يعتبر نتنياهو، وهذا ما قاله صراحة، أن أميركا تُسرّع الخطى نحو إتفاق مع إيران، كي تقطع الطريق على إسرائيل في توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وهي في نظره الوسيلة الوحيدة لتدمير البرنامج النووي الإيراني، وليس عبر العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، أو عبر إتفاقات أو تفاهمات أخرى.
في الواقع، تنطلق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من حقيقة أن مضي إيران في مراكمة مخزون من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء 60 في المئة، يُقرّبها أكثر من القنبلة، وأن الوقت لا يعمل لمصلحة أميركا أو إسرائيل إذا لم يصر إلى إتفاق مع طهران يوقف التخصيب عند درجة 60 في المئة، ولا يتجاوزها. والجزيئات التي عثر عليها مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية في كانون الثاني/يناير في منشأة فوردو وكانت درجة تخصيبها 83.7 في المئة، شكّلت جرس إنذار بأن البرنامج النووي الإيراني بلغ عتبة يتعين معها على أميركا التحرك على عجل وبالطرق الديبلوماسية لإحتواء الموقف.
الإقتصاد الإيراني لن يشهد إنتعاشاً ترجوه حكومة إبراهيم رئيسي من دون تخفيف العقوبات الغربية. وقد فتح إعلان المرشد آية الله علي خامنئي مؤخراً عن عدم الممانعة في إتفاق مع الغرب، الباب أمام نشاط ديبلوماسي في مختلف الإتجاهات
في هذا السياق، أبلغ رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي مجلس الشيوخ في شهادة في آذار/مارس الماضي، أن إيران “قادرة على إنتاج ما يكفي من المواد الإنشطارية لصنع سلاح نووي في فترة تتراوح ما بين عشرة إلى خمسة عشر يوماً، وتحتاج فقط إلى بضعة أشهر لإنتاج سلاح نووي فعلي”.
وبإزاء الديبلوماسية أو تفجير نزاع جديد في الشرق الأوسط، يختار بايدن الذهاب إلى الخيار الأول. وبعد الإشتباكات بين فصائل موالية لإيران ومقتل متعاقد أميركي في سوريا ورد البنتاغون بقصف مواقع للفصائل العراقية أوائل العام الجاري، برزت فجأة مؤشرات من الجانبين تدل على رغبة في خفض التصعيد. ومن هنا كان لقاء المبعوث الأميركي للشؤون الإيرانية روبرت مالي مع المندوب الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني، بحسب ما روت صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية مؤخراً، قبل أن يُحال مالي مؤخراً إلى تحقيق داخلي “بشأن سوء تعامله المحتمل مع وثائق سرية”، وفق البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية.
ما يريده بايدن هو التوصل إلى إتفاق لخفض التصعيد، وليس إتفاقاً سيضطر معه إلى الحصول على موافقة الكونغرس. وهكذا تحرك الوسيط العُماني مستخدماً “ديبلوماسية تبادل السجناء” مع بلجيكا، كفاتحة للبدء في توسيع التبادل ليشمل السجناء الأميركيين في إيران من حملة الجنسية المزدوجة. ومن الممكن أن تتوسع هذه الخطوات لتشمل “تفاهماً” وليس إتفاقاً لوقف إيران درجة التخصيب عند 60 في المئة مع خطوات لنزع فتيل التوتر وترسيخ الهدوء في بعض نواحي الإقليم. ويظهر هذا الهدوء أكثر ما يظهر في العراق، الذي غابت عنه في الأشهر الأخيرة ظاهرة إطلاق الصواريخ والمُسيرات ضد قواعد تؤوي جنوداً أميركيين. وفي المقابل، تفرج أميركا عن أصول إيرانية في العراق وكوريا الجنوبية ودول أخرى وتقدر قيمتها بحوالي 24 مليار دولار.
رُبّ سائل هنا: لماذا تريد إيران إبرام تفاهم مع أميركا في وقت تتمتع فيه بعلاقات إقتصادية وسياسية ممتازة مع الصين وروسيا؟
هنا تتعين العودة إلى المصالحات التي أبرمتها طهران مع دول الخليج العربية منذ إتفاق بكين في العاشر من آذار/مارس الماضي. إتفاقات التطبيع الإيرانية-الخليجية، تُحصّنها الإستثمارات والتبادلات التجارية. وهذا عامل لن يكون متوافراً في حال بقي سيف العقوبات الأميركي مصلتاً على إيران. وحتى الكثير من الشركات الصينية تتردد في الإستثمار في إيران بسبب العقوبات الأميركية. إذن الإقتصاد الإيراني لن يشهد إنتعاشاً ترجوه حكومة إبراهيم رئيسي من دون تخفيف العقوبات الغربية. وقد فتح إعلان المرشد آية الله علي خامنئي عن عدم الممانعة في إتفاق مع الغرب، الباب أمام نشاط ديبلوماسي في مختلف الإتجاهات.
وإيران التي تستخلص العبر من الإحتجاجات التي تفجرت في أيلول/سبتمبر الماضي على خلفية وفاة الفتاة مهسا أميني في مركز للشرطة بعد توقيفها بسبب عدم إرتداء الحجاب بطريقة ملائمة، تدرك أكثر من أي وقت مضى أنه يتعين تحسين الوضع الإقتصادي في الداخل ووقف إنهيار الريال، إذا ما أرادت تفادي إندلاع إحتجاجات جديدة على خلفية معيشية هذه المرة. أضف إلى ذلك أن طهران تراقب حملة الإنتخابات الرئاسية الأميركية التي بدأت عملياً من خلال إعلان الرئيس السابق دونالد ترامب ترشحه وإعتزام بايدن أيضاً أن يحذو حذوه رسمياً وإن كان قد سبق أن أعلن نيته الترشيح. ترامب المحاصر بالدعاوى القضائية يتصدر منافسيه الجمهوريين. أقربهم إليه حاكم فلوريدا رون ديسانتس. لكن الفارق بينهما 30 نقطة لمصلحة الرئيس السابق. وحتى حاكم فلوريدا مشبع بالأفكار الشعبوية ولا يختلف كثيراً عن ترامب.
عودة ترامب لن تكون خبراً جيداً بالنسبة لإيران، لأنها تعني على الأقل تشديداً للعقوبات وقد يكون أكثر تسامحاً مع عمليات التخريب الإسرائيلية داخل إيران، لذلك ربما إبرام تفاهم مع بايدن الآن يعود بالفائدة ولو مؤقتاً على طهران.
وإذا عكسنا السؤال، لماذا يريد بايدن تفاهماً مع إيران الآن؟
ذلك عائد لجملة من الأسباب، تبدأ بعدم رغبة بايدن في التورط في نزاع مسلح آخر في الشرق الأوسط، لا سيما في ضوء إستمرار الحرب الأوكرانية وإحتدام التنافس مع الصين.
عودة ترامب لن تكون خبراً جيداً بالنسبة لإيران، لأنها تعني على الأقل تشديداً للعقوبات وقد يكون أكثر تسامحاً مع عمليات التخريب الإسرائيلية داخل إيران، لذلك ربما إبرام تفاهم مع بايدن الآن يعود بالفائدة ولو مؤقتاً على طهران
لذا ينصب إهتمام بايدن على نزع فتيل صراع مع إيران، وسحب الذريعة من نتنياهو كي لا يمضي في خططه لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. والأميركيون واثقون من أن إسرائيل وحدها غير قادرة على تنفيذ مثل هذه الضربة بمفردها. وترفض أميركا حتى الآن تسليم إسرائيل قنابل قادرة على خرق التحصينات الإيرانية من طراز “جي. بي.يو-43”.
وجاء رد نتنياهو على مضي بايدن إلى تفاهم مع إيران، على شكل تصعيد واسع في غزة، حيث وجه ضربة “إستباقية” إلى القيادة العسكرية لحركة “الجهاد الإسلامي” في القطاع في أيار/مايو الماضي، ومن ثم شنّ حملة دهم وإعتقالات وتصفيات لكوادر وعناصر “الجهاد” في جنين ونابلس، كان أوسعها قبل عشرة أيام مع توغل جنوده في جنين التي بدأ مسؤولون إسرائيليون يصفونها بالجبهة المتقدمة لإيران في الشرق الأوسط، وبلغ التصعيد ذروة أخرى مع إغتيال ثلاثة من ناشطي “الجهاد” و”كتائب شهداء الأقصى” التابعة لحركة “فتح” بواسطة مُسيّرة للمرة الأولى منذ 20 عاماً.
الحملة الإسرائيلية على الضفة الغربية وتعزيز الجيش الإسرائيلي قواته فيها، يترافق مع قرار للحكومة الإسرائيلية بإختصار عملية الموافقة على بناء وحدات إستيطانية جديدة، من أربع مراحل إلى مرحلتين، ومنح وزير المال بتسلئيل سموتريتش الذي يتزعم حزب “الصهيونية الدينية” صلاحيات إستثنائية على هذا الصعيد، تؤشر كلها إلى سعي حثيث من قبل نتنياهو لتطبيق “صفقة القرن” التي كان إتفق عليها مع ترامب والتي تلحظ ضم أكثر من 40 في المئة من الضفة الغربية، وتعني فعلياً موت “حل الدولتين”.
التصعيد الذي يقوده نتنياهو جوهره البعث برسالة واضحة إلى بايدن، بأن الرد على تفاهم أميركي ما مع إيران سيدفع ثمنه الفلسطينيون، من طريق إستحالة قيام دولتين بين البحر المتوسط ونهر الأردن. يتخذ نتنياهو غطاءً لسياساته مما يعتبره تردداً أميركياً في اللجوء إلى القوة ضد إيران، وإستمرار الرهان على الديبلوماسية، بينما يراهن نتنياهو على عودة ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض ليجد أن “صفقته” قد أنجزت.