قراءة في الحراك الإحتجاجي: محاولة لم ترق الى إنتفاضة  

يشهد لبنان منذ 17 ت1/أكتوبر حراكاً إحتجاجياً متفاوت في النبرة  ومتنوع في الأساليب ومتباين في المضامين، وقد أختلف المشاركون فيه والكاتبون عنه في توصيفه؛ هل هو ثورة أم إنتفاضة أم حراك أم مؤامرة أم؟ ويحسن بعد مئة يوم على إندلاعه إمعان النظر فيه لوضعه في نصابه الحقيقي وإستخلاص العبر منه، وسيكون النظر فيه من خلال: رصد لحظة إنطلاقه وظروفها،  رصد مسيرته، توصيف الحراك، الحقل السياسي، مآله.
  • لحظة الحراك وظروفه

إنطلق الحراك في 17 ت1/أكتوبر بفعل إعلان وزير الإتصالات فرض ضريبة على الواتساب تطال كل لبناني ولبنانية في إشتغالهم اليومي، عملاً وترويحاً وعلاقات إجتماعية. وجاء الإعلان عن القرار  مواكباً لمعطيين أساسيين:

  • أزمة إقتصادية عبقت بالبلد لسوء إدارة ولفساد مستشري، من جهة، ولوقف المساعدات الخارجية، المباشرة وغير المباشرة، من جهة ثانية، ولعجز في إدارة السلطة للأزمة ومعالجتها من جهة ثالثة، وإنكشف استعصاء ذلك في عدم تمكن مجلس الوزراء من إقرار الموازنة لإستعجال استدرار اموال سيدر الموعود بها واقرار المجلس في آخر جلسة له سلة ضرائبية  شديدة الصرامة، كان الإعلان عن إحداها مدعاة الإحتجاج.
  • حدة الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية ومن لف لفها، عربيا، والدولة الإيرانية ومن دعمها، دوليا، واندرج في مشروعها، عربياً، وإنعكست الحدة على لبنان لوجود داعمي الفريقين فيه، مع تفاوت في القوة؛ إذ تصارع في السياسة حول موقع لبنان، وفي الديموغرافيا السياسية حول وجود السوريين فيه، نازحين وعمالاً، وفي الإقتصاد حول توفير المساعدات وشروطها.
  • مسيرة الحراك

إنطلق الحراك بفعالية ملحوظة وغامضة في 17 تشرين الاول/أكتوبر، وكانت ساحاته الرئيسية بيروت وطرابلس وحواضر أخرى وإتخذ شكل التظاهر والإعتصام السلميين  تحت شعار إتهام قوى السلطة بالفساد والدعوة لمحاربتها، واستمر على هذا المنوال مع دخول ناعم لطرفين مستضعفين في السلطة (القوات اللبنانية والحزب الإشتراكي) حتى خطاب السيد حسن نصرالله (19ـ 10ـ 2019) الذي اتهم قوى خارجية بدعمه وتمسك بالوضع السياسي الراهن.

وكان إعلان مجلس الوزراء نقاط إصلاحية مدعاة تشديد نشاط الحراك تطلباً للأكثر، لكن إستقالة الحريري (28ـ10ـ2019)   وإمتعاض حزب الله ورئيس الجمهورية وحلفائهما من ذلك، دفع الحراك نحو أحد محوري القوى الحاكمة؛ إنْ بمطالبة قوى في الحراك بإستكمال استقالة الحريري باستقالة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب  أو بإشتراك بعض من المستقبل والاشتراكي والقوات في الحراك، وبخاصة في قطع الطرقات، وقابله حراك شعبي التف حول رئيس الجمهورية وحراك أمني مواجه للحراكيين، كما دفع قوى حاكمة ولفيفها الى ولوج ساحات الحراك ونصب خيمها باسماء حركية.

وشهد ما بين خمود مفاعيل الإستقالة  وتكليف حسان دياب مراوحة في الحراك بلغت حد الإنكفاء، فاقتصر على ساحات بيروت وطرابلس وكفررمان وعلى ردود على بعض الإستفزازات، وبعضها إستفزاز تيار المستقبل بمحاولة تكليف آخرين لرئاسة الحكومة، لتتجدد في اسبوع الغضب (19ـ1ـ2020).

وشهد اسبوع الغضب تجدداً في زخم الحراك ووجهته واسلوبه، فكانت المطالبة بالإسراع بتشكيل الحكومة، للتشكيل وضرورته الوطنية بحد ذاته وللحظ إشراك مقربين من الحراك فيها، وإتخذ شكل قطع الطرقات عند البعض (البقاع، طريق بيروت – البقاع، طريق الجنوب) ورفع وتيرة المواجهة مع البنك المركزي والمصارف عند البعض الآخر ورفع وتيرة المواجهة مع مجلس النواب ورئيسه عند البعض الثالث، وغلب على البعض الأول مشاركة فاعلة لتيار المستقبل وغلب على الثاني مشاركة لحزب الله وغلب على الثالث مشاركة للجماعة الإسلامية وحزب التحرير الإسلامي.

وتواصلت فعالية الحراك بعد تشكيل الحكومة للشك بقدرتها  على محاربة الفساد وحل الأزمة الإقتصادية، من جهة، ولإتهامها بأنها حكومة محور حزب الله، من جهة أخرى، وكان واضحاً اشتراك بعض المستقبليين فيه.

  • الحقل السياسي للحراك

إنطلق الحراك في حقل سياسي يدور الصراع فيه حول موقع لبنان في الصراع الإقليمي وحول عبء الأزمة الإقتصادية المتأتية من نفاذ الدعم بفعل مفاعيل الصراع على الموقع وبفعل التناتش على الحصص، وكانت القوى والهيئات غير الحاكمة في موقع محاولة النهوض من تخبط تاريخي عند البعض وتخبط آني (مظاهرات 2015 وما بعدها) عند البعض الآخر.

ويفترض المنطق أنْ يكون الحراك في موقع الصراع وفي ساحته، فمن هي قوى الحراك ومن تصارع  وما هو موقعها في الصراع المحتدم؟

المتداول عبارة عن ثلاثة آراء؛ عفوية الحراك بفعل فجاجة قرار وزير الإتصالات وفداحته؛ مبادرة مجموعات  الناشطين والأحزاب اليسارية التي كانت تتحضر لعمل ما قبل القرار الى التحرك السريع؛ جهة ما دولية، سماها البعض الولايات المتحدة الأميركية وسماها البعض الآخر الجهات الممولة  لبعض مجموعات NGO وسماها البعض الثالث دول الخليج العربي.

وسنتجاوز تحديد المبادر، برغم أهميته، لرصد مجريات ما بعد الإنطلاق، فقد إندرجت قوى الحراك في الأيام الأولى له ضمن ثلاث: أحزاب يسارية إنبرت في لحظة مؤاتية، لإعادة لعب دور إفتقدته، مجموعات خارجة عن هذه الأحزاب وناقدة لها إنبرت لإثبات صحة نقدها لقياداتها وللمزايدة عليها، مجموعات نقابية وغير حكومية إنبرت لإثبات وجودها ولمماشاة مطالب جزئية سبق ورفعتها.

وغلب على هذه التنظيمات الإنتماء الى الطبقة الوسطى، طبقياً، والمديني، جغرافياً، والسني- المسيحي، طائفياً، مع تعاطف عام من كل المناطق والطوائف وحضور لافت للنساء وللشباب؛ فهذه التنظيمات ومن لبى الدعوة الى التحرك الميداني هم من الموظفين وطلاب الجامعات واساتذتها والعاطلين عن العمل، خريجي جامعات ومفصولين عن العمل،  ومواقعهم في بيروت وطرابلس وصيدا، مع تحشدات محصورة في جل الديب وكفررمان وصور وعاليه وزحلة، ولم تشهد المناطق ذات الكثافة الشيعية حضورا لافتا للإحتجاجات.

 وبرغم المروحة الواسعة من المطالب التي رُفِعت، فقد كان الشعار الرئيسي “كلن يعني كلن” موجهاً لكل القوى الحاكمة وإتهامها بالفساد.

أما خصم الحراك، فإنها القوى المسيطرة، وهي قوى متهمة بالفساد، وفي موقعين متباينين من الصراع الإقليمي، ولم تكن هذه القوى على تضامن فيما بينها؛ إذ كان بعضها ممتعضاً من إستبعاد الأقوى والأفعل في الحكم لها من خيراته وكان الحاكمون الفعليون يخوضون صراعاً على موقع لبنان وحدود حصصهم في البلد.

وقد أزال خطاب السيد حسن نصرالله (19ـ10ـ2019) لبساً ساد في اليومين الأولين عن دعم غير معلن للحراك للتنصل من تهمة المشاركة في الضرائب التي ستفرض ولتعزيز دوره بموقع غير طائفي، كما فتح المجال لدخول طرفين في الحكومة في الحراك (القوات والحزب الأشتركي)  وللتبرؤ من شمولهما تهمة الفساد وطرف خارجها (الجماعة الإسلامية وحزب التحرير)، ووضح من خطاب نصرالله ومن دعوات في الحراك شعار مواجهة سلاح حزب الله.

وقد رفدت استقالة سعد الحريري (29ـ10ـ2019) الحراك، ميدانيا، بقوى عبرت عن نفسها بحضور في البقاع وشوارع بيروت وبشعارات تدعو لإستتباع استقالة رئيس الوزراء باستقالة رئيسي الجمهورية ومجلس النواب ثم بالتمسك بعودة الحريري، تاليًا. وبذا اصبحت قوى الحراك اربع: قوى اليسار، باحزابه ومشتقاته الموالية والمعارضة، قوى المنظمات غير الحكومية وما تمثل، قوى اسلامية سنية منخرطة في المشروع التركي، قوى احزاب سلطوية، في مواجهة رئاسة الجمهورية وتياره والثنائي الشيعي.

وشكلت فترة ما بين تكليف حسان دياب بتشكيل الحكومة وقبيل تشكيلها تراجعاً في حضور قوى الحراك الإحتجاجي الأولى وتحولا في ساحة الصراع من صراع بين قوى الحراك، على ضعفها وقوة التعاطف الشعبي معها، وقوى السطة، على قوتها السلطوية والطائفية وضعف التعاطف معها، الى صراع بين أطراف السلطة حول تشكيل الحكومة بحيث تحولت قوى الحراك الإحتجاجي الى شهود ومراقبين، وهذا بعض ما يفسر غياب الإهتمام الإعلامي به.

ويحمل هذا التحول وجهين بريئين كما قد يكونا مقصودين؛ الوجه الأول، التباين بين قوى الحراك الأولى حول الموقف من تكليف دياب والغرق في لعبة توصيف التكنوقراط وهو موقف يدفع للشك برغبة البعض منهم بأنْ يكونوا التكنوقراط المطلوب والممكن، والوجه الثاني، التباين بين قوى السلطة حول تشكيل الحكومة والموقف من الحراك، وإذا كان التباين حول تشكيل الحكومة طبيعي للإختلاف على الحصص وإختلاف المرجعيات الإقليمية، وليس المرجعيتين فقط، فإنّه حمل بعداً آخر، قصدأً أو عفواً، تمثل باستنزاف قوى الحراك الأولى وجمهور المتعاطفين معها،  وهذا البعد يندرج في لعبة التعامل مع الحراك؛ إذ عمدت قوى السلطة الى الإنخراط في الإنتفاضة بمشاركة البعض في قطع الطرقات ومشاركة الكل في نصب الخيم في ساحات الحراك.

وقد كان الحسم في الإبقاء على دياب رئيساً للوزارة والحسم في توزيع الحصص فيها وفي الأسماء الى حدٍ كبير، ايضاً، مدعاة تجدد فعالية الحراك بما عُرِف باسبوع الغضب (من 12 إلى 19ـ1ـ2020) ، مع تبدل، عفوي أو عمدي، في قواه؛ إذ وضح عودة قوى الحراك الأولى، وبخاصة الحزببين بينهم، وإنضياف قوى حزبية أخرى من المحورين الأقليميين: إيران وتركيا، كل لحسابات مختلفة.

ولم يخفض إعلان ولادة الحكومة رسمياً (21ـ1ـ2020) حدة الإحتجاجات، وإن برّد عنفيتها، فقد واصلت قوى الحراك الأولى ومعها في هذه الفترة بعض الخارجين من السلطة إحتجاجها على طبيعة الحكومة، وعرضاً على إقرار الموازنة.

  • توصيف الحراك

أُطلِق على الحراك المتواصل أسماء عدة من القائمين به ومن وسائل الإعلام ومن الكتّاب، وتندرج هذه التسميات تحت ثلاثة أسماء: ثورة، إنتفاضة، حراك إحتجاجي؛ ولكل من هذه الأسماء/ المصطلحات مدلولا في العلوم الإجتماعية، وهو مدلول تتباين الإتجاهات والمدارس والمفكرين في تحديده، راهناً وفي ما مضى من المراحل.

وبرغم التباين في تحديد كل من هذه الأسماء، وهذا ما يحتاج الى بحث آخر، فإنّها تندرج في حقل دلالي واحد قوامه: قهر وظلم واقع، جماعة مقهورة ومظلومة، استهداف لرفع الظلم والقهر، عمل لرفع الظلم بقوى ووسائل واساليب محددة موجه ضد القاهرين والظالمين، وتتباين كل منها في طبيعته وحدوده وعمقه.  وعليه:

  • الاحتجاج يكون، في الغالب، على ظلم وقهر مباشرين ومحسوسين في قضية محددة، وغالبا ما يكون محصوراً بجماعة محددة (ضمن منطقة أو قطاع) يقع عليها الظلم والقهر مباشرأً وقد يكون فاقعاً في فجاجته، وقد يتسع ليطال اكثر من جماعة ويصل الى حدود الشغب، في حالات نادرة. ويكون استهدافه في القضية المطروحة، وهو إستهداف مباشر وقريب، محسوسا، ويكون العمل فيه، في الغالب، من المظلومين والمقهورين، عفويا، مع إحتمال تصدر مجموعة منظمة بينهم أو تصدر الفاعلين بينهم، وباساليب يغلب عليها الشدة وبوسائل سلمية ، اما القاهر أو الظالم، فقد يكون صاحب عمل او صاحب موقع في السلطة العامة أو السلطة العامة نفسها.
  • والإنتفاضة تكون، كما الإحتجاج، على ظلم وقهر مباشرين ومحسوسين في قضية محددة، وغالباً ما يكون متجاوزاً الجماعات ومتصلا بالشعب كله، ويكون إستهدافه في القضية المطروحة، استهدافاً مباشراً وقريباً من المحسوس، ويكون العمل فيه، في الغالب، من المظلومين والمقهورين بفعل تصدر مجموعة منظمة لهم، وقد تكون في حالات نادرة عفوية  حين يكون الحدث المعبر عن الظلم أو القهر صادماً في فجاجته، وباساليب سلمية وعنفية وبمروحة واسعة من  الوسائل، ويكون القاهر أو الظالم هو السلطة العامة في البلد أو المحتل.
  • أما الثورة، فتكون على وضع يكتنز الظلم والقهر على فئات واسعة من الشعب في أكثر قضية قد تصل الى مختلف جوانب الإجتماع السياسي، ويكون إستهدافه للوضع برمته لتغييره بوضع آخر يدعى أنّه اكثر ملائمة للغالبية وأكثر عدلا لها. ويكون العمل فيها من قلة منظمة تدرك فجاجة الظلم والقهر ودرجة التذمر بين المظلومين والمقهورين فتتحرك باساليب يغلب عليها العنف والخروج عن الأنظمة السائدة لمواجهة الظالمين والقاهرين الذين، هم حكمأً، السلطة العامة أو المستعمر.

 ويمكن المقايسة بين هذه الأشكال حسب عناصر التكوين:

  • فالقهر والظلم في الاحتجاج والإنتفاضة محدداً وموضعياً، بينما هو في الثورة عاماً.
  • والمتحركون في الإحتجاج والإنتفاضة هم الواقع عليهم الظلم والقهر، بعامة، سواء أكان محركوها جماعة منظمة او كانت عفوية تصدرها الناشطون فيها. بينما المتحركون في الثورة هم قلة منظمة تدرك، حقيقة أو وهما، أنّ كثرة من الفئات ممتعضة ومتذمرة من الظلم والقهر الواقع عليه.
  • والهدف في الإحتجاج جزئيا ومحصوراً بقضية محددة ومحسوسة يعبر عنها مباشرة بشعار أو مطلب محدد والهدف في الإنتفاضة على الدرجة نفسها في المحسوسية والإنحصار لكنه شامل لغالبية فئات الشعب أو كلها، أما الهدف في الثورة فهو عام وشامل ومجرد يعبر عنه بمشروع للتحقق وبرنامج للتنفيذ ووسائل للعمل.
  • والعمل في الإحتجاج يجري ضمن الأطر الشرعية في البلد ويقوم به غالبية المتضررين من الظلم أو القهر، بقيادة مجموعة منظمة سابقة أو مجموعة متصدرة لحظوياً، وباساليب ووسائل سلمية وكذا العمل في الإنتفاضة في الشرعية والمشاركة مع غلبة التنظيم في القيادة وتفلت في الأساليب والوسائل، على قاعدة السلمية منه. اما العمل في الثورة، فيجري خارج أطر الشرعية وتقوم به القلة المنظمة على قاعدة إفتراض رضى الأغلبية عليها أو بلوغ التذمر درجة عالية من النضوج.
  • والخصم، المفترض أنّه الظالم والقاهر في الإحتجاج هو صاحب موقع في الإنتاج أو في السلطة، وهو في الإنتفاضة السلطة العامة او المستعمر، أما في الثورة، فالسلطة العامة، بقواها كافة وبالفئات المجتمعية التي تعبر عنها وتدعمها، أو المستعمر ومن يستتبعه.
إقرأ على موقع 180  عندما يدفع إقتصاد لبنان ثمن خيارات عون السياسية

 وعلى ضوء هذا التمييز في الحقل الدلالي نفسه، اين نضع ما جرى منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر في لبنان؟

يمكن القول أنّ ما جرى لا تتوفر فيه شروط الثورة لغياب القوة المنظمة والقائدة له ولغياب البرنامج الناقض للنظام السائد ولغياب الخروج عن الشرعية، كما لا تتوفر فيه شروط الإنتفاضة لغياب القضية الواحدة عنه ولضعف الإجماع الشعبي حوله، ويصبح، بالتالي، اسم الحراك الإحتجاجي هو الأقرب لتوصيفه، ولا يقلل من وقعه، فشروط الإحتجاج متوفرة فيه ومن حيث رفض سياسات السلطة وإعلان هذا الرفض ومن حيث غياب البرنامج والقوة المنظمة القائدة، لكنه يختلف عنه في إنضواء سلة من المطالب تحت عنوان رفض الحاكمين، وهي سلة تترواح بين مطالب جزئية لقطاعات مختلفة يصلح كل منها ليكون موضوع إحتجاج قطاعي وبين مطلب/شعار إسقاط النظام دون تحديد اي نظام ويتدحرج بينهما نزع سلاح حزب الله عند البعض ومحاسبة الفاسدين، لا تغيير بنية الفساد.

  • مآل الحراك الإحتجاجي

برغم مرور ما يزيد عن 100 يوم على إنطلاقته، ما زال الحراك قائما، وهذه إيجابية تحسب له، وما زالت قواه، وبخاصة الأولى منها، دون الإتفاق على برنامج عمل لها وتنسيق مكين يتيح الفعالية والتميز، وهذه سلبية تحسب عليه، إلا أنّ هذه الإيجابية وتلك السلبية لا تحولان دون محاولة تقييم مفاعيل الحراك بما يتجاوز الحكم له أو عليه، وبما يتخطي الموقف. ويمكن إدراج التقييم في محورين: مفاعيل الحراك على المستوى العام، مفاعيل الحراك على مستوى قواه.

  • مفاعيل الحراك على المستوى العام:

  تمكن إنطلاق الحراك، أولا، من كشف الأزمة الإقتصادية والمالية التي يمر بها البلد والتي كان إعتمالها ملموسا، بحدود، منذ الصيف الماضي في تعثر المؤسسات وفي إغراءات الفائدة وقيود التحويل وكان الوعي عليها، بعمق، محدوداً ونخبوياً، فأصبح عاماً وملموساً، لا بل اصبحت الأزمة معيوشة.

تمكن إنطلاق الحراك وإستمراره، ثانياً، من كشف الصراعات بين القوى المشاركة في السلطة؛ لا بل فجرها، بعد أنْ كانت محصورة ويُعمل على رأبها.

وتمكن إنطلاق الحراك وإستمراره، ثالثاً، من إعادة الإعتبار للسياسة؛ إنْ بإزدياد إهتمام الناس بها أو بإزدياد إنخراطهم فيها، دعماً أو إعتراضاً، او بعودة المضامين السياسية لخطاب القوى الحاكمة.

  • مفاعيل الحراك على الحراكيين:

يمكن تبيان هذه المفاعيل على مستويين: مستوى الحراكيين، بعامة، ومستوى كل مكون من مكوناته، بخاصة.

فعلى مستوى الحراكيين، بعامة، يمكن القول:

  • إنّ قوى الحراك نجحت في الإنخراط في موجة الإحتجاجات، إذا أخذنا بعفويتها، ونجحت في إطلاقها وإستمرارها، إذا أخذنا بمساهمتها في إطلاقها، ونجحت في تنفيذها ، إذا أخذنا بوجود جهة ما خارجية أو دولتية محركة لها.

ويميل البحث الى نجاح هذه القوى في التقاط اللحظة الإحتجاجية، كما نجحت قوى محلية وإقليمية ودولية في ذلك، وعمل كل منها بأدواته المحلية، وكان بعض من في الحراك منها.

  • لم تنجح قوى الحراك في  توصيف حراكها وصوغ برنامج له، وبلورة إطار تنظيمي بين قواها، برغم مرور 100 يوم على إنطلاق  الإحتجاجات وبعد إحتجاجات  متفرقة منذ 2015 وفي الإنتخابات البرلمانية. لا بل فشلت في ذلك حين عقد بعضها لقاء الكومودور (18ـ11ـ2019)، بعد 30  يوماً من الإنطلاق ولم تتكرر المحاولة. وكان ما نجحت به في هذا المجال التنسيق الإجرائي لخطوات ميدانية.
  • نجحت قوى الحراك في تكثيف النقاش السياسي والإقتصاي والمالي، إنْ في الخيم المقامة  في ساحاتها أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي أو عبر محطات الإذاعة والتلفزة، وهو نجاح أعاد الإعتبار للسياسة، لكنه إتسم بالسطحية والتعبوية.
  • نجحت قوى الحراك في إشراك واسع للمعطوبين من سياسات القيمين على الحكم والمنتفعين منه في تحركاتها؛ وإنْ حد منه إتهام بعض قواه باستهداف سلاح حزب الله، حقيقة أو توهماً، وإقدام البعض فيه على تغليب الشخصي في المطالب وإستخدام شعارات وتعابير منفرة.
  • نجحت قوى الحراك في استدراج قوى السلطة الى ساحتها، فإنبرى كل منها الى المشاركة الميدانية، بشكل أو آخر، بالتدرج، بحيث غدا الخصم شريكا و”ضاعت الطاسة”.

وعلى مستوى كل مكون من مكونات الحراك:

يصعب التحديد التفصيلي لهذه المكونات لتنوعها في البدء ولتلبس كثير من القوى  فيها لاحقاً، لذا سندرجها في ثلاثة مكونات: الأطر الشعبية،  الأحزاب العابرة للطوائف، القوى الطائفية.

فالأطر الشعبية ليست على سوية واحدة في تكوينها وفي إستهدافها،  وتندرج ضمن ثلاث فئات: أطر جغرافية، أطرمطلبية، اطر سياسية حديثة. وقد قامت الأولى بفعل الحراك، وقد يكون قيامها كشكل تنسيقي بين قوى الحراك الأولى أو كشكل لحراك إحداها، وكانت الثانية ذات وجود سابق، فإندرجت في الحراك من ضمن خصوصيتها  ولمطالبها الخاصة، أما الثالثة، فذات وجود سابق من موقعين: موقع يساري، حزبي أو شخصي، حمل منذ 2015 إحدى القضايا المجتمعية المثارة، وموقع ليبرالي حمل القضايا نفسها، وكان موضع شبهة في تمويله.

 وقد نجحت في حضورها في الحراك ودمج قضيتها في القضية العامة، وإنِ لم تبلغ حد الموافقة على إدراج قضيتها هذه في برنامج وطني موحد وإنتاج قيادة موحدة.

والأحزاب العابرة للطوائف متعددة، وقد واكب الحراك، منذ بدايته: الحزب الشيوعي اللبناني، حزب طليعة لبنان العربي، حركة مواطنون ومواطنات في دولة، حركة الشعب، الحزب السوري القومي الإجتماعي (جناح علي حيدر)، منظمة العمل الشيوعي، التنظيم الشعبي الناصري، كما واكبته أطر على هامش بعضها وفي حقلها ومن موقع ناقد لها: الحزب القومي – الإنتفاضة، حركة النهضة القومية، الحركة الشبابية للتغيير، متحدون.

ويفترض أنّ قضايا هذا الإحتجاج من مندرجات وجودها، فإنساقت معها، بفعالية، ولبت، الى حدٍ ما، متطلبات خروج الأحزاب الأم من إنكفائها وتخبطها البرنامجي، كما لبت مسوغات النقد عند الناقدين لها، ويشهد مساهمتها في الحراك:

. فعالية ملحوظة جعلت الحراك يحمل بعداً عابراً للطوائف.

. تجدد نشاطها والإقبال الشبابي عليها.

.إعطاء الأولوية للهم المعيشي والهموم الداخلية، وهذا يحمل إيجابية في العودة الى الحقل السياسي المفترض للأحزاب (الصراع على السلطة)، كما يحمل محظور إختلال التوازن في النظر الى الصراع مع الكيان الصهيوني والقضايا القومية، وبخاصة ذات العلاقة بلبنان.

. تعثر إنتاج برنامج، بما يعني البرنامج علميا، لا بما يتداول من نصوص تدعي البرنامجية، بين مكوناتها، ثم بين قوى الحراك وأطره؛ الامر الذي أتاح لقوى يفترض أنها الخصم لتنخرط فيه.

والقوى الطائفية،  وهي على شكلين: قوى مشاركة في الحكم، وهي الأكبر والأكثر فعالية، قوى غير مشاركة في الحكم.

 فالقوى غير المشاركة في الحكم والحاضرة بين المسلمين، وبخاصة الجماعة الإسلامية وحزب التحرير، إنخرطت بالإنتفاضة بعد إستقالة سعد الحريري ومن موقع غير مطابق لمشاركة تيار المستقبل واصبح في الفترة الأخيرة مبايناً لها، وغلب على مشاركتها الهم السياسي أكثر من المطلبي.

 والقوى غير المشاركة في الحكم والحاضرة بين المسيحيين، وبخاصة الكتلة الوطنية وحزب الكتائب، فقد ساهمت في الحراك منذ أيامه الأولى لإستعادة دور للأولى ولمواجهة حرمان للثانية.

أما القوى الطائفية المشاركة في الحكم، فقد أجمعت على أحقية مطالب المحتجين وشكك بعضها الأقوى حضوراً ومشاركة في الحكم ببعض قوى الحراك، وتباينت في السلوك اتجاهها.

 فالقوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي دفعت باتجاه تخصيص التيار الوطني  الحر وحزب الله في الإستهداف وأتاح  ذلك لبعض جمهورها بالمشاركة.

وتيار المستقبل، أحد المستهدفين بالحراك، بشر لمطالبه الضبابية فيها ولمواجهة شركائه في الحكم المقلصين دوره والحادين من حضور مرجعيته، وتحول ذلك، بعد استقالة الحريري، الى مشاركة على هامش الحراك دفعا لإستكمال استقالة الحريري باستقالة عون وبري، أولا، ثم للحؤول دون تكليف آخر برئاسة الحكومة، تالياً، وصولاً الى مواجهة تكليف دياب وحكومته.

والتيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل توجست الحذر من الحراك، فأقدمت، في البدء، على تخوينه ومحاولة إرباكه وقمعه في بيروت  وجل الديب وساحات الجنوب، ثم تحولت الى محاولة إستيعابه بتحميل مسؤولية الأزمة لشركائها وبإشتراك هيئات رديفة لها في خيم الحراك ثم باشتراكها الفعلي ببعض تحركاتها العنفية.

 ولحظ في الحراك تفلت جماعات وأفراد من جمهور القوى الطائفية عن تنظيماتها وانخراطها بالإحتجاجات؛ إن لوقع الأزمة المعيشية أو لصراعات داخلية في كل منها.

اما القوى الدولتية، فقد أصبح حضورها في القضايا الداخلية لأي بلد واضحاً بفعل التحول في النظام الإقتصادي الدولي التي اصبحت ركيزته الشركات العابرة للدول وبفعل التطورات التكنولوجية، وبخاصة في مجال الإتصالات، وهو حضور اكثر بروزا في لبنان لسبق تاريخي يعود الى ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير ولتناميه بعدها وصولا الى حرب 1975-1990، واستقراره على هذا الحال.

 ويبرز الحضور الدولتي في الحراك بشكلين، شكل الإعلان المباشر، وشكل إستتباع قوى محلية لها.

 ففي الشكل الأول، كان واضحاً موقف الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية في الدعوة لعدم التعرض للإحتجاجات وصولا الى التلميح باغتباطها لضغطها على حزب الله، كما كان واضحاً موقف ايران المتهم لهذه الإحتجاجات باستهداف محورها وبخدمة امريكا، ولم يكن للمحور العربي الخليجي وتركيا موقفا معلنا وكذا روسيا ومصر وسوريا.

وفي الشكل الثاني، لم تخفِ بعض القوى إندراجها في هذين المحورين المعلنين، وقد عُرِض ذلك، آنفاً، وجديد ذلك إثنان: إنخراط قوى طائفية بين المسلمين في المحور التركي المستجد (الجماعة الإسلامية وحزب التحرير)، تميز سوري وقد يكون سوري – روسي عن إيران في مواقف بعض القوى والشخصيات.

  • إستشراف

يقود عرض الحراك الإحتجاجي الى جملة خلاصات تندرج في استشراف مآله وإستنباط القدرة على تطويره هي:

  • إنّ الحراك، على تنوع قواه وإتساع ساحاته والمشاركين فيه وإستمراره، لم يعدل ميزان القوى في البلد لصالحه، وما زال، بما يمثل، في موقع الطرف الأضعف.
  • إنّ الحراك، كفعل سياسي معارض، لا تستقيم معه الخطابات المطلقة والمطالب القصوى، فقد خاض مواجهة ناجحة الى حد ما ويتطلب من قواه مراجعتها ليبني عليها برنامجاً واستعداداً لإحتجاجات أكثر فعالية وأعمّ حضوراً وأكثر إنتاجاً، وقد تكون الدعوة لإعطاء فرصة لحكومة حسان دياب دعوة للمراجعة وإلتقاط الأنفاس.
  • إنّ قوى الحراك، بما آلت اليه، إتسعت بما أثار الإلتباس بينها وقوى طائفية مستهدفة منها، ولا يضير قوى الحراك إنضواء قوى على تباين معها فيها، وما يضيرها أنْ يكون الإنضواء على قاعدة هذه القوى وبرنامجها، لا على قاعدتها.
  • إنّ الحراك، على كل المآخذ عليه، أنتج دينامية سياسية في البلد، وهي دينامية إيجابية لتطوير لبنان وتقدمه؛ إذا أحُسِن البناء عليها، فولوج أجيال شابة، نساءً ورجالا، حقل السياسة وإستنباطهم وسائل واساليب في معتركها يؤسسس لحراك أوسع وأنضج ويتيح مراقبة أنضج وأفعل للقوى الحاكمة، وتفجر الخلاف بين القوى الحاكمة يضعف حكمها ويتيح لمعارضة قوى الحراك متنفساً لتصعيد حراكها، وحكومة اللون الواحد تعزز اللعبة الديمقراطية.
  • إنّ قوى الحراك غير الطائفية مدعوة لمراجعة ما جرى ووضع برنامج مشترك، بما يعني البرنامج من خطة واقعية لمرحلة زمنية محددة ولأهداف “متواضعة” يمكن إنجازها، وقد تكون الأحزاب العابرة للطوائف هي المؤهلة اكثر من غيرها، لتجربتها وإتساع قاعدتها.

(*) أستاذ جامعي

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  قرم لـ 180: إذا حققت العامية اللبنانية مطالبها.. ربما ينجو البلد