تراجعت حظوظ التفاهمات السياسية في الشمال السوري جرّاء اصطدامها بخلافات اللاعبين في ما بينهم، مفسحةً المجال أمام عودة التصعيد العسكري إلى واجهة المشهد من جديد.
تراجعت حظوظ التفاهمات السياسية في الشمال السوري جرّاء اصطدامها بخلافات اللاعبين في ما بينهم، مفسحةً المجال أمام عودة التصعيد العسكري إلى واجهة المشهد من جديد.
على الرغم من مقتل زعيم تنظيم "داعش" السابق أبي بكر البغدادي في بلدة باريشا في ريف إدلب الشمالي، لا تزال منطقة خفض التصعيد الإدلبية تشكل وجهة رئيسية لتوافد قيادات ومقاتلي التنظيم المتشدد، ما يعكس مدى تلاشي الاعتبارات الأمنية في استراتيجية قيادته الجديدة أمام أهمية الأهداف التي تطمح إلى تحقيقها عبر اختراق لهذه المنطقة.
ورث أبو إبراهيم الهاشميّ تركة ثقيلة عن سلفه أبي بكر البغدادي. وكأنّ قدر أيّ زعيم جديد للتنظيم المطارد دولياً، أن يستلم مهامه بينما تمر جماعته بأحلك الأوقات عسكرياً وأمنياً. فكما تحمّل البغدادي عام 2010 تبعات الهزيمة المدويّة التي لحقت بـ "دولة العراق الاسلامية" على يد "الصحوات" وبدعم أميركي آنذاك، ها هو الهاشميّ يجد نفسه – بعد شهر من مقتل البغدادي- في موقف أصعب وأكثر تعقيداً، ليس لأنه يتزعّم التنظيم وهو لا يملك أية مساحة من الأرض، بل لأن الميدان الذي يمكن أن ينشط فيه أصبح مزدحماً بقوات جيوش تابعة لدول متنافسة، ما يجعل العمل محفوفاً بتعقيدات ومخاطر لم تكن في الحسبان.
في وقت تنطلق فيه الجولة الثانية من أعمال اللجنة الدستورية المصغرة في جنيف وسط توقعات بأن ترتفع سخونة النقاشات، تتلبّد بالموازاة أجواء المشهد الميداني في الشمال السوري، بشقيه الغربي والشرقي، بنذر التصعيد العسكري.
في خضمّ تحولات الشمال السوري التي تجري على وقع تحركات أربعة جيوش (الروسي والتركي والأميركي والسوري)، وفي ظل تطورات المنطقة والاقليم من إيران إلى العراق مروراً ببيروت وغزة، لم يكن ينقص المشهد إلا أن يدمغ بالبصمة الاسرائيلية حتى تكتمل أجزاؤه وتأخذ أبعادُه امتداداتِها القصوى استراتيجياً وسياسياً.
استُثنيت مدينة القامشلي مؤخرا من أحكام الاتفاقين الروسي – التركي و التركي – الأميركي اللذين عقدا بشكل منفصل في أعقاب قرار البيت الأبيض سحب القوات الأميركية من منطقة شرق الفرات. لكن هذا الامتياز المزدوج الذي حظيت به المدينة لم يشفع لها -على ما يبدو- في ألا تتحول إلى خاصرة رخوة في محيط شديد الحساسية تحتشد فيه قوات أربعة جيوش متنافسة هي الجيش الأميركي والتركي والروسي والسوري، بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية وخلايا داعش المستنفرة بعد اغتيال زعيمها أبي بكر البغدادي.
ثلاثة دروس استخلصها أبو محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً) من تطور الأحداث في شرق الفرات خلال الشهرين المنصرمين. الدرس الأول جاء من خيانة البيت الأبيض لحلفائه في "قوات سوريا الديمقراطية"، حيث ترسخت قناعة الجولاني بأن الرهان على العلاقة مع تركيا لن يؤول إلا إلى نهاية مشابهة. والدرس الثاني قرأه الجولاني بتمهّل بين يديّ ما جرى لخصمه اللدود أبي بكر البغدادي، فلم يجد بدّاً من إجراء مراجعة عميقة تمكنه من تجنب المصير ذاته. أمّا الدرس الثالث فخلاصته أن الوقت ليس وقت "تمكين" وإنشاء إمارات ودول بسبب الفيتو العالمي ضد هذا السلوك، لذلك من الأجدى استغلال ما تيسر من "التمكين" بهدف الاستعداد لمرحلة ما بعده.
برغم استعراضيّة المشهد، إلا أنّ تساقط أفراد عائلة أبي بكر البغدادي بيد أجهزة الأمن التركيّة بهذه السرعة والكثافة، لا بدّ أن ينطوي على دلالات عديدة حول طبيعة العلاقة التي ربطت بين الجانبين في مرحلة ضمور "الدولة"، كما لا بدّ أن يطرح تساؤلات كثيرة حول توقيت هذه الحملة الأمنية التي أعقبت مقتل زعيم "داعش" بأيام قليلة.
يحتاج السوريّون إلى قدرٍ غير متوفر من التفاؤل لكي يؤمنوا أن خمساً وأربعين شخصية تجتمع حالياً في جنيف للتباحث في الإصلاح الدستوري، ستتحقق على أيديها معجزة حلّ الأزمة السورية.
لم يمض أسبوع بعد على مقتل زعيم تنظيم "داعش" أبي بكر البغدادي، حتى شمّرت قيادة تنظيم "القاعدة" عن ساعديها ساعيةً إلى استغلال الحدث من أجل التأثير في طبيعة التحالفات القائمة وإعادة التوازن إلى الحضور الجهادي في المشهد السوري وتضييق الفجوات بين أركانه.