الفرصة الأخيرة: تطبيق الطائف.. قبل نسفه

إعتمد لبنان منذ الاستقلال في العام 1943 نظام كونفدرالية الطوائف، كما يتبين من تكوين مجلس النواب والحكومة ووظائف الدولة برمتها. لم تمنع "الجمهورية الأولى" هذه الطوائف من الاختلاف والتقاتل، فاستدرج كل منها، من وقت لآخر، قوى خارجية لمساندتها على أخصامها في الداخل.

مع التوصل إلى إتفاق الطائف في خريف العام 1989 في مدينة الطائف السعودية، تحت مظلة عربية ودولية، إنتقلت السلطة السياسية (الإجرائية)، بموجب دستور “الجمهورية الثانية”، من رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعا. لكن، للاسف، عزّز النظام الجديد كونفدرالية الطوائف وجعل الوزير أميراً على وزارته (غير مقيد مثلا بمهلة محددة للتوقيع على المراسيم)، فزادت مشاكلنا عما كانت عليه عند بدء حرب العام ١٩٧٥، وتفاقمت بعد انتهاء الوصاية السورية في ربيع العام ٢٠٠٥، لأن الدستور المعدل يفتقد لآلية حاسمة لإتخاذ القرار.

لقد جرّب اللبنانيون خلال حربهم الطويلة (١٩٧٥-١٩٩٠) فدرالية جغرافية عندما انفصلت المناطق عن بعضها، فتقاتل ابناء الطوائف (إسلامية ومسيحية) ثم إنتقل القتال إلى الطائفة الواحدة والمذهب الواحد وعلى مساحات جغرافية صغيرة، فكان دم ودمار لم يستثن منطقة أو طائفة في لبنان. لذا نستطيع القول إن نظامي الكونفدرالية الطائفية والفدرالية الجغرافية فشلا في إعطاء اللبنانيين نظام حكم ينظّم حياتهم ويعطيهم المجال للعيش بانتظام واستقرار وسلام.

علينا ان نعمل، ولو تدريجياً، وعلى المدى الطويل، باتجاه إقامة الدولة المدنية بحيث يصبح كل منا مواطناً بكل ما في الكلمة من معنى، مع الإدراك ان التعددية في لبنان تتطلب طمأنة كل مُكون ان الدولة المدنية والعيش المشترك لن يفرزا محاولات لصهر مكون بآخر او أي ذوبان لتقاليده وعاداته او وضع حدود رسمية بين مكوناته.

ان لكل مكون في لبنان خصوصيته المميزة، وهذا يزيده غنىً وتنوعاً. ان التنوع هو ما يجعل لبنان وطًناً مميزاً في منطقته وفريداً دولياً. من المهم ايضاً التأكيد على ان الدولة المدنية ليست دولة ملحدة. انها دولة تعترف بحق كل مواطن/ة في ممارسة إيمانه وتقاليده او عدمه. يستوجب ذلك ان تصبح الدولة هي مرجعية المواطن لا الطائفة او المذهب أو العشيرة او الزعيم او الحزب او النائب او الوزير او المختار. كذلك، يجب ان يطمئن المواطن ان حقوقه وشؤونه الحياتية تسير تلقائياً من دون الحاجة الدائمة إلى وسيط، وفقط من خلال القوانين المرعية الإجراء. بكلام آخر، يجب ان نهدف الى سيادة وحكم القانون لحل كل مشاكلنا الفردية والجماعية.

اننا بحاجة الى التجديد.. كان المفكر الراحل الشيخ موريس الجميّل يشدد على ان “التغيير والاصلاح هو بمثابة امتلاك عربة خيل والاصلاح يعني تغيير العجلة او الحصان”، اما التجديد، فهو ان تمتلك سيارة. لبنان بحاجة الى تجديد. التجديد يعني الالتحاق بركب الحداثة والعصرنة والوصول الى مواطنة لبنانية لا طائفية ولا مذهبية ولا اجنبية. حان الوقت لندرك ان “ما حكّ جلدك الا ظفرك”.

ليس علينا ان نذهب بعيداً لسلوك طريق التجديد. ان توصيات اتفاق الطائف، او وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، قد تكون كفيلة بتجديد نظامنا السياسي تدريجياً. العناوين الإصلاحية في الطائف تبدو حكيمة وعملية ولعل تنفيذ بعضها يقودنا تدريجياً الى الدولة المدنية. لم تحاول العهود والحكومات منذ اقرار اتفاق الطائف في مجلس النواب عام ١٩٩١ تطبيق هذه الإصلاحات، إنما انصرفت إلى كيفية تعزيز حصتها في قالب جبنة السلطة.

لقد تضمن إتفاق الطائف التوصيات الآتية:

  1. إلغاء الطائفية السياسية
  2. انتخاب مجلس نواب على أساس غير طائفي ومجلس شيوخ يمثل الطوائف.
  3. اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة من ضمن دولة مركزية قوية.

ساحاول في ما يلي تقديم افكار تساعد في تنفيذ تلك التوصيات:

أولاً، اقتراحات لتشكيل اللجان:

  1. يشكل رؤساء الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء مجتمعين لجان عمل لكل من القضايا المطروحة للبحث، ويشرفون على اعمالها، ولا يكون اياً منهم رئيساً او عضواً في اي من اللجان.
  2. تتألف لجان العمل من مفكرين واختصاصيين وأكاديميين من ذوي الخبرة العملية ومن دون أي تمثيل للنواب أو الوزراء أو كبار موظفي الدولة او صغارهم، لان على هؤلاء مناقشة واقرار مقترحات اللجان في مرحلة لاحقة.
  3. على كل لجنة ان تنهي أعمالها خلال ثلاثة اشهر غير قابلة للتمديد، وفي حال فشل اي منها في إنهاء المهمة، تستبدل على الفور بلجنة أخرى.
  4. ان طمأنة المكونات المختلفة يتطلب ان تعمل لجان العمل في الفترة الزمنية ذاتها، تحت إشراف الرؤساء الثلاثة، وان تقدم مقترحاتها بشأن هذه الإصلاحات من ضمن سلة متكاملة تمهيداً لمناقشتها وتعديلها واقرارها في مجلسي الوزراء والنواب.

ثانياً، علاقة الدولة بالطوائف:

  1. درس ومناقشة وتقديم اقتراحات حول “علاقة الدولة بالطوائف”. ان مصطلح “الغاء الطائفية السياسية” يفرز حساسية عند بعض المكونات.
  2. فصل الدين عن الدولة ضروري للسير باتجاه الدولة المدنية: لا الدولة تعيّن رجال الدين ولا هم موظفو دولة، ولا علاقة مالية بين الدولة واي من الطوائف.
  3. ابقاء قوانين الاحوال الشخصية من دون تغيير في المدى المتوسط، على ان تضاف طائفة “العلمانيين” الى الطوائف الـ ١٧ المعترف بها.
  4. اقرار قانون الزواج المدني لمن يشاء هو خطوة ضرورية لبداية السير نحو الدولة المدنية، فحالياً يحق للبناني المعقود قرانه في الخارج، مدنياً او دينياً، ان يسجل زواجه في لبنان. ان اقرار هكذا قانون يوفر ايضاً تعباً على المواطن الذي يصر على زواج مدني ويكون مفيداً للاقتصاد اللبناني.
  5. الاستمرار بحذف الطائفة و/او المذهب من الهوية.

قانون الانتخاب الافضل لضمان التعددية والتنوع في مجلس الشيوخ هو “الصوت الواحد للناخب الواحد”

ثالثاً، مجلس الشيوخ:

  1. التعددية طابع لبناني اصيل. التعددية جعلت لبنان وطنا مميزاً وفريداً. التعددية تملي ان تشترك المكونات اللبنانية في صنع القرار الاستراتيجي المتعلق بالامن القومي وقضايا الوطن الاساسية والمصيرية. التعددية تفرض ان يكون مجلس الشيوخ ممثلاً حقيقياً لمواقف هذه المكونات. ومن المهم ان يشعر كل مكون انه مطمئن ومقتنع لمساهمته في إتخاذ القرارات في القضايا الاساسية والاستراتيجية.
  2. ان تحقيق ذلك يتم بالاتفاق على قانون انتخاب لمجلس الشيوخ، بما يسمح لكل طائفة، او مجموعة طوائف، ان تنتخب ممثليها في المجلس المستحدث.
  3. ان اعتماد لبنان دائرة واحدة لكل من المكونات او مجموعة منها، يسمح لناخبي كل طائفة في كل انحاء لبنان ان يشتركوا في اختيار ممثليهم.
  4. قانون الانتخاب الافضل لضمان التعددية والتنوع في مجلس الشيوخ هو “الصوت الواحد للناخب الواحد”. بكلام آخر، اذا حُدّد عدد الشيوخ لطائفة ما بعشرة أعضاء، يختار الناخب احد المرشحين لهذه المقاعد، ويربح المرشحون العشرة الاول الذين حصلوا على اكثرية اصوات الناخبين من دون اعتبار للقضاء او المحافظة. ان “الشيخ” في هذا المجلس يمثل مكوّنه في لبنان وليس منطقته.

رابعاً، مجلس النواب:

  • بينما يعكس مجلس الشيوخ مواقف المكونات اللبنانية، يركز اهتمام مجلس النواب على تحقيق متطلبات اللبنانيين، افراداً ومناطق. أما التشريع فيركز على الحياة اليومية للمواطنين. لذلك، من الضروري ان يكون هناك تقارب ومعرفة وثيقة بين النائب والناخب. من المهم ايضا ان يطمئن المواطن ان ممثله في مجلس النواب يشرع من اجل استقلاليته في وطنه بتوفير البنية التحتية (كهرباء، طرقات، مياه) والاجتماعية (تعليم، صحة، عمالة)، وانه لا يحتاج الى وساطة ورشوة موظف لدفع فاتورة الكهرباء او للحصول على رخصة قيادة سيارته.
  • يبقى عدد النواب ١٢٨ نائباً، تتوزع على الدوائر، كما هي حالياً.
  • معظم الدول المتقدمة ديموقراطياً تعتمد لانتخاب مجالس نوابها نظام لـ”كل ناخب صوت واحد”. يتحقق المبدأ في لبنان باعتماد احد النظامين: لكل دائرة انتخابية نائب واحد لا غير، فيصبح للبنان ١٢٨ دائرة انتخابية. يختار الناخب احد المرشحين في الدائرة ويفوز المرشح الذي يحصل على اكثرية اصوات الناخبين من دون اعتبار للمذهب او الطائفة. النظام الاخر يعتمد القضاء كدائرة انتخابية بمقعد واحد او مقاعد متعددة ويقتصر حق الناخب على اختيار مرشح واحد فقط، وينجح المرشحون الذين يحصلون على اكثرية اصوات الناخبين من دون اعتبار للطائفة او المذهب او اللائحة.

الشرط الاساسي لنجاح اللامركزية هو وجود دولة مركزية قوية. ان اللامركزية في دولة مركزية ضعيفة تفرز الفوضى وتزيد من الدعوات الى التقسيم

خامساً، اللامركزية الإدارية:

  1. الشرط الاساسي لنجاح اللامركزية هو وجود دولة مركزية قوية. ان اللامركزية في دولة مركزية ضعيفة تفرز الفوضى وتزيد من الدعوات الى التقسيم. الدولة المركزية تكون قوية بجيشها وماليتها وادارتها. جيشها قوة ضاربة سريعة الانتشار، مهمته الدفاع عن الحدود، وأن يدعم، عند الحاجة، القوى المحلية. ومن الضروري ان تكون مالية الدولة المركزية قوية لتنفيذ مشاريع وطنية عبر الوحدات المحلية، ولدعم الوحدات كافة في جهودها الانمائية وعمليات التحديث. ومن الضروري ان تتصف الادارة في الدولة المركزية بالشفافية والكفاءة والامانة.
  2. ان طريقة الحياة اللبنانية الفريدة هي نتيجة التعددية الديموغرافية التي جعلت لبنان وطناً مميزاً. من الضروري على الدولة المركزية المحافظة على خصوصية كل من المكونات اللبنانية وعلى تقاليد وعادات ونمط حياة كل منها. ان النظام الذي يتفق على تفاصيله يجب ان يحافظ على تلك الخصوصيات، ومن الضروري لنجاحه اقرار تشريعات وطنية ومحلية تتيح لكل مكون من المكونات ممارسة خصوصياته.
  3. ادارة السياسات الدفاعية والخارجية والنقدية هي من ضمن المسوولية الاساسية والمطلقة للدولة المركزية. كذلك، من الضروري ان تكون الاتصالات وتسجيل السيارات والمرافئ والمطارات تحت امرة ومسؤولية الدولة المركزية.
  4. ان اللامركزية على اساس المحافظة قد تحمل الخطر على وحدة لبنان. اولاً، من الممكن ان تفرز المحافظة خلافات على السلطة ضمن كل مكون، كما حصل خلال حرب الخمسة عشر عاماً. وثانياً، ربما اصبحت اللامركزية فدرالية لا سيما حين يقع خلاف بين محافظتين من طوائف مختلفة. وثالثاً، يخشى اذا حددت كل من المحافظات على اساس طائفي ان يحدث الفرز الطائفي والمذهبي في كل انحاء لبنان.
  5. اللامركزية على اساس القضاء تتناسب مع خصوصيات المكونات ووحدة لبنان. يسمح القضاء للمكونات بممارسة خصوصياتها من دون تمييز ولا افرازات ولا خلافات مذهبية او طائفية.
  6. اصبح القضاء وحدة ادارية الى حد كبير منذ ان رسمت الدائرة الانتخابية على اساسه في قانون انتخابات 1960. واليوم، مع التكاثر السكاني اصبح من الضروري ان تحصر الامور الادارية للمواطن في منطقته/قضائه، اختصاراً للوقت والمسافة.
  7. يكون لكل وحدة محلية مجلس نيابي مشابه لمجلس النواب المركزي وينتخب مباشرة من ناخبي القضاء. ينتخب المجلس رئيسه وهيئة مكتبه ولجانه، كما ينتخب رئيس القضاء الذي يشكل حكومة تعمل بثقة من مجلس القضاء.
  8. تحدد الدولة المركزية عدد نواب القضاء بناءً على كثافة سكانه، وينتخب النواب على اساس قانون لـ”كل ناخب صوت واحد”. فمثلاً، في قضاء حُدّد عدد نوابه بـ ٢٥ نائباً، يختار الناخب مرشحاً واحداً لا غير، وينجح الـ ٢٥ مرشحاً على قاعدة الاوائل الذين حصلوا على عدد اصوات الناخبين من دون اعتبار للمذهب او الطائفة او البلدة.
  9. يرتبط الامن في كل من الوحدات المحلية بالوزارة المعنية والمؤسسات الامنية المركزية. ان شرطة القضاء هي مؤسسة محلية مستقلة ولكن مرتبطة بمؤسسة الامن المركزي، وافرادها وضباطها يتدربون ويتخرجون من مؤسسات الامن المركزية.
  10. تعتمد المالية المركزية على ضرائب ورسوم وطنية كالجمارك والقيمة المضافة ودخل المؤسسات والافراد، أما مالية القضاء، فتعتمد على ضرائب ورسوم محلية كالبناء والعقارات والمبيعات وبامكانها ان تشرع لضرائب محلية جديدة لدعم مشاريعها الانمائية.
  11. انشاء وزارة لـ”الادارة المحلية” للتنسيق بين الدولة المركزية والادارات المحلية، ولمساعدة ومراقبة السلطات المحلية.

لا بديل عن الحوار وتجديد نظامنا وتحديثه وتطويره. لا بديل عن تفاهم اللبنانيين على كلمة سواء. تعالوا نناقش سبل تنفيذ إتفاق الطائف، قبل أن ندعو إلى نسفه

سادساً، سلاح حزب الله:

  1. العلاقة بين حزب الله وباقي المكونات اللبنانية ليست صحية ولا تساعد لا بل تهدد استمرار وحدة لبنان. لذلك، لا بد من معالجة وجود السلاح وفائض القوة الذي يفرزه.
  2. ان الادعاء ان سلاح حزب الله قضية اقليمية ودولية وليس بامكان لبنان معالجته، هو إدعاء غير مقبول اقليمياً ودولياً. إنه مسؤولية لبنانية بإمتياز.
  3. واجهت سويسرا مشكلة مشابهة لغاية القرن التاسع عشر، عندما بدأت في منتصفه توحيد جيوش او ميليشيات الكانتونات تدريجياً، مع بقاء الاستقلالية النسبية للوحدة المحلية.
  4. مع الاقرار ان الدولة المركزية ما زالت ضعيفة وجيشها يستعمل كقوة امن داخلي، وان هناك حاجة لقوة ردع تمنع تقاتل الاخرين على ارض لبنان وتمنع الاعداء من احتلال ارضنا وسرقة ثرواتنا المائية والنفطية والزراعية، يمكن الاتفاق على معادلة شبيهة بتلك التي اعتمدتها سويسرا منذ حوالي قرنين من الزمن. بقيت الميليشيات مستقلة محلياً ومرتبطة بالدولة المركزية وطنياً. استطاعت سويسرا ان تبني جيشاً موحداً من الميليشيات اصبح تدريجياً قوة ردع منعت الآخرين من الاعتداء عليها، كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية.

هذه بضعة أفكار مطروحة للنقاش، والغاية منها تشجيع اللبنانيين على البوح بقضاياهم أمام بعضهم البعض، بدل أن تتحول الشكوى إلى مادة تحريض ضد الآخر أو تحريض الخارج ضد مكون ما في الداخل. لا بديل عن الدولة المدنية. لا بديل عن الحوار وتجديد نظامنا وتحديثه وتطويره. لا بديل عن تفاهم اللبنانيين على كلمة سواء. تعالوا نناقش سبل تنفيذ إتفاق الطائف، قبل أن ندعو إلى نسفه…

(*) راجع الجزء الأول، من كونفدرالية المدن الفينيقية إلى كونفدرالية الطوائف:

https://180post.com/archives/11372

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  رضي الموسوي “صيدٌ ثمينٌ”.. هل تنقلب معادلات الميدان؟ 
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أيُّ الموتين أحب إليك أيها السوري؟