أن تكون لاجئاً فلسطينياً في لبنان، يعني أن تعيش بين حدود الهوامش. أن تعي وعياً تامّاً شعور العجز والقهر والعدم الكائن في هندسة المكان، سواء لُوّن باللهجة الفلسطينية أم بأطياف اللهجة اللبنانية أم السورية أم المصرية أم السودانية إلخ.. نحن نعي كلاجئين أن السلطة اللبنانية بأدائها العنصري هذا، لا تقصي لبنان إلا عن هويته الكبرى.
ولكن بين ترانيم المعاناة، ثمة تاريخ نضالي موحد، يضعنا جماعةً في موقع النقيض من السلطة التي تُقصي اللبناني الفقير، سياسياً وإقتصاديا وإجتماعياً، وتقصي الفلسطيني، على حد سواء، ولكن لاقصائنا حججه المحصنة باسم القانون ومشروعية المنطق في عالم لا منطق له – منطق الكيانات التابعة. هذه الكيانات التي لا تمنح الحقوق سوى لابناء الطبقات العليا في حين ان مواطنيها من ابناء الطبقات الدنيا لا ينالهم سوى كسرات بالكاد تقيهم كفاف يومهم. هذه السلطة تعزلنا عن أبناء طبقتنا من غير لهجتنا بحد النار، لكأنها تخاف تلاقح السياسي التحرري فينا مع الطبقي في ألمهم، لذلك تبطش أمنياً ولغوياً ومؤسسياً وجغرافياً بنا، وتضعنا في دائرة العجز والعاجزين. ففي ذلك، تهديد لنيوليبرالية الكيان اللبناني ولرأسماليته التبعية، وفي ذلك انتصار للعُمال على نُخبويةٍ تحتكر تفسير الوطن والإنتماء والهوية.
***
انتفض الفلسطينيون في مخيمات لبنان، في صيف العام 2019، إثر صدور قرار عنصري جديد ينال من حق الفلسطيني في العمل. قال أسرى مخيماتنا كلمتهم أخيراً، ليس رداً على عنصرية القرار بذاته، بل لسوريالية منطقه المتكرر على وقع عقودٍ سبعةٍ من اللجوء.
انتفض الفلسطينيون ضد مفاهيم “الأجنبي” الجديدة التي فرضها هذا النظام اللبناني المعتل بطائفيته، حين سمي الفلسطيني “اجنبياً” في بلد يعتبر الهجرة سلعته وأسطورته وعنوان نسيجه الاجتماعي وبنيانه الاقتصادي الهزلي لا بل الهزيل.
كانت ثورة عواصم المهمشين (المخيمات)، ثورة على الواقع الذليل. ثورة على التناقضات في شوارع بيروت وصيدا وطرابلس وصور. على الذاتية الانغزالية التي جعلت الفلسطيني مجرد متهافت يقبع بين جدران مخيم محاصر. كانت ثورة المخيمات ثورة على المخيم وما يفرضه من صمت على الأجيال. صمتُ متخبطُ بين ضوضاء القهر وفراغ الخطابات.
في فعل هؤلاء الثوار، عمل تحرري لا رجعة عنه. لاجئو لبنان. فلسطينيو هذه الارض اللبنانية. هُم ابناء الأرض – أينما كانت – التي سمعوا فيها قصص الزيتون والبرتقال الاولى. ثُرنا وخُذلنا وخِلنا اننا هُزمنا وإذ بالسّابع عشر من تشرين/أكتوبر يزف لنا استمرار المعركة بأكُفّ لبنانية خشنة جافة غاضبة. وبين الجباه المبللة بالعرق وقنابل الغاز، تناسينا الخذلان وهرولنا الى الشّوارع لأننا لا نكون إلا حيث يكون الثائر على واقع مرير. ها هو حراك المخيّمات يتبلور مجدداً ويأخذ لنفسه مساحته الطبيعية على أرض لبنان.
ولكن لم يَسلم الجمع الصادق من اعدائه الكُثُر، من بطش العنصرية وتوحش الفصائل والسلطة غير الشرعية (الفلسطينية)، ومن شبح الخوف – عراب الجهل والعبودية. يقول البعض أننا نُفينا. لكن شابة ها هنا بين خيم رياض الصلح لن تُعلن اذعانها لقرار النفي… ولأنها لاجئة فلسطينية، لا تستطيع إلّا أن تكون حيث معركة الخبز والحرية.
***
يعجز الحيز اللبناني عن فهم القضية الفلسطينية بكليتها. القضية الفلسطينية ليست قضية كيلومترات مربعة من التراب ولا تختزل بملاحم غزّة ولا بعبق التاريخ في القدس ولا بقصص حيفا أو في شقاء تقاسيم الضفة. ليست تلك فلسطين. فلسطين هي كرامة اللبناني. هي انتصار الفقير على عتاة الطائفية ورأس المال. هي خواطر رسمت على جدران العار. هي النيام في عزّ الصقيع في الساحات. هي الفلسطيني الذي يرى في رياض الصلح معرةٌ حسم في النضال من اجل الكرامة الانسانية. يعيش الفلسطيني على جغرافيتنا اللبنانية المقهورة. نعم، نعيش حاملين تاريخاً يضعنا في موقع المدافع عن هذه الأرض، ولا يمكن لأي منطق أن يحيدنا عن صيرورتنا التاريخية ولا يمكن لأي حجة أن تنفيها.
كنّا ننتظر هتافاً للمخيمات. ننتظر ندوة ضد العنصرية. ننتظر قصصاً عن رائحة الخبز في تل الزعتر قبل عشائه الأخير. كنا ننتظر يقظة سياسية تتجلى على هيئة صرخةٍ بلهجة لبنانية تنادي اللاجئ أن “طلاع يا خيي” ولنقرع جدران هذا الخزان الذي سمته السلطة الوحشية ورأس مالها المجرم.. مخيماً.
لاحت الفرصة التاريخية لإخراج المهمش على هذه الأرض من هويته القومية الانغزالية، نحو هويته الطبقية التحررية الجمعية. لاحت الفرصة، وها هي تلوح وها نحن ننتظر، بفعلنا وإرادتنا ننتظر.
للحس الطبقي أن ينتصر على جغرافية النظام اللبناني الطائفي، وعلى ميليشيات المخدرات الطائفية، التي تخنق مدارس الاونروا والمدارس الرسمية. لكي تنتصرعلى الموت قهرا… وننتظر.
وفي الانتظار نتيقن أن حراك المخيمات نزع عن السلطة اللبنانية واتباعها سرابيل الادعاءات، وكشف عن جرح مرير في يسار لبنان الأعرج، جرحٌ يُنذر بموت قريبٍ أليم لا نرجوه.
***
هتّافو ثورة المخيمات والمنتفضون في رياض الصلح، هم رواد المعركة الطبقية التحررية على هذه الأرض، لذا يخافهم كل قامع. كل طاغية. كل سارق، وكل خائف. هم حُمرُ الكوفيات وان لم يقرأ واحدٌ منهم مهدي عامل وإن لم يجدوا أنفسهم في ترجمات ماركس بين كومة كتب على قارعة الشارع.
ثورة اللبناني هي ثورة فلسطينيةُ حمراء الكوفية، وان لم تروى فيها قصص خوسيه مارتي، ولم ترفع بين اكفها صور فرج الله حنين. هم -اللاجئون – حمر الكوفية وفي غضبهم يحركون كل نقيض لهذه السّلطة التابعة. نحن لاجئون لأن في لجوئنا انتماء وفي فلسطينيتنا انتصار لفلاحي بنت جبيل على الإقطاع الذي باع قرى صفد، وانتصار لعمال حيفا على بنوك عكار، وانتصار للزمن على دوغمائية المكان وحدوده، وانتصار للثورة اللبنانية على أعدائها.
فلسطين اشتباك بين الآنية الثورية والمجهول في معالم الغد.