أوقفنا السيّارة على مستديرة السفارة الكويتيَّة. الصمت يُطبِق على المكان. لا أحد في الشوارع، ولا حركة تفيد بأيّ نشاطٍ بشريّ. مشينا لدقائق نزولاً باتّجاه الغبيري. تقدّمنا أمتاراً قليلة وتوقّفنا. فلقد أُوعِز لنا بألاّ تتقدّموا أكثر. أفهَمَنا المسلّحون، بلغتهم، أنّ القوّة أرجأت “لسببٍ ما” انتشارها المُزمَع. لم يُفصِحوا لنا عن السبب (تبيّن لاحقاً أنّه خلاف حول انسحاب المقاتلين من الشوارع والتراجع إلى مواقع مُحدَّدة). يا للخسارة. خاب أملنا (كصحافيّين طبعاً) بإتمام تغطيتنا التي كانت ستحتلّ، بلا ريب، مقدّمة نشرة أخبار الظهيرة.
فجأة، لمحتُ في البعيد شابيْن، ضمن بقعةٍ صغيرة؛ “مَن هذان اللذان يروحان ويجيئان يا ترى؟”، سألتُ وأنا أومئ بصوتي المنخفض إليهما. فأجابني أحد زميليَّ “هوذي شباب من حزب الله”. “شووو؟”، صحْتُ بصوتٍ مكبوت، وسألتُه من جديد “هيك شكلن (شكلهم) حزب الله!؟”. فضحك متعجِّباً من دهشتي وقال “ليش كيف لازم يكونوا؟”. لم تكن خلفيَّة سؤالي “السذاجة”، بل كان جزعي من رؤيتهم. رؤية “حزب الله” بالعين المجرَّدة، لأوّل مرّة في حياتي. فلقد كان هذا الحزب بالنسبة لي، أنا ابنة الجبل، “بعبع”. وعندما كنتُ أتخيَّل شكل عناصره، كنتُ أراهم كائنات بشريَّة لا تشبهنا.
لذا حلّت عليّ الدهشة في ذاك الفجر. أي، بعدما أيقنت أنّ رجال حزب الله مثلنا، وأنّ صورتهم التي رسمتُها في رأسي، لم تكن صحيحة. هذه الصورة، التي اختيرت لها تسمية علميَّة: “الصورة الذهنيَّة”. والصورة الذهنيَّة، هي “روح” وليست نصوصاً أو رسوماً. تتكوّن في الأذهان، لاإراديّاً ورغماً عن الإنسان. فتُشكِّلها، عادةً، اعتقاداتنا وانطباعاتنا، الصحيحة أو الخاطئة، عن “الآخر”. وتؤثِّر في تكوينها، المعلومات المُختَزَنة عن هذا “الآخر”، وكيفيَّة فهْمنا وتقييمنا لهذه المعلومات. وتؤثِّر في تكوينها كذلك، تجارب الأفراد الشخصيَّة وتجارب الآخرين ومداومة الفرد على التعرُّض لوسائل الاتصال والإعلام. والخطير في هذا السياق، أنّ البُعد الوجداني (مشاعر الفرد وميوله وانفعالاته) هو الذي يلعب الدور المركزي في تكوين الصورة الذهنيَّة. ما يعني، أنّ “الصورة الذهنيَّة” (الذاتيَّة والمنحازة غالباً) و”الموضوعيَّة” منظوران لا يلتقيان أبداً، حتى بإذنٍ من الله!
عديدة هي الشخصيّات التي ارتبطت أسماؤها، عبر التاريخ، بصورةٍ ذهنيَّة (محمودة أو منبوذة). البعض حمى هذه الصورة، طيلة حياته، ومات ولم يتناقض معها أو يتنازل عنها. في حين، عجز بعضهم عن ذلك. ومن بين الشخصيّات الشهيرة، التي كوّن معظم الناس عنها الصور الذهنيَّة ذاتها، نذكر: حاتم الطائي وصورته الذهنيَّة “الكرم”، وقيس بن الملوَّح وصورته الذهنيَّة “العشق”، وعنترة بن شدّاد.. “الشجاعة”، وعمر بن الخطّاب.. “العدل”، وعمرو بن العاص.. “الدهاء”، وغاندي.. “السلام”، وستالين.. “البطش”، وغيفارا.. “النضال”… إلخ. لبعض الجماعات والتنظيمات التي عَبَرت في تاريخ البشريَّة صورٌ ذهنيَّة، أيضاً، صنعتها عقيدتها ونهجها وسلوكيّاتها؛ فمَن منّا ينسى “همجيَّة الفاشيَّة”، و”وحشيَّة الصهيونيَّة، و”عنصريَّة النازيّين الجُدُد”، و”دمويَّة داعش”..؟ ماذا عن بلدنا، الآن، وصور زعمائه وجماعاته الذهنيَّة؟
لقد شذَّب حزب الله، كلّ غصون الشوائب والموبقات التي حملت توقيعه (ذات زمن) من “أشجار حديقته”. فألصقها كلّها بـ”قياداتٍ سابقة”، تماماً كما فعلت سائر الأحزاب اللبنانيَّة
لا يخلو تاريخ لبنان من هذه الصور، لرؤساء وزعماء وسياسيّين وقادة رأي وفنّانين. منهم مَن رحل، ومنهم ما انفكّوا ناشطين بيننا. لكن، ومنذ سنواتٍ طويلة، انغمس لبنان، وبحماسٍ قلَّ نظيره، في “زمن التفاهة”. فلم يُنجب للسلطة رجال دولة كفوئين ومتنوِّرين وخلوقين، بل مجرّد “زعماء” غوغائيّين وغرائزيّين وعاجزين. ومعظم هؤلاء، قادوا تنظيماتهم وجماهيرهم بنزعة الطغيان والفظاظة وجنون الذات. من هنا، إذا ما تفكَّر المواطن اللبناني قليلاً، واستعرض في خياله “هامات” أهل الحكم والجماعات التي عرفها أو سمع وقرأ عنها، سيتولَّد لديه، حتماً، شعورٌ سلبيٌّ جدّاً. فالصور الذهنيَّة لزعماء وساسة لبنان، شنيعة ومهزوزة وباهتة الألوان.
لكنّ اللبنانيّين، يختلفون وينقسمون بشأن هذه الصور. فكما، في كلّ شأنٍ وتفصيل، لا تتطابق معظم هذه الصور المكوَّنة في الأذهان اللبنانيَّة. فالتنازع قويٌّ وحادّ، حول وحيال هذه الصور، التي تحدِّد إطاراتِها الانتماءاتُ والهويّات والولاءات المختلفة. بل لنقُلْ، إنّها هي التي ترسمها بريشاتٍ مختلفة تُغمَّس بألوانٍ مختلفة، أيضاً. ولا داعي هنا، لاستذكار الأمثلة وإيقاظ آلامٍ نامت. فالأوجاع لا تنقصنا يا أصدقاء! لكن، ربّما من المفيد التأمُّل (ولو لبُرْهة) في صور بعض رموزنا الحيَّة، بخاصّة تلك التي تشوّهت ونُكِّل بها مع الأيّام. لأنّ ترميم صورهم “البرّاقة”، التي غرسوها غرساً في أذهان جمهورهم والجماهير، ما زال في المتناول. لكن، هل من قدرةٍ عند هؤلاء للترميم؟ والسؤال الأصْوَب، هل من نيَّةٍ لديهم لهذا الترميم؟ في مقدّمة المعنيّين بهذا الكلام هو حزب الله.
في بداياته، كان الغموض السمة البارزة التي طغت على صورة حزب الله في أذهان البيئات اللبنانيَّة. حتى في البيئة التي انطلق منها هذا الحزب، كان يُهمَس باسمه همساً، توجُّساً. ويروي لي رفاقٌ قصصاً، عن صعوبة “تقبُّل” حزب الله، المُندفِع إلى أرض لبنان بزخمٍ إيرانيٍّ مباشر. مسائل عديدة أعاقت اندماج هذا الحزب مع اللبنانيّين. فأصول حزب الله، والطبيعة الانشقاقيَّة لنشأته، ومرجعيته الفقهيَّة “الخاصّة جدّاً” في التقليد الشيعي، وعقيدته الدينيَّة الأصوليَّة، وفكره السياسي المتزمِّت، وثقافته غير المألوفة في المجتمع اللبناني (كانت تُسمّى ثقافة التشادور)، وميله الحادّ لعسكرة الطائفة الشيعيَّة… كلّها ركائز أرسى عليها حزب الله “منظومته”، وصنعت صورته في الأذهان. ولا مبالغة في القول، إنّ هذا الحزب كان بنظر، غالبيَّة اللبنانيّين، جسماً هجيناً زُرِع في جسد لبنان.
مرّ وقتٌ طويل، قبل أن تبدأ ملامح هذه الصورة بالتغيُّر. وقد لا يتذكّر كثيرون (بمن فيهم عناصر الحزب الفتيَّة)، المراحل التي قطعها حزب الله كي يرسو حيث ترسو مراكبه اليوم. ولم يعايشوا الحقبات التي نشط فيها هذا الحزب، فتضخَّم حجماً ومكانةً ودوراً. هم لم يلاحظوا، كذلك، “التفاصيل” التي أسقطها من سيرته، وهو يسير مع الالتفافات والمفترقات في زواريب السياسة اللبنانيَّة! فلقد شذَّب حزب الله، كلّ غصون الشوائب والموبقات التي حملت توقيعه (ذات زمن) من “أشجار حديقته”. فألصقها كلّها بـ”قياداتٍ سابقة”، تماماً كما فعلت سائر الأحزاب اللبنانيَّة. باع حزب الله واشترى، أيضاً، مثلما فعل غيره من الأحزاب. لكنّ الفرق، أنّه أُعطي ما لم يُعطَ لغيره. كيف؟
نجحت بعض المحاولات في الإضرار، وبقوّة، بسمعة قيادة الحزب وكوادره ونهجه ومشروعه وأهدافه، لا بدّ من الإقرار. حُكماً، لم يعد حزب الله ما كانه حتى الأمس القريب
لقد قرّر مهندسو اتفاق الطائف إطلاق يد النظام السوري في لبنان، لا بأس من التذكير. شرط أن تُطلَق معه، يد رئيس الحكومة (الراحل) رفيق الحريري في الاقتصاد والمال. وشرط أن تترسّخ، معه أيضاً، “المعادلة الذهبيَّة” بين الحريري وحزب الله (ومَن يمثِّلان في الداخل اللبناني وخارجه). وصيغت المعادلة كالآتي: “الاقتصاد والمال وسياساتهما وصفقاتهما = المقاومة والسلاح وتوابعهما وتبعاتهما”. أفضت هذه المعادلة، بديهيّاً، إلى وضْع اتفاق الطائف في الأدراج. ليطويه النسيان، وتأكل صفحاته العُثَّة والفئران. ووفق هذه المعادلة، اصطفَّت جميع الأطراف السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والعسكريَّة، كأحجار “الدومينو”. ومكافأةً على انضباطها هذا، تُرِك لها حبلُ الصفقات والفساد ومشتقّاته وارتكاباته، على غاربه. يا لسعادتنا بهم جميعاً، وماذا بعد؟
كلّ ذلك حدث، وحزب الله ماضٍ في تثبيت المعادلة إيّاها، وفي نسج صورته على وقْعها. بل، كان “يطرّز” هذه الصورة تطريزاً. صورة، وُضِعَت في إطارٍ رمزيٍّ لامس القداسة. وأكثر. أمست قيادة حزب الله (الحاليَّة) أيقونة. ليس عند عناصر هذا الحزب والطائفة التي ينتمي إليها والبيئة الحاضنة له فحسب، إنّما لدى مجموعاتٍ وشرائح واسعة من اللبنانيّين والعرب. أمست صورة هذه القيادة، أهمّ من شخص صاحبها، حتى. فحرص، هو والآلاف من الأنصار والحلفاء، على صيانة هذه الصورة. وعليه، وضع حزب الله نفسه ووضعوه، في برجٍ عاجي. ينظر إليه الناس من بعيد، ولا يقتربون منه. كان ممنوعاً الاقتراب منه، بكلّ ما للكلمة من أبعاد. ونتيجة “تربُّعه” طويلاً على هذا البرج العاجي، انفصلت حياته بالكامل، تقريباً، عن حياة اللبنانيّين. لدرجةٍ، بات يستصعب التموضع ضمن خارطة الوطن، ويعجز عن فهْم أفعال الناس وأفكارهم ومشاعرهم، وعن التأقلم، عموماً، مع مَن كان من خارج محيطه. هل هي العودة إلى صورة “البعبع”؟
على مدى عشرين عاماً، وتحديداً بعد التحرير (2000)، حصلت أمورٌ كثيرة في لبنان والعالم، أنزلت حزب الله من برجه العاجي. أمورٌ فعلها هو، عن سابق تصوُّر وتصميم، وأخرى فعلها آخرون، عن سابق تصوُّر وتصميم، أيضاً. لقد تشوّهت صورة “الحزب الطهراني” في أذهانٍ لبنانيَّة كثيرة، لا بدّ من التأكيد. واقترب التشويه، غالباً، من محاولات الاغتيال المعنوي لهذا الحزب، لا بدّ من الإشارة. نجحت بعض هذه المحاولات في الإضرار، وبقوّة، بسمعة قيادة الحزب وكوادره ونهجه ومشروعه وأهدافه، لا بدّ من الإقرار. حُكماً، لم يعد حزب الله ما كانه حتى الأمس القريب. هو يدرك هذه الحقيقة. والكلّ يدركها، كذلك. وها هو، وكأنّه يستعيد صورته السابقة “النافرة” في المشهديَّة اللبنانيَّة. وكأنّه يُراد له أن يعود بالزمن إلى الوراء، إلى زمن البدايات.. إلى الثمانينيَّات. أيُعقَل؟ نعم.
هل سيقوم حزب الله بأيّ جهدٍ لوقف مساهمته الفعّالة في اغتيال صورته؟ كلّ المؤشِّرات، حتى الآن، تقول “كلا”. لذا، إقتضى الخوف على صورة هذا الحزب وإرثه ومصيره.. والرهان على صحوة، ولو متأخّرةً، تُفاجئنا وتُدهشنا جميعاً
لا تتّسع هذه السطور لتشريح الأسباب التي تقف وراء الصورة المهشَّمة لحزب الله (سنخصِّص قريباً مقالة لهذا الموضوع). لكنّ كثيرين باتوا يرون، بوضوح، التشويهات التي لحقت بصورة هذا الحزب. والأكيد، أنّ عوامل كثيرة ومتشعِّبة ساهمت (وتساهم) في عمليَّة التشويه هذه، والمُصوَّبة، فعليّاً، على هدفٍ واحد: التركيز على تحوُّل هذا الحزب تدريجيّاً من “مقاومة” إلى “شبه ميليشيا”. لماذا؟ يختلف حزب الله عن بقيَّة الأحزاب اللبنانيَّة، بأنّه اكتسب شعبيّته وشرعيّته السياسيَّة عن طريق العمل المسلّح ضدّ إسرائيل، حصْراً. وبعد التحرير، و”اضطراره” لإدارة وجهه إلى الداخل اللبناني، ظهر جليّاً افتقاده لأيّ مشروعٍ سياسيٍّ – اقتصاديٍّ، مثله مثل كلّ أحزاب السلطة في لبنان.
ولدوافع يطول شرحها، ارتأى هذا الحزب أن ينخرط في متاهات السلطة الفاشلة والفاسدة والقاتلة. وإذا كان لا دلائل، حتى اللحظة، تؤكّد ضلوعه في مفاسد وارتكابات هذه السلطة، إلاّ أنّ سكوته عنها (تغطيته لها؟) لا تحتاج إلى أيّ دليل. فحزب الله، هو الذي كان سبّاقاً لتصدُّر لائحة قامِعِي انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر! ما طرح تساؤلاً بديهيّاً وكبيراً وإشكاليّاً، في آن: كيف يفسِّر هذا الحزب، تمكُّنه من أن يعتمر قبّعتيْن في اللحظة ذاتها؟ قبّعة حركة ثوريَّة تحرُّر الأوطان، وقبّعة حركة ميليشياويَّة تقمع المواطنين؟
كلمة أخيرة. يرى البعض، أنْ لا قيمة أو مفاعيل للحكم الصادر عن المحكمة الدوليَّة قبل أيّام. فالمحكمة التي برَّأت قيادة حزب الله من جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، جاء حكمها بعدما “نزل الفأس في الرأس”. بمعنى، أنّ المحكمة الدوليَّة التي تفترض أنّها أدّت دورها في “إحقاق العدالة”، تدرك جيّداً أنّها أدّت وظيفتها السياسيَّة في “الاغتيال المعنوي” لحزب الله. إذْ إنّه، وخلال كلّ السنوات التي هدرها المحقّقون والقضاة لتركيب ملفّ الاتّهام في القضيَّة، كانت الماكينات السياسيَّة والإعلاميَّة المتعدِّدة المشارب تدمِّر، شيئاً فشيئاً، سمعة هذا الحزب ومصداقيته وتضحياته ومكانته. كان العمل كثيفاً وحثيثاً، لتكريس الصورة الذهنيَّة السلبيَّة عن حزب الله، وتثبيتها لدى الرأي العامّ اللبناني (وغير اللبناني). نجح هذا العمل، بقوّة، في تحقيق غاياته. فهل سيقوم حزب الله بأيّ جهدٍ لوقف مساهمته الفعّالة في اغتيال صورته؟ كلّ المؤشِّرات، حتى الآن، تقول “كلا”. لذا، إقتضى الخوف على صورة هذا الحزب وإرثه ومصيره.. والرهان على صحوة، ولو متأخّرةً، تُفاجئنا وتُدهشنا جميعاً.