خطّة “لازار” المالية: التوصيف الفج والحل المنقوص

علي نورعلي نور12/04/2020
ما إن تسرّبت مسودّة الخطّة المالية لحكومة حسان دياب إلى وسائل الإعلام، حتّى توالت ردود فعل المنزعجين الكثر منها: جمعيّة المصارف، بعض القوى المعارضة للحكومة أو المنخرطة فيها (نموذج حزب الله)، الكثير من المتحسّسين من رائحة شروط صندوق النقد الدولي. قوى وشخصيات يسارية. قليلة هي الخطط التي أثارت إنزعاج هذا الكم من الأقطاب المتعارضين في مصالحهم في آنٍ واحد، لكن يسجّل للمسودّة صراحتها حتّى حدود الفجاجة في توصيف الأزمة، وقد تكون هذه المسودّة هي الوثيقة الرسميّة الأولى التي تذهب إلى هذا الحد في الكلام عن أزمة مصرف لبنان والمصارف والقطاع المالي، بمعزل عن البدائل التي طرحتها.

حتّى الأمس القريب، كان الدخول في بعض الزوايا المظلمة في القطاع المالي من المحرّمات التي تفادتها أية خطّة أو دراسة رسميّة، خصوصاً تلك التي تشير صراحةً إلى عوامل الهشاشة في هذا القطاع. على سبيل المثال، لم تشر وثيقة رسميّة واحدة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى معلومات يمكن أن تحدد للبنانيين حجم إنكشاف مصرف لبنان المركزي على الإلتزامات بالعملات الأجنبيّة مقابل موجوداته منها، كما لم تشر أية دراسة إلى حجم هذا الإنكشاف بالنسبة للقطاع المالي بأسره. وحتّى حين كانت بعض وكالات التصنيف الدولية تحاول الإشارة إلى هذه المسائل، كانت تقديراتها مبنيّة على تكهّنات يصعب التحقّق منها.

ولذلك، يمكن القول أنّ ما فعلته مسودّة الخطّة المالية الحكومية كان سابقة يَصعب تجاهلها، وتحديداً من ناحية التشخيص الدقيق لحجم الأزمة الماليّة القائمة، وتقدير قيمة الفجوات الموجودة في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة المجمّعة، والعوامل التاريخيّة التي أدّت إلى التسبب بهذه الفجوات.

ولا شك أنّ “لازار”، الشركة الإستشاريّة الماليّة الدولية التي قررت الحكومة اللجوء إليها منذ تعليقها سداد سندات اليوروبوند، قبل شهر ونيف، تدرك جيّداً أن الخطّة الموسومة بختمها لن تنفع كورقة عمل يمكن التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي، إذا لم تحدد مكامن المشكلة بفجاجة مطلقة. ولذلك، لم تتوان الوثيقة ـ الخطة عن تحديد العوامل التي أدّت إلى الإنهيار المالي الحاصل، حتّى حين تعلّق ذلك بقرارات إتخذها حاكم المصرف المركزي وسوّقها لسنوات كـ”إنجازات”!

لكنّ الصراحة غير المسبوقة في تشخيص المشكلة، لها ثمنها، وتحديداً من خلال ردّة فعل الأطراف الأكثر تضرّراً من تحديد الفجوات المالية وتقدير حجمها: المصارف ومصرف لبنان. مصرف لبنان إبتعد عن الصورة حتّى الآن، لكنّ هوليهان لاكي، الشركة الإستشاريّة التي لجأت إليها جمعية المصارف للتفاوض مع الدولة في مسار إعادة هيكلة ديونها، ردّت بشكل قاسٍ على الخطّة، معلنةً إتجاهها نحو صياغة دراسة مضادّة.

كلفة إعادة هيكلة القطاع المالي

لعلّ أبرز ما أثار حفيظة المصارف في المسودّة، هو تحديداً القسم المتعلّق بإعادة هيكلة القطاع المالي، أي المصارف التجاريّة ومصرف لبنان. فهذا القسم تحديداً، بدأ بمسلّمة واضحة: إنقاذ القطاع المالي بشكل كامل ليس خياراً متاحاً. وبحسب الوثيقة، يعود ذلك أوّلاً، إلى المعايير المعتمدة عالميّاً في الأسواق الماليّة منذ حدوث الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008، حيث إبتعدت معظم الدول منذ ذلك الوقت عن إعتماد أساليب دعم القطاعات الماليّة المتعثّرة بأموال دافعي الضرائب بشكل مباشر. وثانياً، حتّى لو أرادت الحكومة اللبنانية ذلك، فمن المستبعد أن تجد أي دعم مالي خارجي، من أجل إنقاذ إنهيار مالي سببته عوامل داخليّة.

هذه الوثيقة تمثّل أيضاً أوّل مستند رسمي يشير إلى حجم الخسائر التي يخفيها مصرف لبنان في ميزانيّاته بأساليب محاسبيّة معيّنة (يسميها البعض “تحايل”)، وتطوّرها على مدى السنوات الماضية

عمليّاً، تبلغ الخسائر المتركمة والتي تخفيها ميزانيّات المصرف المركزي حدود 42.8 مليار دولار، وهي التي تبرز اليوم على شكل فجوة بين إلتزامات وموجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة. وهذه الفجوة، نتجت عن مسار زمني إمتدّ على مدى ما بين 15 إلى 20 سنة، قام خلالها المصرف المركزي بالإنفاق من إحتياطي العملات الصعبة الموجود لديه للدفاع عن سعر صرف الليرة اللبنانية. لكنّ الوثيقة تذهب أبعد من ذلك، لتؤكّد أن الهندسات الماليّة التي يقوم بها مصرف لبنان منذ سنة 2016 ضاعفت عمليّاً من آثار هذا الإستنزاف، لتكون الوثيقة بذلك المستند الرسمي الأوّل الذي يشير بهذه الصراحة إلى آثار معالجات مصرف لبنان خلال فترة الأزمة. لكنّ الأهم أن هذه الوثيقة تمثّل أيضاً أوّل مستند رسمي يشير إلى حجم الخسائر التي يخفيها مصرف لبنان في ميزانيّاته بأساليب محاسبيّة معيّنة (يسميها البعض “تحايل”)، وتطوّرها على مدى السنوات الماضية.

وعلى أي حال، تحدد الوثيقة حجم الخسائر التي يجب التعامل معها في ميزانيّات مصرف لبنان المركزي بحدود 54.9 مليار، بعد إضافة ما يملكه من سندات خزينة وحسم أمواله الخاصة وما يمكن إبقاؤه من خسائر في الميزانيّة. لكنّ حجم الخسائر المطلوب التعامل معه في القطاع المالي ككل سيزيد ليبلغ حدود 62.4 مليار دولار، إذا ما أضفنا حجم الديون المتوقّع هلاكها في ميزانيات المصارف الخاصة، وأثر إعادة هيكلة الدين العام على ميزانيات القطاع المصرفي، بالإضافة إلى الخسائر في ميزانيات مصرف لبنان. بإختصار، هذا المبلغ هو الخسارة المطلوب توزيعها في القطاع المالي اللبناني.

لربما أكثر ما أغضب المصارف في وثيقة “لازار”، هو التجرؤ على طرح فكرة تقضي بتحميل المساهمين في المصارف جزءاً من هذه الخسارة، من خلال خسارتهم لأسهمهم في المصارف نفسها، في مقابل التعويض عن بعض أصحاب الودائع من خلال إعطائهم حصصا في أسهم المصارف. فهذه الفكرة تعني ببساطة إجراء تعديل في ملكيّة المصارف التجاريّة، مع العلم أنّ هذا النوع من المعالجات جرى سابقاً في لبنان خلال أزمات مصرفيّة قبل الحرب الأهليّة.

إقرأ على موقع 180  بايدن.. لا يرى فلسطين إلا من أوكرانيا 

نقد سياسة تثبيت سعر الصرف

المسودّة تذهب أيضاً بإتجاه نقد صريح لسياسة تثبيت سعر صرف الليرة التي تم إتباعها في لبنان منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. فتثبيت سعر الصرف أدّى في المحصّلة إلى خلق سعر صرف مصطنع ومبالغ فيه، وهو ما ضرب تنافسيّة الإنتاج المحلّي سواء في السوق المحلّي أو في الأسواق الأجنبيّة. وتشير المسودّة من خلال رسم بياني إلى تطوّر المبالغة في سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية، أي الفارق بين سعر الصرف المصطنع الذي يقوم بتثبيته مصرف لبنان وسعر الصرف المفترض أن يتحقق من خلال آليّات العرض والطلب في السوق، وقد إستندت الدراسة لتحديد ذلك على مؤشّرات الأسعار بالليرة والدولار.

تمثّل هذه المقاربة أقسى نقد واضح يُذكر في دراسة رسميّة لسياسة تثبيت سعر الصرف، التي إنتهجها مصرف لبنان منذ التسعينيات

من ناحية التشخيص، وبمعزل عن المعالجات التي تطرحها المسودّة، تمثّل هذه المقاربة أقسى نقد واضح يُذكر في دراسة رسميّة لسياسة تثبيت سعر الصرف، التي إنتهجها مصرف لبنان منذ التسعينيات. وعملياً، يتكرر في الدراسة في أكثر من مكان ذكر مسألة سعر الصرف كإحدى محددات تنافسيّة الإنتاج المحلّي، وهو ما يكرّس الفكرة التي تربط بين تردّي واقع القطاعات الإنتاجيّة وإعتماد سعر صرف مصطنع غير واقعي.

المعالجات المنقوصة

يمكن القول أن شركة “لازار”، التي تعاونت مع الدولة اللبنانيّة لإنجاز المسودّة، قد أتمّت مهمّتها بشكل متقن في ما يتعلّق بدراسة عوامل الهشاشة المتعلّقة بالقطاع المالي تحديداً، وبالفجوات التي أدّت إلى الإنهيار الحاصل اليوم في هذا القطاع. كما يمكن القول أن خبرة “لازارد” الماليّة مكّنتها من تحديد حجم الخسائر المطلوب توزيعها في الفترة المقبلة، للتمكّن من إعادة هيكلة كل من القطاع المالي والدين العام في المرحلة المقبلة. وبمعزل عن مصير المسودّة بعد المناقشات في مجلس الوزراء، من الأكيد أن الحقائق التي كشفتها المسودّة بالأرقام ستشكّل خلال الفترة المقبلة مرجعاً مهمّاً لفهم ما جرى في القطاع المالي قبل الوصول إلى مرحلة الإنهيار.

لكن من ناحية المعالجات التي ستعتمدها الحكومة، فالمسودّة مازالت بعيدة جدّاً عن تشكيل خارطة طريق متكاملة يمكن أن تساعد لبنان على الإنتقال نحو إقتصاد منتج ومستدام، وهذه الإضافة المطلوبة تحديداً جعلت وزير المالية غازي وزني يوضح لموقع 180 أن هذه الخطة مالية بحتة وليست وظيفتها تقديم رؤية إقتصادية أو إجتماعية.

وزني يوضح لموقع 180 أن هذه الخطة مالية بحتة وليست وظيفتها تقديم رؤية إقتصادية أو إجتماعية

يقود ذلك للقول أن تلك الرؤية الإقتصادية الإجتماعية المتكاملة لن تقدّمها شركة إستشاريّة متخصصة بدراسة معطيات ماليّة بحتة. وفي أحسن الأحوال، يمكن للمسودّة الحاليّة أن تشكّل ورقة عمل يمكن التفاوض على أساسها مع صندوق النقد، خصوصاً أن المعالجات الماليّة المطروحة فيها تنسجم مع رؤية الصندوق المعروفة، من الإنتقال إلى سعر صرف أكثر مرونة إلى الخصخصة تحت ستار الشراكة مع القطاع الخاص وصولاً إلى إستهداف الرسوم الضريبيّة السهلة التحصيل والتقشّف في الإنفاق.

غياب المعالجات الفعّالة والمؤثّرة التي تتعلّق بالقطاعات الإنتاجيّة وواقعها، هو ما دفع الكثيرين إلى إنتقاد مسودّة الخطّة، وإعتبارها مجرّد ورقة عمل تناسب شروط صندوق النقد، دون أن تستهدف معالجة فعليّة لمكامن الخلل القائمة في بنية النموذج الإقتصادي. وبالفعل، فإن أية معالجات تطال القطاع المالي والميزانيّة العامّة والسياسات النقديّة ستبقى منقوصة في المستقبل، إذا لم يتم معالجة أبرز أسباب تردّي المؤشّرات الماليّة والنقديّة، والمتعلّق بتراجع الإنتاج المحلّي نتيجة تجاهل السياسات الرسميّة للعوامل المحفّزة له.

لكن بمعزل عن هذا النقد المحق، ثمّة سهام أخرى وجّهت إلى مسودّة الخطّة لأسباب مختلفة تماماً، تتعلّق تحديداً بإقتراب لحظة المس بمصالح المستفيدين من النظام المالي، سواء كانوا من فئة كبار المودعين أو المساهمين في المصارف اللبنانيّة. هذه السهام كانت متوقّعة بالتأكيد، خصوصاً أنّه لا يمكن تخيّل أي خطّة واقعيّة للحل تصب في صالح الدولة دون المساس بمصالح هؤلاء، وهو ما يعني إقتراب لحظة المواجهة مع هذه المصالح مع كل خطوة يتم إتخاذها نحو الخروج من المأزق. وفي كل الحالات، سيكون علينا إنتظار دراسة “هوليهان لاكي” (الشركة الإستشارية للمصارف) المرتقبة، لمعرفة تشخيص أصحاب المصارف للمشكلة ورؤيتهم للحل.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كورونا يُلزمنا بالتعليم عن بعد: إرباك وتجريب