إيران والولايات المتحدة.. إستحالة التطبيع

تجاوز التعداد السكاني لإيران حدود الثمانين مليون نسمة، وهم يقطنون في بيئة جغرافية شديدة التنوع ذات مساحة كبيرة تطل بها على آسيا الوسطى وروسيا شمالاً، وجبال الهندكوش وشبه القارة الهندية شرقاً، وعلى بحر العرب والخليج وبلاد الرافدين وهضبة الأناضول غرباً.

تمتلك إيران ثالث مخزون نفطي على المستوى العالمي وبما يتجاوز 133 مليار برميل من النفط، وثاني مخزون عالمي من الغاز وبما يزيد عن 970 ترليون قدم مكعب من الغاز، وهي الدولة الأقوى والأقرب لأهم مخزون عالمي في الخليج، والذي يملك ما يقارب 55 في المئة من المخزون العالمي من النفط و40 % منه من الغاز. كما أنها تمسك بأهم الممرات البحرية عالمياً في مضيق هرمز بشكل مباشر، والبحر الأحمر بشكل غير مباشر، وترتكز إلى تاريخ إمبراطوري عريق، حيث كانت مهداً لأول دولة عظمى عرفتها البشرية في العالم القديم، واستمرت لقرون من الزمن، ما زالت تعبر عن نفسها اعتزازاً وحلماً لدى الإيرانيين، مترافقاً ببعد ثقافي مُستقطـب لمحيطه الواسع من العراق غرباً إلى عمق القارة الهندية وأفغانستان وآسيا الوسطى.

كل ذلك، دفع بالشخصية الإيرانية لأن تتشكل تاريخياً بنزعة استقلالية متجذرة في الوعي الجمعي، وترافقت مع توجس وقلق من الأجنبي عموماً، والغربي خصوصاً. وتدل طبيعة المواجهات مع الغرب ـ والتي بدأت مع ثورة التنباك عام 1891 ـ برفض شعبي عارم لمنح إنكلترا امتيازاً حصرياً للتنباك وحركة تأميم النفط بقيادة رئيس الوزراء محمد مصدق، وحركة 15  خرداد عام 1963، ثم نجاح الثورة الخمينية عام 1979 ، التي دشنت صراعاً مفتوحاً مع الغرب ما زال مستمراً حتى الآن. كل ذلك، جعلها تحظى بالجغرافيا الرئيسيّة في وسط وغرب آسيا، من حيث الموقع والسكان وموارد الطاقة والخصوصية الثقافية، وتصبح ذات أهمية محورية للجغرافيا السياسية العالمية.

آسيا ركيزة نظام دولي جديد

 

ترافقت التحولات الإيرانية مع تحولات عالميّة، ونهضة وصعود قوى آسيوية إلى مرتبة الدول العظمى، والتي تسعى لتشكيل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وتمثل الصين وروسيا أساساً لهذا المشروع، واستطاعت هذه الدول الثلاث أن تشكل تحالفاً غير معلن في ما بينها تمثل فيه إيران جبهة المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة في حروب غير مباشرة بين الطرفين في كلٍ من أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، ما زعزع موقف حلفاء واشنطن في دول الخليج وإسرائيل بالدرجة الأولى.

تدرك الولايات المتحدة أنها تعيش مخاطر انحسار تفردها واستئثارها بالقرار الدولي، وما سيترتب على ذلك من فقدانها لمصالحها الاقتصادية القائمة على نهب ثروات الشعوب، وتعتبر أن أكبر الأخطار على مكانتها العالمية هو التقدم الكبير للمشروع الصيني، الذي ينافسها بقوته الناعمة في آسيا وإفريقيا، وما يعزز الخطر الصيني هو عودة روسيا إلى المشهد الدولي، عسكرياً وسياسيا، وتحالفها مع الصين في مواجهة السياسات الأمريكية المتبعة، وطرحها للمشروع الأوراسي الذي يتقاطع مع المشروع الصيني على مستوى آسيا كمرحلة أولى وأساسيّة، وعلى أوروبا كمرحلة ثانية.

إمكانية تطبيع العلاقة بين الطرفين هي أقرب للاستحالة، وستستمر المحاولات الأميركية لمنع تحقيق النهوض الآسيوي الشامل المُهدد لوجودها

بالإضافة إلى الخصمين الدوليين، الصيني والروسي، كانت خسارة الولايات المتحدة لإيران عام 1979 بمثابة الكارثة، وخاصةً بعد أن تحولت الجمهورية الإسلامية في العقد الأخير إلى قوة إقليمية عظمى، لها تأثيرها الفاعل على مجمل الجغرافيا السياسية لغرب آسيا، وأهمها “إسرائيل” وتراجع دورها الوظيفي في المشرق عموماً، بالإضافة إلى أفغانستان وباكستان، وهو ما جعل الولايات المتحدة تعتقد جازمةً بأن قارة آسيا بأكملها هي التي ستحدد مصير النظام الدولي القديم ومكانتها في أي نظام جديد قادم، ولذلك تعمل على محاصرة الصين وروسيا، والعمل على خلق عدم الاستقرار فيهما، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بتقطيع أوصال القارة ومنع تواصلها البري مع بعضها البعض،  وما يحقق لها مجموعة واسعة من الأهداف هو إعادة السيطرة على إيران، فهي بذلك ستدفع بالصين للتقوقع في شرق آسيا بعد قطع طرق النقل البرية التي تعمل على بنائها كبديل عن طرق النقل البحرية، وبإعادة السيطرة على مخزون النفط والغاز وطرق نقله إلى الهند والصين، مما يكسبها ورقة قوية للضغط على اقتصاد الصين بشكل أساسي، ويعزز من مكانة الدولار كعملة وحيدة للتبادل التجاري الدولي، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا التي ستفقد ـ في حال نجاح الأمريكيين ـ حليفاً استراتيجياً لا غنى عنه في سوريا ولبنان والعراق والبحر الأحمر والخليج وأفغانستان، وسيحرمها من الوصول البري إلى المحيط الهندي وبحر العرب والخليج، كما أن الأمر سيؤدي لانهيار محور المقاومة، وإعادة كامل غرب آسيا إلى القبضة الأميركية، مما يؤمن بدوره وضعية “إسرائيل” في كامل المنطقة ويعيد لها وظيفتها، وعودة السيطرة الأميركية على تركيا التي تحاول بناء مشروعها الإمبراطوري الجديد.

استراتيجيات المواجهة

اتبع الأميركيون والإيرانيون طرقا مختلفة للمواجهة في ما بينهما، هي بالأساس طرق غير مباشرة في ساحات متعددة، تعتمد على حلفاء كلا الطرفين، وتظهرت بأشكال متعددة حسب كل مرحلة من المراحل، وقد تداخلت هذه الأشكال إلى حد الإندماج، بحيث تشابك الفعل العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، وقد استخدمت الولايات المتحدة سطوتها الاقتصادية والإعلامية والمعلوماتية والإستخباراتيّة لإثارة الفوضى والحرب الأهلية في كل من سوريا واليمن والعراق، ونجحت بذلك إلى حد كبير، مما شكل ضغطاً هائلاً على إيران وحلفائها، وما زالت محاولاتها مستمرة في الداخل الإيراني، قبل أن تفرز قضية إغتيال قاسم سليماني معادلات جديدة في الداخل الإيراني، كما في الإقليم، لمصلحة النظام الإيراني.

إقرأ على موقع 180  سردية متغيرة للنظام العالمي.. باتجاهات مختلفة!

في المقابل، أدركت إيران حجم الفارق الهائل بين القوتين، فاستخدمت حنكتها لتحويل التهديدات إلى فرص، فلجأت إلى إنشاء حلف المتضررين من السياسات الغربية بالعموم، ومن السياسات الأميركية بالخصوص، ونجحت بذلك بشكل كبير في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن، وبشكل جزئي في العراق، واتبعت سياسة استهداف نقاط ضعف أعدائها بنقاط قوتها، فلجأت لاتباع أسلوب الحرب اللامتماثلة للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها، وهي تستند بذلك إلى حليف صيني داعم لها، ويربط مصيره بمصيرها، وحليف روسي يكتشف بشكل متلاحق أهميتها له.

آفاق المواجهة إلى أين؟

 

هدفت السياسات الأميركية المتبعة بعد احتلال العراق للكويت لاستثمار الفرصة، وتهيئة الأرضية المناسبة لحضور عسكري كبير في الخليج، ثم محاصرة العراق لاحتلاله، وقد فعلت ذلك بعد أن استثمرت تدمير برجي مركز التجارة العالمي المشبوه في نيويورك عام 2001 باحتلال أفغانستان، وأتبعت ذلك باحتلال العراق عام 2003، مما وضع إيران بين فكي كماشة عسكرية من الشرق والغرب والجنوب الغربي.

يدرك الطرفان بأنهما لا يستطيعان التخلي عن استراتيجيتيهما المتناقضتين، وكلاهما يعتبر الطرف الآخر تهديداً وجودياً له، وهما يدركان أن الزمن الحاكم للمواجهة هو زمن طويل

لطالما إستطاعت إيران أن تحوّل التهديدات إلى فرصة بعد أن أدركت عدم قدرتها على منع الحضور العسكري الأميركي في المنطقة، فكانت كلمة الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني لمواجهة الاحتلال الأميركي للعراق: “دعهم يأتون، دعهم يموتون” خير تعبير عن طبيعة السياسات الإيرانية المتبعة، مما جعل الجنود الأميركيين بين فكي العمليات العسكرية لحلفاء طهران وبين التهديدات الصاروخية الإيرانية المكثفة. وفي الوقت نفسه، استطاعت أن تتعاطى مع وتر آخيل الغرب “إسرائيل” بمواجهة عسكرية بدأت مع احتلال الجنوب اللبناني عام 1982، وما زالت مستمرة حتى الآن بعد نجاح حزب الله في تحرير الجنوب في عام 2000، وتحوله إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية، وكذلك الأمر لحلفائها في فلسطين واليمن.

إخراج الأميركيين من المنطقة

 

ولم تغب المواجهة الدبلوماسية عن العلاقة بين الطرفين، فكان لا بد من قنوات سرية للتواصل بين الطرفين، وخاصةً القناة العُمانية لرسم حدود المواجهة بينهما، ومنع الصدام العسكري المباشر في أكثر من ساحة، وهذا ترتب عليه مجموعة من التفاهمات التي هي أقرب للهدنة والمُساكنة المؤقتة في أغلب الساحات، ويدرك الطرفان بأنهما لا يستطيعان التخلي عن استراتيجيتيهما المتناقضتين، وكلاهما يعتبر الطرف الآخر تهديداً وجودياً له، وهما يدركان أن الزمن الحاكم للمواجهة هو زمن طويل مرتبط بالتحولات الدولية العميقة لتشكيل نظام دولي جديد.

وبرغم القدرات الأميركية الكبيرة المستخدمة لإخضاع إيران، فإن واشنطن تدرك أن هناك قوة إقليمية متعاظمة استطاعت اتباع استراتيجية الدفاع المتوسع في كل غرب آسيا، بعد أن حولت الهجوم عليها وعلى حلفائها إلى فشل، مما جعلها تملأ الفراغ، وتصبح نداً لها على مستوى الإقليم كله، ما يؤكد أن إمكانية تطبيع العلاقة بين الطرفين هي أقرب الى الاستحالة، وستستمر المحاولات الأميركية لمنع تحقيق النهوض الآسيوي الشامل المُهدد لوجودها، وفي الوقت نفسه، ستستمر إيران بمحاولاتها إخراج الأميركيين من غرب آسيا الذي سيترتب عليه خروجهم من كامل القارة، مما سيؤسس لنظام دولي جديد عماده قوتان عظميان، وقوة إقليمية عظمى وانتظار القوة التركية التي ستصبح القوة الإقليمية الثانية في حال اختارت التوجه شرقاً، باتجاه روسيا وإيران التي تربطها بها أيضاً حدود من الشمال الغربي، ومصالح أمنية واقتصادية، وتبادل تجاري بمليارات الدولارات، وعلاقة تاريخية لأكثر من خمسمئة عام، وغيرت استراتيجيتها من منطق الهيمنة إلى التعاون، ما يعني حل القضايا الخلافية بين الطرفين (سوريا وحلف الناتو) بشكل رئيس، وتعزيز مشروع إخراج الأميركيين من كل المنطقة.

(*) باحث وكاتب، سوريا

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  فرنسا تخسر مواقعها في الساحل الإفريقي.. لغير مصلحة واشنطن