أثمرت مبادرة مظلوم كوباني، أمس الأول، عن التوصل إلى اتفاق مبدئي وُصف بالتاريخي بين طرفي الصراع الكردي – الكردي التاريخيين “حزب الاتحاد الديمقراطي” المتهم بارتباطه العضوي مع حزب العمال الكردستاني، والذي يقود ما يسمى “أحزاب الوحدة الوطنية الكردية” المشكلة حديثاً، ويهيمن على “الإدارة الذاتية” في شرق الفرات، وبين “المجلس الوطني الكردي” الذي تدور أحزابه في فلك كل من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق وتركيا، وهو عضو في الائتلاف السوري المعارض.
وينص الاتفاق وفق بيان مشترك صدر عن الوفدين الكرديين المفاوضين، على توصل الطرفين “لرؤية سياسية مشتركة ملزمة، والوصول إلى تفاهمات أولية، واعتبار اتفاقية دهوك 2014 حول الحكم والشراكة في الإدارة والحماية والدفاع أساساً لمواصلة الحوار”.
ويعتبر هذا الانجاز بمثابة تتويجٍ للمرحلة الأولى من المفاوضات الشاقّة بين الطرفين الكرديين، فيما من المتوقع أن تعقبها مراحل أخرى لمناقشة القضايا الأكثر خلافية بينهما وأهمها تقاسم “كعكة السلطة” في شرق الفرات ودمج الهياكل العسكرية والإدارية التابعة لكل منهما في كيانات موحدة.
ولم يتطرق الطرفان إلى أي تفاصيل حول طبيعة “الرؤية السياسية المشتركة” التي توصلا إليها. وظل الغموض يكتنف المعايير التي سمحت للطرفين بالعودة إلى تبنّي اتفاق دهوك لعام 2014 بعد إخفاقهما في تنفيذه طوال السنوات الماضية، حيث تبين أنه لا ينسجم مع توجهات وتطلعات كلّ منهما.
غير أن هذا الغموض من شأنه أن يسلط الضوء على الجانب الآخر من مبادرة مظلوم كوباني التي جاءت بمثابة رضوخ للضغوط التي مارستها الولايات المتحدة عليه وعلى حزبه وقواته من أجل الانتقال من “استراتيجية القتال” بعد هزيمة داعش في شهر آذار/مارس عام 2019 إلى “استراتيجية الحكم” في منطقة معقدة من حيث التنوع العشائري والطائفي والعرقي.
لكن كوباني الذي يواجه ضغوطاً داخلية من أجنحة متشددة سواء في حزب الاتحاد الديمقراطي أو حزب العمال الكردستاني، حاول على ما يبدو تمرير مبادرته تحت ذريعة الخشية من التوغل التركي منعاً لإجهاضها في مهدها. هذه الذريعة لم تستطع حجب حقيقة أن “مبادرة كوباني” ما هي إلا تطبيق حرفي لاستراتيجية أميركية تتوخّى خلط الأوراق في منطقة شرق الفرات، ومنها نحو السعي لاستدامة الفوضى وعدم الاستقرار في كامل الجغرافيا السورية ما لم تستطع واشنطن فرض شروطها لتحقيق التسوية السياسية.
وفي تمويهٍ لسياسة التقسيم، لا تخفي الولايات المتحدة أن نظرتها للحل النهائي في سوريا تمرّ من خلال وضع “ميثاق اجتماعي وسياسي قائم على الحكم اللامركزي والتوزيع العادل للموارد”. لكن بما أن تحقيق هذا الهدف من الصعوبة بمكان، خاصة في ظل التطورات الميدانية والسياسية التي رجحت كفة الجيش السوري على خصومه، ثمة اتجاه وازنٍ يمثّل كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس الأميركي، بدأ يعبّر عن رغبته في أن تعمل واشنطن على إيجاد “توازن” بين الغايات والوسائل، واتباع استراتيجية تزيد فرص التسوية السياسية وفق الشروط الأميركية وتسمح للإدارة الأميركية في الوقت نفسه حماية مصالحها حتى في حال عدم التوصل إلى حل سياسي.
لا تخفي الولايات المتحدة أن نظرتها للحل النهائي في سوريا تمرّ من خلال وضع “ميثاق اجتماعي وسياسي قائم على الحكم اللامركزي والتوزيع العادل للموارد”
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يوصي “تقرير مجموعة دراسة سوريا” الصادر في شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي، أي قبل شهر من مباردة كوباني، بعدّة توصيات تتعلق بالموقع الجديد لحليفها الكردي قوات سوريا الديمقراطية بعد انتهاء الأعمال العسكرية الأساسية ضد تنظيم “داعش”. وأهم هذه التوصيات: قطع علاقاتها مع قيادة حزب العمال الكردستاني وعزل أي شخصيات تنتمي لهذا التيار، علماً أن مظلوم كوباني نفسه كان من أبرز المحسوبين على هذا التيار قبل أن يغير قناعاته ويصبح من الداعين لضرورة التحالف مع واشنطن. والتوصية الثانية تتحدث عن الحرص على أن تمثل هياكلُ الحكم المحلي التركيبةَ الديمغرافية والتنوع السياسي لسكان المنطقة.
وقد تُرجم ذلك عملياً من خلال الرعاية الأميركية المباشرة للمفاوضات التي جمعت الطرفين الكرديين خلال الشهرين المنصرمين، عبر الحضور المكثف والمباشر للسفير الأميركي وليام روباك في قاعات التفاوض وأروقة الأحزاب المشاركة فيه لضمان توصل الطرفين إلى اتفاق تريده بلاده قبل أصحاب الشأن.
ولم تنتظر السفارة الأميركية في دمشق أن يجف حبر الاتفاق حتى كشفت الغاية الرئيسية التي ترمي إليها واشنطن من وراء إلحاحها لضرورة التوصل إليه، حيث ذكرت في بيان نشر أمس على صفحاتها الرسمية على موقعي التواصل الاجتماعي “تويتر” و”فيسبوك” أن الاتفاق “سوف يساهم في حل سلمي للصراع السوري بموجب قرار الأمم المتحدة 2254 من خلال المساعدة في توحيد جميع السوريين المعارضين لنظام (الرئيس السوري بشار) الأسد”.
ولا يمكن التغاضي عن التزامن “المريب” بين موعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، وتوصل الطرفين الكرديين إلى اتفاق تاريخي برعاية أميركية مباشرة، إذ يؤكد تزامن هذين التطورين على أن سوريا دخلت في “مرحلة جديدة” لن تتواني فيها واشنطن عن إشهار جميع اسلحتها لتحقيق أهدافها الرئيسية المتمثلة في منع روسيا من ترجمة انجازاتها العسكرية في سوريا إلى مكاسب جيوسياسية، وإضعاف النفوذ الايراني، وفرض تسوية سياسية قائمة على مبدأ الانتقال السياسي في تورية لمطلب تغيير النظام الذي لم يعد المسؤولون الأميركيون يذكرونه صراحة.
لا يمكن التغاضي عن التزامن “المريب” بين موعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، وتوصل الطرفين الكرديين إلى اتفاق تاريخي برعاية أميركية مباشرة
ورغم أن بعض المراقبين يشككون في إمكانية نجاح مراحل المفاوضات اللاحقة بين “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”المجلس الوطني الكردي” لا سيما في ظل التعقيدات والخلافات الجوهرية التي لا تزال عالقة بين الطرفين حول العديد من القضايا الأساسية والمبدئية، فإن هناك من يرى أن واشنطن تملك من وسائل الضغط السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية ما يكفي لإجبار الطرفين على الرضوخ لإملاءاتها بضرورة التوصل إلى توافق نهائي حول صيغة الحكم والإدارة في منطقة شرق الفرات تمهيداً لجعلها بمثابة نموذج ناجح لنظام حكم بديل.
ومن شأن الصمت الذي التزمت به أنقرة بعد الإعلان عن التوصل للاتفاق بين الطرفين وترحيب واشنطن به، أن يزيد من التشويش الذي أحاط بالموقف التركي إزاءه، وما هي أهداف أنقرة ورهاناتها في هذه اللحظة. إذ من المعروف أن انقرة عبرت عن رفضها للمفاوضات بين حليفها “المجلس الوطني الكردي” وعدوها اللدود “قوات سوريا الديمقراطية” لكن هذا الرفض لم يعطل قطار المفاوضات الذي استمر في انطلاقته حتى توصل أمس إلى محطة الاتفاق الأولي بين الطرفين.
فهل غيّرت أنقرة من قراءتها لجدوى المفاوضات وأهمية “توحيد الكرد السوريين” بكل ما يعنيه ذلك من دخول “قوات سوريا الديمقراطية” إلى قاعات جنيف لبحث التسوية النهائية للأزمة السورية، وهو ما كانت تستميت من أجل منعه سابقاً، أم أن ثمة إغراءات وربما ضغوط خارجية اضطرت أنقرة إلى التغاضي عن هذا التطور الخطير؟ وهل يمكن أن تكون ثمة علاقة بين عملية مخالب النسر التي أطلقتها قبل عدة أيام ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وموقفها المهادن من مفاوضات “الوحدة الكردية”؟.
تساؤلات كثيرة قد لا تجد أجوبة عنها على المدى القصير، غير أن المؤكد أن نجاح مظلوم كوباني في ارتهان قواته للإرادة الأميركية، وميله إلى السير وفق استراتيجية واشنطن سيؤدي إلى تغييرات جذرية في المشهد السوري، وقد يجرّ إلى صراعات طويلة الأمد تحقق التوصيف الأميركي للصراع السوري بأنه من فئة “الحروب الأبدية” كالحرب في أفغانستان والحرب في العراق.