أولى بديهيات الانتظام القانوني في الإدارة العامة، أن يراعى في ملء الشواغر ما تقرره الأنظمة وقواعد الإدارة السليمة لناحية اختيار الشخص المناسب لناحيتي الخبرة والكفاءة، وأن يخضع هذا الاختيار لرقابة مجلس الخدمة المدنية سواءً أكان ملء الشواغر قد تمّ عبر نظام الترفيع أو النقل أو الوكالة أو الانتداب، أو التعيين بموجب مباراة. وفي حال تعذّر اللجوء إلى أيٍ من هذه الحالات، تطبّق قاعدة الإنابة المقررة بموجب المادة 34 من المرسوم 2894 تاريخ 16/12/1959، بحيث يتولى المرؤوس الأعلى درجة صلاحيات رئيسه في حال غيابه، وجرى اعتمادها تطبيقاً في حالة شغور المركز دون تعيين بديل وفق الأصول المذكورة أعلاه. وتتيح الإنابة أن يتولى الرئاسة أكثر الموظفين قدماً وخبرة في الوحدة (الإدارية). هذا الأمر له أيضاً وقع معنوي إيجابي على الموظفين الذين خبروا زميلهم لأنه أقدمهم بالعمل وهم على معرفة به وتواصلٍ معه لسنوات، فتستمر علاقة العمل السابقة بدون أي عقبات أو شعور بالاحباط أو الغبن أو حتى الإساءة.
ولكن ما يحصل أن كل وزير فور توليه أعمال الوزراة، يحيط به المحظيون وأصحاب الوساطات والمحسوبيات ويطلبون منه تكليفهم بمهام قيادية شاغرة. فيستجيب لرغباتهم، وتأتي الاستجابة في غالبية الأحيان كارثية، حيث يعمد إلى تكليف موظف فئة رابعة بمهام فئة ثانية، أو يكلف موظف فئة ثالثة بمهام موظف فئة أولى، أو يكلّف من ليس له صفة وظيفية بمهام وظيفية ويجعله رئيساً للموظفين يأتمرون بأمره وينفذون تعليماته، أو يهمل صاحب اختصاص في إدارة فنية ويأتي بشخص من خارج الوحدة والاختصاص ويجعله رئيساً عليهم، وهو جاهل بأعمال هذه الوحدة، والأمثلة عن هذا التكليف غير القانوني لا تحصى في الإدارة اللبنانية، بحيث يلزم موظفون فنيون مختصون بتنفيذ تعليمات شخص غير ملم بالعمل الذي يتولونه، وهذا ما يدفعهم للإنكفاء والاقتصار بالعمل على تصريف الأعمال الضرورية، فلا إبداع ولا ابتكار ولا اهتمام بتطوير العمل، وفي ذات الوقت، فإن الموظف المكلّف لا يمكنه مراقبتهم لأنه لا يفقه شيئاً عن عملهم، كما لا يستطيع إعطاءهم التعليمات لأنه لا يعرف ماذا يطلب منهم. وهكذا بقرارٍ خاطئ، يتخذه وزير في وزارة معينة، يمكن أن تدخل الإدارة العامة في متاهة الفوضى والضعف والخلل وعجز الانتاج، بالإضافة إلى الإساءة التي لحقت بالموظفين وتشويه النظام الوظيفي وتعطيله.
الموظف الذي ربح قضاءً، واستطاع كسر قرار الوزير وإزالته من المنتظم القانوني، يجد نفسه محل انتقام الإدارة، بحيث يصار إلى التضييق عليه معنوياً ومادياً، وفي بعض الأحيان، يصار إلى نقله إلى مكان عمل جديد خارج نطاق سكنه
في بعض الأحيان، يلجأ الموظف المتضرر إلى مجلس شورى الدولة لإبطال هذه التكاليف غير القانونية، بسبب مخالفتها للمادة 49 من نظام الموظفين التي نصّت على أنه فيما عدا حالات الاصالة والوكالة والانتداب لا تعتبر قانونية اية حالة اخرى للموظفين العاملين، كالوضع تحت تصرف وزير او ادارة ما باستثناء الحالات الاخرى التي ينص عليها القانون، وكان المجلس مستقراً في اجتهاده على إبطال قرارات التكليف، لأنها تعتبر حالة غير قانونية. (على سبيل المثال: قرار مجلس شورى الدولة الرقم 608/2015-2016 تاريـخ 17/5/2016 المهندس وجدي رمضان/الدولة؛ القرار الرقم 617 / 2018-2019 تاريـــخ 27/5/2019 برتا أبو ديوان/ الدولة اللبنانية – وزارة الأشغال العامة والنقل)، وبعد أن إستقر مجلس الشورى على بطلان هذه التكاليف، فإنه أحياناً يرشد الإدارة إلى الإنابة لكونها إجراءً قانونياً، حيث ورد في أحد أحكامه:”بما أنّ عدم ملء المركز الشاغر الذي تشغله المستدعية يوجب استمرار حالة الانابة قانوناً، ولا يملك الرئيس التسلسلي سلطة تكليف موظف آخر القيام بهذا العمل طالما أنّ المستدعية تواظب على القيام بمهامها إلى أن يتم ملء المركز بإحدى الطرق القانونية” (م.ش. قرار رقم 557/2017-2018 تاريــخ 8 /3/2018 آمال ماري يوسف الزرقا/ الدولة – وزارة الاتصالات).
وهذا الموظف الذي ربح قضاءً، واستطاع كسر قرار الوزير وإزالته من المنتظم القانوني، يجد نفسه محل انتقام الإدارة، بحيث يصار إلى التضييق عليه معنوياً ومادياً، وفي بعض الأحيان، يصار إلى نقله إلى مكان عمل جديد خارج نطاق سكنه، هذه الصورة من المعاملة التي يتعرض لها الموظف الذي اختار القضاء ملاذاً له، تجعل زملاء العمل يحجمون عن هذه المغامرة غير المضمونة، بخاصةٍ وأن المدراء العامين أحياناً يشاركون الوزراء في قرارات التكليف ما يزيد الضغط على الموظف، وأما إذا قرر المدير العام التصدي لهذه الحالات، فإنه يملك القدرة على شل قرارات الوزير وجعلها حبراً على ورق من خلال امتناعه عن إعطاء الموظف المكلف مباشرة عمل، ورد قرار التكليف إلى الوزير مع بيان اسباب رفض التطبيق (وقد لجأ إلى هذا الخيار المدير العام السابق للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، ومدير عام المالية في وزارة المالية).
إن هذا الموقف لبعض المدراء العامين في التصدي للتكليف غير القانوني والمسيء للإدارة العامة اللبنانية لا بدّ من استكماله بخطوات دعم من رئيس الحكومة الذي يملك وفق المادة 64 من الدستور صلاحية الاجتماع بالمدراء العامين وإعطائهم التوجيهات اللازمة التي تشكّل بالنسبة لهم دعماً في مواجهة هذه الحالة الشاذة في الإدارة العامة، وعلى رئيس الحكومة أيضاً إصدار تعميم توجيهي للوزراء بوجوب التقيد بأحكام المادة 49 من نظام الموظفين والكف عن التكليف غير القانوني لموظفين بمهام وظيفية. وأخيراً لا ننسى الدور العقابي الذي يمارسه التفتيش المركزي من خلال مساءلة كل موظف يقبل هذا التكليف ولا يلفت نظر رئيسه خطياً إلى أن مخالفته للقانون، وكذلك مساءلة من أعطى مباشرة عمل للموظف المكلف وهو يعلم بعدم قانونية التكليف.
(*) استاذ القانون العام في الجامعة اللبنانية