وفاء أبو شقرا, Author at 180Post - Page 12 of 15

IMG-20200814-WA0119.jpg

 كان يا ما كان في قديم الزمان، أبحرت سفينة كبيرة في عباب البحر، وعلى متنها بضائع وركّاب كثيرون. فإذا برياحٍ عاتية تهبّ على هذه السفينة فتقلبها رأساً على عقب، وتُغرِقها مع حمولتها. لكنّ ناجياً وحيداً خرج من بين المنكوبين. لقد قذفته الأمواج إلى جزيرةٍ مهجورة. وما أن أفاق هذا الرجل من غيبوبته والتقط أنفاسه، حتى جثا على ركبتيْه متضرِّعاً للربّ كي ينقذه من محنته. لكن، لم تُستَجَب دعواته.

FB_IMG_1597080261203-1280x1024.jpg

"لقد تسلّمنا الحكم، والبلد يغرق بسرعةٍ قياسيَّة. فهل كان بإمكان أيّ حكومة أن توقف هذا الانهيار الدراماتيكي؟ هل يمكن وقف الانهيار من قِبَل الذين تسبَّبوا به، ثم تركوه لحظة السقوط؟". الكلام لحسان دياب، عندما سمّوه رئيساً للحكومة. هو مَن عرّف بعظمة لسانه، إذن، أنّه يقوم بعمليَّة إنتحاريَّة بقبول رئاسة الحكومة. وهو مَن أوحى، شخصيَّاً، بأنّه اختير "كبش فداء". إذْ قال أيضاً وأجاد في القول: "لم يكن أمامنا خيار سوى تولّي قيادة السفينة. وقلنا للركاب دعونا نحاول الإنقاذ. لكنّنا وجدنا أنّ مراكب الإنقاذ، إمّا مفقودة أو غير صالحة".

www-.jpg

هل يجوز أن نبدأ مقالاً بالصراخ؟ والله لو كان للحروف صدى، لخرق كلُّ الكلام الحزين المُقال في بيروت ولبنان، جدار الصوت في السماواتِ السبع. لكن، هل يمكن أن تنصرف الكلمات لـ"مديح الكراهية"؟ نعم وألف نعم. هذا المديح الذي جعل منه الكاتب السوري خالد خليفة عنواناً لروايته عام 2006 (ممنوعة من التوزيع في سوريا)، "وضع" خليفة على لائحة أهمّ روائيّي القرن العشرين.

ناجي-صباح-يا-بيروت.jpg

عدتُ بالذاكرة إلى حقبة ثمانينيّات القرن الماضي. كنتُ في كلّ مرّة أنزل فيها من الجبل إلى بيروت بعد انتهاء إجازتي الأسبوعيَّة، يشاء القدر أن يحدث حدثٌ مُزلزِل. وغالباً ما يكون ذلك الحدث، اغتيال شخصيَّة من الصفّ الأول. بالأمس، كرّت سبحة ذاكرتي إلى الوراء. مثل فيلم حياتنا الذي يمرّ أمام عيوننا، عندما يسري مفعول التخدير في عروقنا في غرفة الجراحة. فلم تكد تطأ قدمي عتبة منزلي في بيروت حتى وقع الزلزال.

robin_williams_style__hassan_bleibel.jpg

"ع السّكت بيمرقوا الأعياد/ يرشّوا الفرح ع ضْياع مطفيّة/ ع بيوت بالفرحة مستحيّة/ في ولاد ما عندن ثياب جداد/ والجوع بجيابن الخَرجيّة (المال)". هكذا تختصر إحدى الشاعرات، المشهديَّة التي يستقبل بها أهلُ لبنان عيد الأضحى. وبريشةٍ قاسية، ترسم كلماتها الرقيقة لوحة أيّامنا بلونٍ واحد: الأسود. يتدرّج هذا السواد من القهر والعتمة، إلى الفاقة والجوع، إلى الخجل من الفرح. وبين هذا وذاك وذلك، طفولةٌ لبنانيَّة تسأل "أطفال" السياسة والحُكم: ماذا فعلتم ببلدنا؟

IMG-20200725-WA0005.jpg

يُروى، أنّه كان من عادة الرئيس السوفياتي جوزيف ستالين أن يعمل حتّى ساعات الفجر الأولى. ولم يكن يتورَّع عن مخابرة الوزراء والمسؤولين، كلّما أراد أن يستفسر عن أمرٍ أو معلومةٍ ما. لذا، كانت الحواس الخمس لدواوين الحكومة والحزب (الشيوعي)، تبقى مُستَنفَرة طوال ساعات عمل "القائد". وكان ستالين يحرص على مداومة الاتّصال بمسؤولٍ محدَّد: أفرينتي بيريا رئيس الأمن السوفياتي وجهاز الشرطة السرِّية.  

26681-.jpg

"ما تطوّلي عليْنا.."، الجملة التي كان يُقفِل بها أبي كلّ مخابرةٍ هاتفيَّة بيننا. ثلاث كلماتٍ، كانت كفيلة بأن تُبكيني أسبوعاً كاملاً، قبل أن أستأنف روتين حياتي في الطاحونة الباريسيَّة. فالهاتف خبيثٌ مخادع، يضع بين المتكلِّمين قرْباً زائفاً يُشعِل عن بُعد ألَمَاً في المهاجر، تعجز التكنولوجيا عن إطفائه.

10-1280x812.jpg

قبل سنواتٍ قليلة، أعدَّ باحثون نفسيُّون في الولايات المتَّحدة وكندا وهولندا دراسةً استقصائيَّة، عن السعادة ومتطلِّبات استجلابها. فتبيَّن لهم، أنّ شراء الوقت بدلاً من السلع الماديَّة، يحقّق للإنسان المزيد من مشاعر السعادة، بنسبةٍ تصل إلى 30 بالمئة. وأنّ الضغط الناجم عن "ندرة الوقت"، يقلِّل من إحساس الإنسان بالاطمئنان والراحة وتالياً.. بالسعادة. وأنّ هذه الندرة تساهم، كذلك، في إصابته بالقلق والأرق وتالياً.. بالتعاسة.

106898784_1550444491776654_4255309596397583232_o.jpg

قبل نحو عشر سنوات، كان بائع الخضار التونسي المتجوِّل محمد البوعزيزي يسوق عربته في أحد شوارع مدينة سيدي بوزيد. فاعترضت سبيله شرطيّة وصرخت به بالفرنسيّة:"Dégage"  (إرحل). بحجّة أنّ البيْع ممنوع للباعة المتجوّلين في ذاك المكان حيث كان يقف. ولمّا حاول البوعزيزي ثنيها عن مصادرة عربته وبضاعته، دفعته وصفعته أمام الناس.

10-2-800x445-1.jpg

أتذكَّر ليلة ذاك الخميس من عام 2003. كنّا انتهينا للتوّ من "عجقة" النشرة الإخباريّة المسائيّة. فجلسنا في الـ news room لنستريح قليلاً. فجأةً، سمعنا صياحاً وصخباً. ركضنا إلى أسفل، مُعتقدين أنّ عراكاً قد اندلع في المحطّة (حيث كنتُ أعمل). فإذا بشبابٍ يتقدَّمون بسرعة داخل المبنى، ويهتفون "بالروح بالدم...". على أكتافِ أحد "المغاوير"، كانت تتدلَّى ساقا رجلٍ سبعيني. كان يبتسم (ببلادة)، ويرفع يديْه ملوِّحاً لمَن هُرِع إلى المكان.. للفُرْجَة.