قبل أيام صعّدت باريس موقفها تجاه التدخلات التركية في ليبيا، واصفة إياها بـ “غير المقبولة ” وانها ” سياسة أكثر عدوانية بعد انتهاك الحظر المفروض على التسليح والمناورات العسكرية الاخيرة مع نشر سفن حربية تركية قبالة السواحل الليبية “.
قررت باريس التي كانت تحرك المشهد عبر شركاء لها في ليبيا وشرق المتوسط وشمال افريقيا الخروج من وراء الستار ودخول المبارزة المباشرة من اجل الدفاع عن مصالحها المهددة بالسقوط في تلك المناطق .
من بين ما دفع الاليزيه لشهر سيف المواجهة:
الانتصارات التي تسجلها انقرة وحلفاؤها المحليون والاقليميون في هذه الملفات والتي تخرج فرنسا تماما من المشهد بعد سنوات طويلة من التحضير لادارة اللعبة في مسائل التنقيب عن الطاقة واستخراجها ونقلها من منطقة شرق المتوسط عبر تكتل ” منتدى الغاز السباعي”، الذي اشرفت على صناعته بعيداً عن المصالح التركية والروسية والاميركية.
ثم سقوط مشروع الاستقواء بالاتحاد الاوروبي في مواجهة الانقضاض التركي على هذه الملفات بعد اكتشاف انقرة انها المستهدف الاول هناك لناحية الاضعاف والتهميش والعزل وبعدما ناورت باريس بالورقتين اليونانية والقبرصية دون فائدة .
خيبة الامل في رهان فرنسا على خليفة حفتر ليعطيها ما تريده من ثقل في ليبيا بعد التدخل العسكري التركي الواسع لصالح حكومة الوفاق الشرعية، والذي تركته وحيدا في مواجهة بيانات المنظمات الانسانية والقانونية التي تدعو الامم المتحدة ومجلس الامن للتحرك السريع في الكشف عن جرائم القتل الجماعي والابادة وزرع الالغام في المدن والابنية انتقاما من هزيمته في ترهونة ولتجنب خسارة مدينة سرت التي تريد قوات الوفاق الدخول اليها .
غضب الاعلام الفرنسي من خلال تقارير وانباء وتحليلات يومية تنشر حول تركيا في ليبيا وشرق المتوسط متجاهلة التحذيرات الإيطالية واليونانية والمصرية والاماراتية والتي تعكس حقيقة ادارة باريس للاصطفاف الجديد ضد انقرة بعد فشل وتراجع سياساتها ونفوذها في المنطقة ومحاولة استرداد بعض ما فقدته عبر الشركاء الجدد او تحريك الاتحاد الاوروبي او التلويح باللجوء الى حلف الاطلسي .
رسالة واشنطن التي تستعد لمطاردة روسيا في ليبيا عبر مجموعة ” فاغنر ” التي تشكل تهديداً للمصالح والأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، قد تعني روسيا اولاً ، لكنها تعني العواصم المحسوبة على الولايات المتحدة وفي مقدمتها باريس التي تلوح بشراكة فرنسية- روسية في ليبيا . واشنطن تعرف ربما أن الذي افشل المحادثات التركية الروسية هي العروض الفرنسية المغرية المقدمة لموسكو على حساب تفاهماتها مع انقرة .
الاتصالات التي تجريها انقرة مع واشنطن وموسكو وبرلين وحلف شمال الاطلسي تغضب باريس حتما لانها تستثنيها وتتعارض مع ما تريده للسياسة التركية الاقليمية في ليبيا وشمال افريقيا وشرق المتوسط .
خيبة امل ماكرون سببها أيضاً أنه لا يرى أحدا الى جانبه وهو يتهم تركيا بالتحرك الاستفزازي ضد المصالح الفرنسية الاقليمية لا بل يرى قيادات الاطلسي تصطف الى جانب تركيا في الملف الليبي وفي مواجهتها مع روسيا وحفتر ويلوح بالبحث عن حقوقه داخل الحلف الذي كان قد اتهمه قبل اشهر بالموت الدماغي .
الغضب الفرنسي مرتبط حتما بالتصعيد الاميركي الواضح ضد المواقف والمصالح الفرنسية في ليبيا التي تريد بناء تكتل اقليمي مع عواصم مقربة لواشنطن واستخدامها كورقة ضغط فرنسية ضد انقرة في ليبيا وشرق المتوسط .
فرنسا لم تعد تلك الدولة الاستعمارية القادرة على حماية مصالحها والدفاع عما تقول دون دعم اقليمي ودولي لها. مشكلتها الاكبر هي رهانها على لاعبين محليين واقليميين ضعفاء بالمقارنة مع التكتل الذي بنته تركيا في ملفات شمال افريقيا وشرق المتوسط . حجم المأزق الفرنسي تعكسه حالة الحشد والتعبئة الاقليمية التي اعدت لها باريس، ثم وجدت نفسها تذهب وراء روسيا لتعوض خسائرها بسبب الضربات الاستراتيجية التركية .
فرنسا لم تعد تلك الدولة الاستعمارية القادرة على حماية مصالحها والدفاع عما تقول من دون دعم اقليمي ودولي لها.
يعتبر الجناح المصطف وراء تبني المواقف الفرنسية ان اردوغان “لن يحقق أية نتائج إيجابية في ليبيا لأنه يلعب دوراً يفوق قدرة اقتصاد تركيا على التحمّل، وأدخل بلاده في متاهات سياسة تزعج أوروبا وتسيء مباشرة إلى مصالح دولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي هما اليونان وقبرص “.
انقرة تعرف ان باريس قادرة على ايجاعها في اكثر من مكان في سوريا عبر لعب الورقة الكردية والتنسيق مع العواصم العربية التي لها خلافات واسعة مع تركيا مثل مصر والامارات والسعودية . ولن يفوت انقرة حتما أن تصاعد التوتر التركي الفرنسي على هذا النحو في شمال افريقيا وشرق المتوسط قد يعطي تركيا ما تريده هناك لكن ثمنه سيكون ايقاظ انقرة من حلم الالتحاق بعضوية الاتحاد الاوروبي امام العقبة الفرنسية اليونانية والقبرصية.
هي تحذيرات مهمة لانقرة لكي تتنبه وتراجع سياساتها لأن من تواجهه هو فرنسا الدولة الكبرى والغنية والتي لا يهمها الكلفة المادية في النزاعات للوصول الى ما تريده، لكن المخيب هو تبني مقولة انزعاج البعض في اوروبا من السياسات والمواقف التركية والمقصود هنا هو فرنسا التي تقود عملية اصطفافات عربية اوروبية ضد تركيا منذ اعوام بسبب العقود والتفاهمات الاستراتيجية الاقليمية التي تعقدها مع روسيا واميركا وتعرقل حسابات وخطط باريس في حلم العودة الى شرق المتوسط والشرق الاوسط .
لا تخفي فرنسا حقيقة ان تنامي الدور التركي في شمال افريقيا سيدفعها الى خسارة رهانها على التمدد والانتشار الاستراتيجي هناك والمرتبط بسياسة الهيمنة الفرنسية على خطط الطاقة في شرق المتوسط
نشرت صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية مقالا حول سياسة تركيا الاقليمية رأت فيه أن الرئيس رجب طيب اردوغان نجح في تحريك بيادقه في ليبيا بشكل منهجي وفي الوقت المناسب بالتفاهم مع الرئيس الروسي وأن التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا يبقى حتى يومنا هذا أخطر أخطاء السياسية الخارجية الفرنسية منذ قيام نظام الجمهورية الخامسة: ” نحن لم نخلق فقط فوضى تشكو منها اليوم كل الدول المغاربية والساحلية، بل منحنا أيضا ملعباً ذهبياً لأكبر منافس لنا في البحر الأبيض المتوسط رجب طيب أردوغان “.
في المقابل نُقل عن مصادر سياسية ليبية إن تحالفا روسياً فرنسياً في ليبيا بصدد التشكل، وهي الخطوة التي تعرقل رهان أنقرة على عقد اتفاق مع موسكو يمكّنها من السيطرة على سرت. يبدو أن فرنسا بدأت الاصطفاف مع روسيا ضد تركيا وحقيقة ضد الولايات المتحدة…أية التحليلات سنصدق وايهما الاقرب الى المنطق والواقعية؟
باريس تحاول عرقلة احتمال حدوث اي تفاهم ثلاثي تركي اميركي روسي في ليبيا لانها تدرك انها ستكون الخاسر الاكبر رغم الاصطفاف الخماسي الذي بنته في القاهرة ضد تركيا، وهي قلقة بسبب فشلها في اقناع تل ابيب وروما بالالتحاق بالتحالف الاقليمي الجديد هذا.
مشكلة ” كي دورسيه” هي الرسائل الاسرائيلية والالمانية والبريطانية الاخيرة الداعمة للموقف الاميركي في ليبيا وشرق المتوسط بعد اتفاقية ترسيم الحدود المائية بين أنقرة وطرابلس وإعادة رسم الخرائط والتحاصص المائي الذي يزيد من حصة كل دول الجوار المائي في شرق المتوسط على حساب اليونان .
باريس غاضبة حتما بسبب السلوك الاقليمي التركي والدليل هو ما اعلنته الرئاسة الفرنسية أنّ “الأتراك يتصرفون بطريقة غير مقبولة عبر استغلال حلف شمال الأطلسي، ولا يمكن لفرنسا السماح بذلك”. لكن باريس تريد أيضا الاستفادة من تضارب المصالح والنفوذ بين انقرة وموسكو وواشنطن والهدف هو في النهاية اضعاف الموقف التركي في ليبيا وابقاء سرت تحت سيطرة مجموعات حفتر، وهذه هي فرصتها الوحيدة في الوصول الى ميناء المدينة لتحويله الى بوابتها الافريقية الجديدة .
لا تخفي فرنسا حقيقة ان تنامي الدور التركي في شمال افريقيا سيدفعها الى خسارة رهانها على التمدد والانتشار الاستراتيجي هناك والمرتبط بسياسة الهيمنة الفرنسية على خطط الطاقة في شرق المتوسط بالتنسيق مع القاهرة واثينا وتل ابيب . لذلك نسمع ان الخارجية الفرنسية تستعد للتقدم بشكوى ضد انقرة الى الحلف الاطلسي رغم معرفتها بحجم الدعم الاميركي للموقف التركي هناك . هدفها هو تبرير سياسة الانفتاح على موسكو والتفاهم معها على مدينة سرت وتقاسم النفوذ . فهل تنطلي اللعبة على واشنطن ولندن وبرلين؟