عن محسن ابراهيم.. وإشعاع المشرق ولبنان في المغرب الأقصى

بعد عمر مديد، وإثر مرض عضال عانى منه في السنوات الأخيرة، رحل المناضل الكبير محسن ابراهيم عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.

كنت من المواظبين على اقتناء “بيروت المساء” التي كانت توزعها شركة “سوشبريس” في الدار البيضاء، ولم تكن هذه المجلة تحقق نسبة مبيعات تذكر، أمام منافسة مجلات فاخرة وحديثة، شكّلت ما عرف بصحافة المهجر في نهاية سبعينيات وعقد ثمانينيات القرن الماضي، في باريس ولندن تحديداً.

 كانت “بيروت المساء” تصدر في حجم كبير بصفحات قليلة. وبرغم أنها كانت تفتقد لكثير من المواصفات والشروط المهنية والتقنية، سواء على مستوى إخراجها الفني الفقير أو تبويبها، إذ كانت صفحاتها تخصص تقريباً بكاملها لمقالات وتحليلات الرفيق أبو خالد (محسن ابراهيم)، فإني لم أتوقف عن متابعتها، برغم أني كنت بالموازاة مدمناً على مطالعة المجلات الحديثة، الغنية بالمقالات السياسية والتحقيقات الصحفية والمتابعات المتنوعة في الثقافة والفن والمجتمع. كانت “بيروت المساء” أقرب إلى نشرة حزبية داخلية، وكذلك كانت. أما اسم محسن ابراهيم، فقد سبق وصول “بيروت المساء”، وعُرف وسط الشباب اليساري في المغرب، مناضلاً تقدمياً وقائداً في الحركة الوطنية اللبنانية ومسانداً بارزاً للقضية الفلسطينية، ومنه حفظنا شعار: “الوطن باقٍ والاحتلال إلى زوال”.

***

من قديم، للوطنيين واليساريين في المشرق دائماً تأثيرهم وصداهم الكبير على الحركة الوطنية وعلى اليسار في أقصى المغرب. قبل قدوم أمين الريحاني وشكيب أرسلان في بداية القرن الماضي إلى “مراكش”، أي إلى المغرب كما كان يسميه إخوتنا المشارقة.

بل إن الفضل يعود لأديبين لبنانيين في تأسيس الصحافة باللغة العربية في المغرب في القرن التاسع عشر، بعد أن أسّس أجانب صحفاً بالإنجليزية والاسبانية والفرنسية. والأديبان هما عيسى فرح وسليم كسباني. وبعدهما في أوائل القرن العشرين، نجد صحفيين من لبنان أسسوا صحفاً عربية في المغرب، من بينهم الأخوان فرج الله وأرتور نمور، والشيخ نعمة الله الدحداح.

وفي نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات، أسّس بعض السوريين واللبنانيين مكتبات في حي الأحباس بالدار البيضاء، وأنشأ آخرون دور نشر لا زال بعضها يشتغل حتى اليوم.

***

بعد فشل محاولات تأسيس فرع قطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في المغرب، كما حصل في جل الأقطار العربية، إذ واجه النظام بقمع شديد بعض الشباب ممن اتهموا بإنشاء خلايا سرية للحزب القومي، بينهم الشاعر الصغير المسكيني والصحفي محمد أحمد باهي (الصحراوي)، وطلبة آخرين ممن تابعوا دراستهم في دمشق وبغداد.

وستعتبر القيادة القومية للبعث في بغداد، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمثابة فرع لها في أقصى الوطن العربي. وظلّ الأستاذ عبدالله ابراهيم رئيس الحكومة السابق والأمين العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، يُستقبل رسمياً كرجل دولة في عاصمة الرشيد. كما عاملت بغداد حزب الاستقلال كحليف مقرب. وبهذه الصفة والعلاقة، استفاد الاستقلاليون من “هدايا” وعطاءات عراق أحمد حسن البكر وصدام حسين، كما جاء في كتاب “المنظمة السرية” للكاتب والصحفي العراقي البعثي المنشق حسن العلوي.

وتلقى الاتحاديون مساعدات مادية ومنحاً وفيرة من حزب ميشيل عفلق، مؤسس البعث الذي سبق له زيارة المغرب ضيفاً على المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية (1962). وهي مساعدات موجهة لتطوير الإعلام الحزبي ولمطبعة الحزب (دار النشر المغربية).

وقد حضر صحفيون من سوريا ولبنان لمتابعة المؤتمر، تم استقطابهم من طرف المخابرات المغربية بسهولة، مقابل إغراءات مادية، فنقلوا إليها كل أسرار المؤتمر ولقاءاتهم مع قادة الحزب المغربي المعارض. وبعد نهاية المؤتمر، سافروا إلى باريس للسياحة والاستجمام (!) قبل عودتهم إلى ديارهم في المشرق.

في انتخابات 3 حزيران/جوان 1977 التشريعية، تم الحديث عن تمويل عراقي للحملة الانتخابية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وذكر المفكر الإيراني إحسان ناراغي في كتابه “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة” (دار الساقي، لندن – 1997) أن القيادي الاتحادي المغترب مولاي المهدي العلوي كان يتلقى عمولة ونسبة خاصة عن كل سيارة من نوع “بيجو” الفرنسية تباع في العراق. كما تحدث دبلوماسي عراقي كان وزيراً للخارجية، في حوار مطول نشرته يومية “الزمان” اللندنية، عن تلقي قياديين اتحاديين بارزين مساعدات وهبات مالية كبيرة، وذكر اسم الفقيه البصري.

***

ذات يوم من بداية سنة 1980، وكنت مسؤولاً عن صفحة المنوعات الأخيرة في جريدة “المحرر”، أقدمتُ على نشر بيان موقع من طرف مثقفين عرب في لبنان وخارجه، يندّد ويشجب اختطاف واغتيال نظام صدام لمفكرين شيوعيين، أحدهما كان الدكتور صفاء الحافظ. وآسف فقد نسيت اسم الشهيد الثاني. لما طالعت البيان في جريدة “السفير” البيروتية التي كانت تصلنا أعدادها متأخرة، قمت بقص البيان من “السفير” وألصقت صورته بالصفحة الأخيرة من “المحرر”. في الغد، قامت القيامة، لقد احتجت السفارة العراقية في الرباط “احتجاجاً شديد اللهجة” كما في لغة الديبلوماسيين، وتم دعوة عبد الرحيم بوعبيد وأعضاء من المكتب السياسي إلى دارة السفير العراقي، وقد جاء السفير وبيده ملف سجل به ملاحظات ومؤاخذات مع قصاصات نشرت في “المحرر”، لم يكن الإخوة العراقيون راضين عنها، ومنها مقال موقع من طرف إدريس الخوري، يتحدث فيه عن الشاعر العراقي الشيوعي سعدي يوسف بعد اضطراره لمغادرة وطنه، يتضامن صاحب “حزن في الرأس وفي القلب” مع الشاعر الكبير وكتب ما معناه: “وها هو سعدي يوسف يعود تائهاً في الشتات والمنافي”. وهي قصاصات قال عنها السفير العراقي أنهم سجلوها و”لم تستدع منهم كل هذا الاحتجاج القوي الذي خلفه بيان التنديد بإعدام اثنيين ينتميان إلى الحزب الشيوعي المحظور” (!). كان الدكتور صفاء الحافظ يدير مجلة “الثقافة الجديدة”. ومن بين الموقعين على بيان بيروت التنديدي، أدونيس وطلال سلمان وإلياس خوري.

كان الاتحاديون ممن “يأكلون الغلة ويسبون الملة”، يأخذون أموال وعطاءات البعث، ويستفيدون من رحلات إلى بغداد على متن الخطوط الجوية العراقية، وغالباً ما يتم تحويل رحلاتهم من بغداد إلى باريس

 وقد قام عبد الرحيم بوعبيد الديبلوماسي القديم، إذ عمل في بداية الاستقلال سفيراً للمغرب بباريس، بتهوين الأمر، وخاطب الديبلوماسي العراقي، الذي خلع قبعة السفير وارتدى “بيريه” المناضل البعثي، فأوضح له أن مواقف الحزب، التي يجب نقاشها ومحاسبته عليها، واضحة، وهي التي تصدر عن المكتب السياسي وقادته، وأن الأمر مجرد خطأ ارتكبه عن غير قصد صحفي شاب صغير ليس غير. وقد نقل لي المرحوم عبد الله بوهلال ما حصل من دون مؤاخذة أو حتى مجرد تنبيه.

***

ذات مرة، تلقت “المحرر” دعوة لحضور أحد المؤتمرات في بغداد، فبعثت الزميل عبد الجليل باحدو، الذي يحكي أنه لما وصل إلى المطار لم يعرف إلى أي مؤتمر سيتوجه، لأن أكثر من عشرين مؤتمراً يعقد في الوقت نفسه.

وقد اغتنم فرصة تواجده بالعاصمة العراقية ليقوم بزيارة باحث اقتصادي شيوعي هو الدكتور كاظم حبيب، ولأنه يعرف أن الأمر فيه بعض المخاطرة، فقد قام عبد الجليل باحدو بمراوغة مرافقه وتسلل عبر أكثر من شارع، حتى وصل إلى بيت كاظم حبيب، وفوجئ بالبوليس السري هناك أمام باب الباحث الاقتصادي. لما عاد مبعوث “المحرر” إلى الفندق، طُولب بدفع حساب إقامته، برغم أنه وصل ضيفاً. وقد كان حلاً هيناً، إذ كان من الممكن أن يكون الأداء بحساب آخر، لا قدر الله.

كان الاتحاديون ممن “يأكلون الغلة ويسبون الملة”، يأخذون أموال وعطاءات البعث، ويستفيدون من رحلات إلى بغداد على متن الخطوط الجوية العراقية، وغالباً ما يتم تحويل رحلاتهم من بغداد إلى باريس. والتزويد بزجاجات الويسكي من نوع “أولد بار” مع السجائر الأمريكية “روثمان”، كان يصل باستمرار إلى قيادة الاتحاد، وإلى بعض صحفيي الجريدة. لكن الاتحاديين فيما بينهم كانوا لا ينظرون بتقدير لسياسة البعث وقمعه الدموي، وكان الصحافي والكاتب إدريس الخوري مثلاً، لا يتوقف عن وصف بعض العراقيين وصف “العُرورة”، تحويراً للفظة “العروبة”، والقصد عنده العنجهية والبداوة.

***

اما رفاق الفقيه البصري من حركة 3 آذار/مارس 1973، فقد تدربوا على الثورة وحرب العصابات في معسكر الزبداني بضواحي دمشق، على يد ضباط من الجيش العربي السوري يساعدهم ضابط مغربي خريج الكلية الحربية في دمشق هو المناضل امحمد التوزاني، مؤلف كتاب “ثورة لم تكتمل”(2019)، ومن المناضلين الذين مروا بالزبداني أذكر الشهداء محمود بنونة وابراهيم التزنيتي وعمر دهكون، والمرحوم أحمد بنجلون وتوفيق الإدريسي والعربي عجول ويزيد البركة وملوك الشافعي والطاهر الجميعي وعبد الرحمان شوجار. وكان عدد كبير من كتائب معسكر الزبداني المغاربة، هم طلاب يدرسون في سوريا والعراق والجزائر واوروبا الغربية والاتحاد السوفييتي، ولم يتم الكشف عنهم.

وأعتقد أن من تأثر أكثر باليسار اللبناني وباليسار الفلسطيني في لبنان، هم الرفاق في منظمة العمل الشعبي الديمقراطي، ويكفي أن تسمية قدماء حركة “23 مارس”، عند انتقالهم للعمل في نطاق الشرعية، اقتبسوها من منظمة العمل الشيوعي في لبنان. كما سيقتبس المحامي الاتحادي خالد السفياني عضو المؤتمر القومي العربي، من تسمية الفريق النيابي لحزب الله في البرلمان اللبناني “الوفاء للمقاومة”، تسمية التيار الذي اجتمع داخله منشقون من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد المؤتمر الوطني السادس للاتحاد (2002)، وهي جمعية “الوفاء للديمقراطية”.

تسمية قدماء حركة “23 مارس”، عند انتقالهم للعمل في نطاق الشرعية، اقتبسوها من منظمة العمل الشيوعي في لبنان

على نفس المنوال، سميت “المحرر” التي توالى على إدارتها محمد الحبيب الفرقاني وابراهيم الباعمراني وعمر بنجلون ومحمد اليازغي، وكانت لساناً للاتحاديين، اقتباساً من يومية بيروتية لعبت دوراً هاماً في الستينييات وسط الحركة التقدمية اللبنانية، وأصبحت منبراً للحركة الوطنية. واسم “البلاغ المغربي” لمحمد بنيحيى من مجلة بنفس الاسم تأسست في مطلع السبعينيات، وتوقفت بعد سنوات، بسبب الحرب الأهلية، وكان محمد باهي مراسلاً لها من باريس، و”البلاغ” اللبنانية هي المنبر الوحيد الذي نشرت به رسالة الفقيه محمد البصري إلى المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، تلك الرسالة الطويلة التي تم التعتيم عليها.

إقرأ على موقع 180  الإنتخابات و17 تشرين: تحدي الذات والسلطة

***

كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عضواً بارزاً في الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية، التي تأسست في لبنان سنة 1973 وترأسها الشهيد كمال جنبلاط. وبعد إعلان المؤتمر القومي العربي (من تونس سنة 1990)، كان للمغاربة حضورهم الواضح يتقدمهم مناضلون من الاتحاد الاشتراكي ومن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، أبرزهم محمد البصري الفقيه. وقد تولى المحامي المغربي خالد السفياني فترة رئاسة المؤتمر القومي العربي.

***

خلال اندلاع “ثورة 17 تشرين” العام الماضي، تمكنت من حضور ومعاينة زخم الثورة التي تسري في أوصالها دماء الشباب اللبناني الناهض، مع حضور لافت للإناث وللعائلات رفقة صغارهم. في ساحة الشهداء وسط بيروت، لمست أيضاً عن قرب ضعف التأثير اليساري ككيان وتنظيم، برغم أن العديد من اليساريين كانوا في المقدمة بصفتهم الخاصة. ولما سألت عن الحزب الشيوعي اللبناني، ردّ عليّ مُحدثي أن تأثيره تراجع كثيراً بسبب ارتهانه لحزب الله، وهذا الأخير كانت قيادته ضد الثورة صراحة. مع ذلك، جاء أفراد من شبيبة الشيوعي من ذوي المواقف المتميزة والمختلفة عن قيادة الحزب. وحضرت شعارات وهتافات اليسار ورايات اليسار ورموزه العالمية، من تشي غيفارا إلى المهدي بنبركة. ورأيت خيمة الشباب الشيوعي شبه فارغة.

مما لا يفهمه المتتبعون في المغرب من اليساريين، هو أن التنظيمات الشيوعية في لبنان أصابها الوهن وتفرق أعضاؤها على التنظيمات الطائفية، حسب طائفة كل واحد، خصوصا بعد انهيار جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفييتي

 في أحد “مساءات الثورة”، حيث كانت تنعقد مجموعة حلقات نقاش كبيرة، قادتني صديقتي عالمة الاجتماع  والكاتبة دلال البزري إلى خيمة منظمة العمل الشيوعي اللبناني، بساحة اللعازارية المطلة على ساحة الشهداء، وقدمتني لبعض من كانوا جالسين بها وأغلبهم من قدماء وشيوخ المنظمة. ودلال البزري كانت من أطر منظمة العمل الشيوعي، وقد روت سيرتها بهذا الشأن في كتاب لها صدر عن دار التنوير تحت عنوان: “سنوات السعادة الثورية” (2016). وسمعت أن المنظمة أصبحت في ذمة التاريخ، بعد مغادرة العديد من مناضليها وأطرها، مثل فواز طرابلسي وأحمد بيضون ووضاح شرارة ودلال البزري ونصير الأسعد وفؤاد عبد الساتر وسعود المولى، وأسماء أخرى كثيرة. وبقي أمينها العام أبو خالد مستمراً في رئاستها منذ التأسيس سنة 1970، وهو طريح الفراش، لا أعرف كيف كانت تصله أصداء ثورة 17 تشرين/أكتوبر. لكن المنظمة كانت تستعد لعقد مؤتمرها وإجراء بعض التعديلات على توجهها السياسي والإيديولوجي كذلك.

مما لا يفهمه المتتبعون في المغرب من اليساريين، هو أن التنظيمات الشيوعية في لبنان أصابها الوهن وتفرق أعضاؤها على التنظيمات الطائفية، حسب طائفة كل واحد، خصوصا بعد انهيار جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفييتي.

***

منذ نهاية السبعينيات، أصبح هناك حضور لافت للكتابات السياسية والفكرية والأدبية للمغاربة في المنابر اللبنانية، مثل مجلة “دراسات عربية” و”مواقف”. بالمقابل، صار هناك حضور نوعي ولافت للإنتباه لإنتاجات الكتاب والمفكرين والمبدعين المغاربة في دور النشر اللبنانية.

لقد تعرف القارئ العربي لأول مرة على اسم المفكر المغربي عبد الله العروي من خلال كتابه المترجم إلى العربية “الايديولوجية العربية المعاصرة” والصادر سنة 1970 عن “دار الحقائق” في بيروت. وقبله كان بشير الداعوق سباقاً إلى نشر “الاختيار الثوري” للمهدي بنبركة، في دار الطليعة، مباشرة في العام الذي تلا اختطاف زعيم اليسار المغربي في باريس في 1965.

أما المفكر محمد عابد الجابري، وبرغم نشر أطروحته عن ابن خلدون بالدار البيضاء، فإنه لم يثر الانتباه إليه إلا بعد نشر كتابه “نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” في بيروت سنة 1980، ليتتالى بعدها نشر كتبه من قبل مركز دراسات الوحدة العربية بلبنان.

في السبعينيات، نشرت دار ابن خلدون البيروتية كتاباً بعنوان “الصراع الطبقي في المغرب”، تضمن عدة دراسات وأبحاث أعدها مناضلون يساريون من حركتي “إلى الأمام” و”23 مارس” الماركسيتين، والمقال الوحيد الذي كان موقعاً كان للناقد والأديب ابراهيم الخطيب. كما أصدرت “حركة 23 مارس” كتاباً نشر في بيروت يوضح موقفها من قضية الصحراء المغربية، تضمن مقالات وبيانات.

وعبر إصدارات دور الفارابي وابن خلدون والطليعة وغيرها، قرأنا في المغرب الأدبيات الاشتراكية والماركسية في اللغة العربية.

وظل ما يصدر في لبنان من مواقف سياسية وفكرية تقدمية، وما ينتجه من أفكار وإبداع، يجد صداه القوي وإشعاعه البين في الأوساط اليسارية والثقافية في المغرب. مجلة “الثقافة الجديدة” لمحمد بنيس لم تكن سوى محاولة لإعادة تجربة أدونيس في “مواقف” شكلاً ومضموناً.

وحضر لبنان باستمرار بمدنه وقراه وشهدائه وبمخيمات الفلسطينيين، في الكتابات الأدبية وقصائد الشعراء المغاربة، من بيروت إلى تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، ومن كمال جنبلاط وحسين مروة إلى مهدي عامل. تم رثاؤهم وتمجيد استشهادهم في أشعار أحمد المجاطي وأحمد الجوماري وأحمد بنميمون ومحمد بنيس وعبد اللطيف اللعبي ومحمد الطوبي وعبد الله راجع ومحمد بنطلحة.. وسواهم.

شخصياً لا استبعد أن يكون صاحب الكلمات شاعراً لبنانياً، لم ير بأساً أو غضاضة في تحويل “نشيده” إلى بلد الأرز بعد أفول جمهورية عبد الكريم الخطابي ونهايته أسيراً ومنفياً في القاهرة

والنشر في مجلة “الآداب” اعتبر تأشيرة مرور لدنيا الأدباء المكرسين. وقد اهتم سهيل إدريس بالمغرب، وخصّص أكثر من عدد لنشر ملفات عن الأدب المغربي.

أما  محمد بنعيسى، (وزير الثقافة ووزير الخارجية المغربي السابق)،  فقد لعب على مدى أكثر من أربعين سنة، دوراً مهماً في استقطاب المثقفين والمبدعين والإعلاميين المشارقة، والسياسيين أيضا، وعلى رأسهم اللبنانيين، إلى المغرب لحضور موسم أصيلا. منهيا بذلك قطيعة معرفية طالت أكثر من الجانب المشرقي.

في نفس الفترة في نهاية السبعينيات، أتى الشاعر بول شاوول من بيروت، وأجرى مقابلات مع عدد من مفكري وأدباء المغرب، نشرت في مجلة “المستقبل” الباريسية، قبل أن تجمع في كتاب عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في لبنان.

***

أختم بقصة النشيد الوطني اللبناني “كلنا للوطن”. فقد أثير في السنوات الأخيرة موضوع “سرقة” النشيد، لحناً وكلمات، من نشيد مغربي قديم، كان زعيم ثورة الريف في المغرب، عبد الكريم الخطابي، اعتمده نشيداً لجمهوريته الناشئة التي أسسها في شمال المغرب، وانتهت عام 1926. وفي وقت لاحق من السنة نفسها (1926)، ظهر النشيد نفسه نشيداً رسمياً للدولة اللبنانية. وكانت هذه القصة موضوع برنامج قناة أوروبية، وقد فوجئ الشارع اللبناني بالقصة. ولا زلت أذكر جواب امرأة لبنانية مغبونة لمّا ردت على مراسل القناة الفرنسية: “هو فيه حاجة مش مسروقة عندنا.. لقد سرقونا وسرقوا لبنان كله”!

شخصياً لا استبعد أن يكون صاحب الكلمات شاعراً لبنانياً، لم ير بأساً أو غضاضة في تحويل “نشيده” إلى بلد الأرز بعد أفول جمهورية عبد الكريم الخطابي ونهايته أسيراً ومنفياً في القاهرة.

ما يفيد أن ثمة وشائج كثيرة وقوية تربط ما بين طرفي البلاد العربية من أقصى مغربها إلى مشرقها. وشائج وروابط الهوية والدم والمصير. روابط لا يمكن لها إلا أن تتقوى وتزيد تحت أنغام النشيد الفيروزي الذي غنّته السيدة فيروز ويعتز به الشعب المغربي كل الاعتزاز:

(من وطني تحية الرجولة إلى شواطئ المغرب الأبية

إنهم الأبطال والبطولة تكاد أن تكون مغربية

حدثني الزمان عن السفن إلى المدن تجيء من المدن

تحمل عبر بلدين وبين قمرين مجدًا وعنفوان

شعب أبيّ يدور في الأوطان يهفو إلى شعب أبيّ

يقول صوب المغرب نُبحر من لبنان).

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  تقدير إسرائيلي: حزب الله يواجه "الإنهيار" بتعزيز قبضته لبنانياً