صحيح أن الهموم الداخلية الاقتصادية والاجتماعية تتقدم على ما عداها من مشكلات في سلم أولويات الحكومة الفرنسية الجديدة، إلا أن الاهتمام في قضايا السياسة الخارجية آخذٌ بالتزايد (خصوصاً ما يتعلق بالحرب بين أوكرانيا وروسيا) وذلك مع اقتراب موعد انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في حزيران/يونيو المقبل نتيجة التخوف من تصاعد التأييد الشعبي لليمين المتشدد في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً.
إلا أن الأوساط المعنية بالسياسة الخارجية الفرنسية تُشدّد على أن ما تقدم لا يحول دون استمرار متابعة المستجدات الشرق أوسطية أكان على صعيد الوضع “المأساوي” في غزة أو الوضع “البالغ الخطورة” في لبنان.
وبات واضحاً أن الرئاسة الفرنسية، وأكثر من أي وقت مضى، تُشرف مباشرة على هذه الملفات الحسّاسة، كما أن هامش تحرك وزارة الخارجية أصبح ضيّقاً للغاية إن لم نقل مُعدَماً خصوصاً بعد تأليف الحكومة الجديدة واسناد الـ”كي دورسيه” إلى وزير الخارجية الجديد ستيفان سيجورنيه حيث تقتصر مهمته على تنفيذ القرارات الأساسية المتخذة في قصر الأليزيه من دون المشاركة أو المساهمة في رسم معالمها.
ماذا عن الشرق الأوسط ولبنان؟
شرق أوسطياً؛ ثمة اهتمام فرنسي مزدوج إنسانياً وسياسياً. وازاء التدهور المأساوي والدراماتيكي غير المسبوق للحياة اليومية ولا سيما الغذائية والصحية للفلسطينيين في قطاع غزة، قرّرت فرنسا تفعيل تعاونها مع دول الجوار لايصال المساعدات الإنسانية الملحة ومتابعة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتسهيل عبور شاحنات الإغاثة يومياً.
تدل المؤشرات الحالية على أن الأزمة طويلة والأمور قد تكون معرضة في أي وقت لانتكاسة جدية قد تفتح الباب نحو “التصعيد والتوسيع” مع نتائجه الخطيرة والمدمرة أكان من خلال الاقدام على توجيه ضربة عسكرية غير محدودة وغير مضبوطة أو من خلال عمليات اغتيال تجعل الرد يخرج عن السيطرة وعن كل القواعد والضوابط
خطر وجودي على اسرائيل لخمسين سنة مقبلة!
أما على صعيد الوضعين السياسي والأمني، فتكشف الأوساط المعنية والمتابعة أن التحضير قائم لمرحلة “ما بعد” وقف العمليات العسكرية والحربية، وقد طُلبَ من عدد من المستشارين والخبراء ومجموعات عمل متخصصة مرتبطة بالرئاسة الفرنسية رسم تصور يأخذ في الاعتبار أكثر من سيناريو لمرحلة ما بعد وقف القتال.
وتتمحور الأفكار الفرنسية حول أمور حيوية ودقيقة عدة منها: كيفية إدارة قطاع غزة ووضعه المستقبلي، التركيبة الجديدة للسلطة الفلسطينية (التداول في أسماء شخصيات مؤهلة ومقبولة)، مستقبل العلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية وإطارها القانوني (عرض صيغ عدة من الدولتين المستقلتين إلى الفدرالية أو الكونفدرالية أو الاتحادية ومعرفة مدى امكان تطبيق هذا الخيار أو ذاك على أرض الواقع من جهة وفرص استمراريته من جهة ثانية).
وبانتظار تبلور الوضع السياسي ـ التفاوضي، تبقى الأنظار متجهة نحو الوضع الأمني حيث تخشى هذه الأوساط من خطورة إقدام الحكومة الإسرائيلية على الانقضاض على رفح واجتياحها. وتُسارع الأوساط الفرنسية إلى التحذير من أن الاستمرار في ممارسة أعمال العنف والتدمير والتجويع سيُعرّض إسرائيل إلى “خطر وجودي جدي مستقبلي لخمسين سنة مقبلة في ظل نشوء أجيال من الفلسطينيين ستكون أكثر تشدداً وتطرفاً”، خصوصاً أن حجم الكراهية والحقد والبغض المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين “تجاوز كل السقوف وأصبح بلا حدود وهو يُنذر بمستقبل قاتم للعيش جنباً إلى جنب”.
إيران الرابح الأول إقليمياً
وترى هذه الأوساط أن الرابح الأول والأكبر حتى الآن هو إيران لأنها تمكنت من تعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تحقيق نتائج عدة أبرزها: تجميد التطبيع السعودي – الإسرائيلي؛ إعادة وضع القضية الفلسطينية على الطاولة وفي قلب المعادلة بفضل دعم طهران للمقاومة في غزة؛ اظهار هشاشة وضع اسرائيل؛ ترميم العلاقة الشيعية – السنية؛ تعزيز حضور المحور الإيراني بكل أذرعته الإقليمية. كل ذلك يترافق مع رغبة طهران في ابقاء الوضع العسكري تحت السيطرة وتفادي حدوث أية مواجهة مباشرة أو صدام عسكري مع القوات الأميركية في المنطقة. ويرافق ذلك تخوف فرنسي وأوروبي متصاعد من نشوء محور أو تكتل ثلاثي متحالف يضم إلى جانب إيران كلاً من روسيا وكوريا الشمالية بمباركة صينية ظاهرة.
آلية التنسيق الفرنسي – الأميركي متعثرة
أما على الصعيد اللبناني، فهناك حالة فرنسية غير مسبوقة من “الاستياء المقرون بالاشمئزاز والقرف والتململ والمرارة والاستهجان والخيبة” مرفقة بانتقادات قاسية حيال ما تصفه الأوساط بـ”النفاق السياسي والرياء الإعلامي” وسيطرة “الأنانية والكيدية” على تصرفات الفرقاء اللبنانيين المعنيين “غير المقبولة والتي لا تطاق”. إضافة إلى عدم مواجهة هذه المرحلة التاريخية الخطيرة والحرجة التي يمر بها وطنهم بما تقتضيه من “جدية ومسؤولية”، بل تتحكم بهم “الأحقاد والأنانيات والحسابات الشخصية”. وتشير الأوساط في هذا الإطار إلى تسابق المرشحين الرئاسيين لكسب ود وتأييد هذه الجهة الإقليمية أو الدولية والسعي إلى تبنيهم في معركتهم الرئاسية وتسخير مواقفهم المتناقضة بين ما يدلون به في العلن وما يتنازلون عنه في الخفاء.
والملاحظ أن امتعاض باريس من كيفية التعامل اللبناني مع مساعيها رئاسياً وجنوبياً بلغ مسامع أهل السلطة في لبنان الذين بادروا من خلال رسالة الرد التي سلّمها وزير الخارجية عبد الله بوحبيب إلى السفير الفرنسي هيرفيه ماغرو تجديد الترحيب بالجهود الفرنسية وابداء التجاوب المبدئي مع الأفكار والطروحات التي نقلتها باريس إلى بيروت. وكان لافتاً للإنتباه أن خطوات العاصمة اللبنانية بدت “خجولة وناقصة وردّها لم يتجاوز العموميات وكأنه جاء من باب رفع العتب ليس إلا..”!
لكن ماذا عن مساعي اللجنة الخماسية؟
تُسارع هذه الأوساط إلى التذكير بأن المبادرة حيال لبنان كانت فرنسا هي محركها الأساس وقد نجحت في جعل واشنطن تسير فيها لتصبح ثنائية قبل تحولها إلى خماسية مع انضمام كل من السعودية وقطر ومصر إليها. وتشير في هذا الإطار إلى أن اتصالاتها الحثيثة على أعلى مستوى مع الرياض جعلت المملكة العربية السعودية تُبدي اهتماماً نسبياً بالوضع اللبناني بعدما ابتعدت عنه لفترة، كما أن فرنسا شجّعت قطر على المضي في دعمها للجيش اللبناني.
مهمة لودريان متعثرة وزيارته مؤجلة
ولا تخفي هذه الأوساط وجود استياء فرنسي شديد من أسلوب تصرف الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين، إذ أن تحركاته اللبنانية الأخيرة بيّنت أنه يرغب ليس بالتفرد فقط بموضوع التفاوض في قضية الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل و”طمعه” في التوصل إلى اتفاق حدودي بري مماثل للإتفاق حول ترسيم الحدود البحرية، بل لديه أيضاً “طموح” في التدخل في الملف الرئاسي اللبناني ولعب دور فيه. كما أن طريقة أداء وتعامل السفيرة الأميركية الجديدة في بيروت ليزا جونسون في إطار اللجنة الخماسية تختلف عن طريقة السفيرة السابقة دوروثي شيا إذ أن الملاحظ أنه لدى جونز نزعة نحو العزف المنفرد والهيمنة والتغريد خارج السرب.
امتعاض باريس من كيفية التعامل اللبناني مع مساعيها رئاسياً وجنوبياً بلغ مسامع أهل السلطة في لبنان الذين بادروا من خلال رسالة الرد التي سلّمها وزير الخارجية عبد الله بوحبيب إلى السفير الفرنسي هيرفيه ماغرو تجديد الترحيب بالجهود الفرنسية وابداء التجاوب المبدئي مع الأفكار والطروحات التي نقلتها باريس إلى بيروت
وقد أدت هذه الوقائع والاشكالات إلى حصول “بعض العتب والفتور والتباعد” بين باريس وواشنطن برغم التأكيد على أن “هناك اقتناعاً مشتركاً بضرورة استمرار التنسيق الثنائي بينهما حيال لبنان، خصوصا أن لا خلاف في الأهداف الجوهرية”. من هنا برزت الدعوة إلى ضرورة ازالة كل التباس في نهج التعاطي وتوزيع الأدوار، وفي هذا الإطار، لا تستبعد هذه الأوساط اجراء اتصال مباشر وتشاور على مستوى عالٍ بين العاصمتين الفرنسية والأميركية في أقرب وقت لتوضيح الأمور والاتفاق على آلية تنسيق ومواكبة مشتركة. وإلى أن تتم تلك العملية “التوضيحية”، وضعت مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي جان-ايف لودريان على نار خفيفة إن لم نقل أنها باتت مجمدة وأن زيارته إلى بيروت مؤجلة حتى الآن.
أما بالنسبة إلى الأفكار والطروحات المتداولة حول ترتيب الأوضاع الحدودية البرية اللبنانية – الإسرائيلية من أجل ضمان الاستقرار في المنطقة، ثمة صعوبة في المضي بأي تصور “متكامل” قبل انتهاء حرب غزة، ولذلك، يميل الفرنسيون إلى اتفاق على تصور “مرحلي” يتم التقدم فيه مرحلة بعد مرحلة وهو مرتبط بشكل أو بآخر بالتطورات الميدانية في قطاع غزة.
من خلال ما تقدم، تدل المؤشرات الحالية، حسب هذه الأوساط، على أن الأزمة طويلة والأمور قد تكون معرضة في أي وقت لانتكاسة جدية قد تفتح الباب نحو “التصعيد والتوسيع” مع نتائجه الخطيرة والمدمرة أكان من خلال الاقدام على توجيه ضربة عسكرية غير محدودة وغير مضبوطة أو من خلال عمليات اغتيال تجعل الرد يخرج عن السيطرة وعن كل القواعد والضوابط.