الضعف السياسي والإقتصادي الذي يجد العرب أنفسهم فيه منذ إستقلال دولهم له أسباب عدة، بعضها خارجي وبعضها الآخر داخلي. في البعد الخارجي، سخّر الغرب تفوّقه التكنولوجي والعسكري والإقتصادي – مصحوباً بالتلاعب على ما يسمّى القانون الدولي ومبادىء حقوق الإنسان والديموقراطيّة – ليُصبح أداة هيمنة سياسيّة-إقتصاديّة. ونتج عن ذلك أن معظم العالم غير قادر على وقف النهب الغربي الممنهج لثرواتهم (بما في ذلك الثروة البشريّة). ومن دون شكّ، يلعب هذا النهب دوراً أساسيّاً لا يمكن تجاهله في استمرار التفوّق الغربي وهامش البحبوحة والحريّة التي يتمتّع بها المجتمع الغربي مقارنةً ببقيّة العالم.
في البعد الداخلي، ثمة عاملان أساسيّان ساعدا في تفشّي ظاهرة الضعف في العالم العربي، فأنتجت عند البعض حالة من اليأس وتقبّل الواقع المهين خوفاً مما هو أسوأ. العامل الأوّل؛ حالة التشرذم والتنافر بين العرب والتي جعلتهم غير قادرين على التوحّد وراء استراتيجيّة ناجعة لمواجهة سياسات الغرب وأطماعه. العامل الثاني؛ حالة ضعف القدرات الإقتصاديّة والبشريّة، إلاّ عند بعض الدول القليلة طبعاً، أو تفويتها عبر سياسات غير حكيمة أو فاسدة، وأدى هذا الضعف إلى الفشل في خلق اقتصاد ناجح ونظام سياسي سليم ومجتمع واعِ للتحدّيات التي نواجهها (بإستثناء حالات ونماذج إستثنائيّة نجحت في واحدة من هذه الأمور وليس بالضرورة فيها كلّها).
علينا تبنّي استراتيجيّة مفادها أنّ الخلافات الداخليّة ضروريّة ويستحيل تجنّبها، وأنّ الوحدة في وجه أطماع الغرب والصهيونيّة إجباريّة ومن المستحيل أن يكون لنا قيامة من دونها
مقابل حالة التشرذم والتنافر بين العرب وتفويت القدرات أو ضعفها، نجد توحّد الغرب وكيفية اقتناصه الفرص. لكن ليس بصحيح أنّ الغرب متّحد في كلّ شيء. هم فقط متّحدون فيما يخصّ سلوكهم المشين حيال بقيّة العالم ولا سيما لجهة نهب الثروات وقمع الديموقراطيّة والحريّات.. وكأنّ لسان حال الغرب أنّ هذه “الكماليّات” هي فقط لأهل الغرب.. وأي شيء لا يريده الغرب أو يزعج خاطره تنبري إرادة سياسيّة غربيّة موحدة لقمعه أو شيطنته أو القضاء عليّها.
بمعنى آخر، لا يتّحد الغرب إلاّ ضدّ غيره. أمّا في داخله، فنجد خلافات عميقة يمكن أن تؤدّي إلى انهياره (كما في الولايات المتّحدة مع نمو ظاهرة اليمين العرقي المتطرّف، وهي ظاهرة تجتاح أوروبّا أيضاً). وكذلك الأمر مع الكيان الصهيوني الفاشي الذي لا يتّحد إلاّ ضدّ أهل فلسطين ومن يقاوم إسرائيل حول العالم. أمّا داخل هذا المجتمع المنغلق على نفسه، فإنهم دائماً على خلاف، ويكون عميقاً في الكثير من الأحيان.
وليس صحيحاً أنّ العرب لا يتّفقون بين بعضهم البعض على أي شيء. هم لا يتّفقون في ما يخصّ مصالحهم المشتركة. لكنّهم متّفقون على التبعيّة للغرب (سياسيّة كانت أم ثقافيّة أم إقتصاديّة أم عسكريّة). وهذا ليس بالضرورة بإرادتهم الكاملة، بل فيه بعض من الإرادة، وهو أيضاً نتاج نظام استغلالي فرضه الغرب على بقيّة العالم الذي ما زال عاجزاً (نتيجة حالة الخلاف والتشرذم التي ينتهجها الغرب ويُغذيّها) عن خلق بديل لذلك (وسنرى ما إذا كان بإمكان مجموعة البريكس (BRICS)، التي هي الآن في طور التوسّع، أن تصنع بديلاً عن النظام الغربي وإذا ما كان هذا البديل أفضل أم لا).
لماذا لا يمكن للعرب أن ينتجوا استراتيجيّة للوحدة مشابهة لتلك التي ينتهجها الغرب أو الصهيونيّة الفاشيّة ضدّهم؟ لماذا لا يمكنهم أن يتّحدوا ضدّ غيرهم من دون أنّ يُلغي ذلك التناقضات في ما بينهم؟ هل لأنّ مفهوم العروبة هو مفهوم غريب عنهم أو أضعف من أولويّات عرقيّة أو دينيّة أخرى؟ هل وطنيّتهم أهمّ من قوميتهم (عروبتهم)؟ هل لذلك علاقة بالإسلام السياسي؟ هل هذا الضعف هو نتاج التخلّف أم العنجهيّة أم الطبقيّة أم الطائفيّة أم ضيق الأفق؟
ليس الهدف من طرح هذه الأسئلة تعداد عوامل الضعف في عالمنا العربي. الهدف الأهمّ هو الإعتراف بحالة الضعف واستخدام الفرصة السانحة من أجل أن لا نكرّر الأخطاء السابقة حيث كان نقاش الخلافات أهمّ من حلّها. هناك ضرورة لأنّ نعترف بالخلاف بيننا كمدخل أساسي لإيجاد أرضيّة حوارية حول كيفيّة الخروج منه، بدل الغرق في رماله المتحركة.
نعم، الخروج من حالة الضعف تتطلّب أن نبدأ بالإعتراف بالفروقات بيننا كعرب، وأنّ هذه الفروقات مهمّة لنا كأهميّة العروبة أو أكثر. وأنّ الإنتماء العرقي أو الديني أو الوطني أو الطبقي أو .. لا يجب أن يتناقض مع الإنتماء إلى العروبة. بمعنى آخر، يجب علينا أن نعترف أنّ هويّاتنا معقّدة وأنّ إنتماءاتنا متنوّعة، وأنّ هذه الأمور مجتمعةً يمكن أن تكون ثروة لنا بدل أن تكون نقمة وسبب شقاق وتقاتل داخلي.
من دون شكّ، لعب الغرب على هذه التناقضات واستخدمها للهيمنة علينا. والصهيونيّة الفاشيّة أيضاً استخدمت وتستخدم الخلافات بين الفلسطينيّين والعرب من أجل وأد القضيّة الفلسطينيّة وقتل وتشريد من لم تقدر بعد على قتلهم وتشريدهم.
إذاً، مخرجنا أن نتّحد من دون أن نتوحّد.
النوايا فقط لا تنفع إذا لم تقترن بالأفعال. كانت للكثيرين من العرب نوايا صادقة حيال القضيّة الفلسطينيّة. وكان لبعض العرب تاريخ ناصع في الصراع بجانب القضيّة الفلسطينيّة. لكن النتيجة كانت نجاحات قليلة وهزائم كثيرة. النوايا لم تنفع لأنّه لم يكن هناك توازن بين نوايا العرب وقدراتهم الفعليّة وبين نوايا الصهاينة وقدراتهم الهائلة المدعومة من الغرب.
ما يحصل الآن في فلسطين هو كارثة، والكارثة أيضاً هي فرصة لا يجب تفوّيتها لبدء حوار عربي يهدف لإنشاء استراتيجيّة مشتركة تأخذ مصالحنا كأساس للعلاقة مع الغرب وتساعد على تقليص إعتمادنا الكبير عليه، لعلّ ذلك يخلق توازناً بيننا وبينه ما زلنا نتمنّاه وما زال بعيداً عنّا
أستحضر هنا قصيدة عنوانها “توازن” للشاعر الفلسطيني الراحل طه محمّد علي، يقول فيها:
“في سنة 48
كُنا نملك ثَوْراً
شهماً
له قرنان
كباقي الثيران،
وكان لديهم “تراكتور”
عادي
له جنزير
كباقي التراكتورات”!
كم هي عميقة وبسيطة هذه الكلمات. بلا فذلكات للأسباب التي أدّت إلى هزيمة أهل فلسطين في حرب العام 1948. كانت قدرات الصهاينة أضخم من قدرات الفلسطينيّين، بشكل حتّم الهزيمة وخلق النكبة. ومن دون شكّ، هذا الفارق في القدرات بين الصهاينة وأهل فلسطين والعرب عامّةً كان سببه الاستعمار والهيمنة الغربيّة، التي سلبت الفلسطينيّين والعرب من أي قدرة عسكريّة أو سياسيّة أو إقتصاديّة فعليّة في مواجهة الأطماع الصهيونيّة وآلة القتل والتهجير التي انتهجها وينتهجها المشروع الصهيوني الفاشيّ.
وليس هدف كلامي هو التخوين. على العكس الكامل من ذلك، القوّة السياسيّة وما يرافقها في ميادين أخرى تتطلّب التوقّف عن التخوين وفصل الخلافات الداخليّة عن الخلافات الخارجيّة. علينا تبنّي استراتيجيّة مفادها أنّ الخلافات الداخليّة ضروريّة ويستحيل تجنّبها، وأنّ الوحدة في وجه أطماع الغرب والصهيونيّة إجباريّة ومن المستحيل أن يكون لنا قيامة من دونها.
ما يحصل الآن في فلسطين هو كارثة، والكارثة أيضاً هي فرصة لا يجب تفوّيتها لبدء حوار عربي يهدف لإنشاء استراتيجيّة مشتركة تأخذ مصالحنا كأساس للعلاقة مع الغرب وتساعد على تقليص إعتمادنا الكبير عليه، لعلّ ذلك يخلق توازناً بيننا وبينه ما زلنا نتمنّاه وما زال بعيداً عنّا.