية ما بعد الحرب” هي سورية “المتفاوض عليها” أو “نتيجة تسوية”، فهذا ما يجعل منها دولة مفخخةً بالحرب، ولن تكون آمنةً ولا مستقرةً بالقدْرِ الذي يحفظها ويحفظ أهلها ومصالح حلفائها وشركائها.

(*) هذه الدراسة نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)

المصادر:

[1] حوار جيمس جيفري المبعوث الأمريكي إلى سورية، مع جريدة الشرق الأوسط، 2 أيار/مايو 2020.

[2]  سامي كليب، “هل حانت ساعة الحقيقة في سورية؟”، موقع خمس نجوم، 20 أيار/مايو 2020،

[3] حوار جيمس جيفري المبعوث الأمريكي إلى سورية، مع جريدة الشرق الأوسط، مرجع سابق.

[4] روسيا تعد القرار 2254 إطاراً للتسوية أو الحل في سورية، إلا أن قراءة وفهم روسيا للقرار المذكور مختلفة عن القراءة الأمريكية له، كما لو أن الطرفين يتحدثان عن قرارين مختلفين يخصان حدثين مختلفين أيضاً!

[5] عقيل سعيد محفوض، “للسياسة بالاقتصاد: قانون قيصر في الحرب السورية: الأهداف والآثار والاستجابات”، تحليل سياسات، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 7 تموز/يوليو 2020.

[6] فيتالي نعومكين، “ما الذي تنتظره روسيا من سورية؟”، الشرق الأوسط، 20 أيار/مايو 2020.

[7] عقيل سعيد محفوض، “صانع ألعاب: لماذا تريدُ روسيا العودةَ إلى بروتوكول أضنة 1998؟”، تحليل سياسات، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 2 أيار/مايو 2019. 

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  فرنسي رئيساً لحكومة لبنان.. بتغطية حريرية!