خداع النفس.. “دواء وهمي”!

كانت أم عثمان (ونلفظها "عتمان" في قريتنا) امرأة عجوزة، حرمتها إغراءات المدينة من رؤية أولادها وأحفادها إلاّ في مناسبات نادرة. كنا كأطفال نسألها دائماً (تقليداً للكبار من أهلنا): "كِيفِك يا أمّ عتمان"؟ وكانت دائماً تجيبنا: "شو بدّي قول.. التعبان تعبان".

لم تكن لنا جرأة الضحك أمام أم عثمان من سخافة جوابها ليس حياءً منها بل خوفاً من الكبار الموجودين حولنا.. لكن مع الوقت، صارت تلك العبارة تتراءى لنا حكمة بليغة. كيف لشخص أرهقه العمر والشيخوخة والعيش بمفرده أن يقول أي شيء آخر؟

في مقابل أم عثمان، كانت جدّتي أم سليمان إمرأة من طراز نادر، إبتسامتها لا تفارق وجهها، وإيجابيّتها لا يزحزحها زلزال. جدتي أنجبت 14 ولداً مات منهم/منهن أربعة. عاشت معظم حياتها تصحّو على شغل وتنام على شغل، وإذا ما كان في شغل كانت تخلق الشغل لنفسها، وكأن لسان حالها يقول: “التعبان سعيد بتعبو”!

ما ميّز جدّتي عن أم عثمان أنّ الأخيرة أقرّت وسلّمت بواقعها المرير، فأصبحت أسيرة التشاؤم. أمّا جدّتي، فهي أدركت (بالأحرى أقنعت نفسها) أنّ تعبها وأوجاعها تخلق راحة للآخرين (زوجها، أولادها، أحفادها، أقاربها إلخ..)، فجعلت ذلك راحة لها.

ما يجعلنا بشر هي هذه القدرة على خداع أنفسنا، وإقناع أنفسنا أنّ الواقع ليس بواقع، وأنّ ما نتمنّاه هو الواقع، فنقلب الحلم إلى حقيقة ونحيا كأنّ الحلم أصبح حقيقة معيوشة.

الإنسان وصل في عصرنا الحالي إلى أعلى درجة من خداع النفس (فرديّاً وجماعيّاً)

في فترة ما، انجذب بعض الفلاسفة إلى دراسة الميزة التي تفرّق الإنسان عن باقي الكائنات، فظهرت نظريّات مثل الإنسان حيوان ناطق، أو حيوان سياسي، أو إجتماعي، أو مخترع إلخ.. لكن سرعان ما أثبتت الأبحاث العلميّة أنّ ميزة النطق أو الإختراع، وحتّى القالب السياسي أو الإجتماعي الذي يعيش فيه الناس، ليس حصريّاً بالبشر، بل هناك كثير من الحيوانات أو الكائنات الحيّة التي تتميّز أيضاً بهذه الأمور. مثلاً، هناك كائنات (مثل الأخطبوط أو الغراب) تحلّ مسائل حسابيّة وهندسيّة معقّدة يعجز عنها كثير من الناس. هناك مخلوقات تعيش في بوتقات إجتماعيّة لها هرميّة سياسيّة واضحة يعرفها ويتبعها كلّ فرد، أكان كبيراً أم صغيراً (كالضباع مثلاً). هناك كائنات لها لغة معقّدة تخاطب بها بعضها البعض وتعمل معاً من أجل الوصول إلى هدف مشترك (كالدلافين والأوركا، وحتّى بعض أنواع الأشجار التي تتخاطب عبر جذورها)، وهناك حيوانات تستخدم آلات من أجل استخراج الطعام (القرود والغربان).

إذاً، في كلّ هذه الأمور، ميزة الإنسان ليست في كونه الوحيد القادر عليها، بل إنّ قدرته، إجمالاً، هي أكثر تطوّراً وتمكّناً وتعقيداً من المخلوقات الأخرى، وذلك نتيجة مسار طويل من التطوّر والممارسة. (يمكن القول نظريّاً، أنّه إذا فرضنا مساراً مشابهاً على بعض المخلوقات، يمكن أن تصل إلى ذلك أيضاً. مثلاً، تملك القرود، كباقي البشر، كلّ الأعضاء المطلوبة من أجل النطق بالكلام، لكن ليس لها بعد جهاز عصبي متطوّر يشابه الذي عند البشر لكي يساعدها على إطلاق ذلك النطاق الواسع من الأصوات التي يمكن لنا أن نصدره وهو نتيجة تراكمية للتطوّر والممارسة).

ما يفرّق الإنسان عن باقي الكائنات الحيّة هو أنّه الوحيد القادر على خداع نفسه. أنا لا أعني خداع الآخرين. هذه الميزة نجدها عند كثير من الحيوانات، مثل طائر الدرونغو (drongo) في أفريقيا، الذي يُقلّد أصوات بعض الطيور الجارحة أو حتّى أصوات الإنذار التي تصدرها حيوانات مثل الميركات (Meerkat) لتحذير بعضها البعض على وجود حيوانات مفترسة حولها. فتخاف الحيوانات عند سماعها لصوت الدرونغو وترمي طعامها وتهرب لتختبئ، وحينها يهبط الدرونغو ويأخذ الطعام ويأكله.

خداع النفس لا نعرف له مثيلاً بعد عند أي حيوان آخر. ويمكن لهذا النوع من الخداع أن يأخذ منحى فردياً (أي أن يخدع الإنسان نفسه)، أو منحى جماعياً (أن تخدع جماعة من البشر نفسها). وخداع النفس هو أيضاً سلاح ذو حدّين، فيه منافع ومساوئ، وينتج عنه أشياء جميلة وقبيحة.

ويبدو لي أنّ الإنسان وصل في عصرنا الحالي إلى أعلى درجة من خداع النفس (فرديّاً وجماعيّاً). فكرة الحلم الأميركي (American Dream) هي من أهمّ الأمثلة في عصرنا الحالي عن خداع النفس ببعديها الفردي والجماعي؛ وأعني قناعة بعض الأميركيّين أنّ الحلم الأميركي يؤمّن “الحرّيّة” و”الاستقلاليّة” ويُوفر فرصة لكلّ فرد ليعمل بكد ويحصّل الثروة، وأنّه لا يمكن الوصول إلى هذه الأمور في أي مكان آخر تحت الشمس.

أصبح الخداع المستمرّ للنفس هو الحلّ الوحيد للكثيرين من أجل العيش في لبنان: كل طائفة تعتقد أنّ المشكلة في الآخر، وليس في زعمائها ووجهائها وأحوالها. ومن يكفر بالبلد ويهيم على وجهه في الدنيا بحثاً عن جنّة عدن هو أيضاً خادع لنفسه، لأنّه قرّر رؤية قباحة بلده فقط ورفض رؤية قباحة البلد الذي لجأ إليه

في الواقع، الحريّة التي نحصل عليها عبر الحلم الأميركي لا تخلو من العبوديّة لنظام سياسي يجبرنا أيضاً على استعباد الغير. الثروة التي نجمعها، جزءٌ كبيرٌ منها هو بالحقيقة مديونيّة لنا، ودين وفقر مدقع لغيرنا. إستقلاليّتنا تتطلّب قهراً لأنفسنا، واستبداداً وظلماً لغيرنا. العمل الذي نقوم به هو عمل جماعي، نعطي من يشارك فيه الفتات القليل وندّعى أنّه عملنا. هذا الخداع الفردي والجماعي هو ضروري حتّى لا يرى الإنسان في أميركا قباحة وجهه في المرآة كلّ صباح، والدم على يديه كل مساء، والجريمة والمخدرات والقهر والفقر والجوع المنتشر حوله في كلّ مكان.

إقرأ على موقع 180  عندما يعتكف "المخلِّص" عن الظهور!

في حالات أخرى، خداع النفس هو ضروري من أجل مواجهة الصعاب وعدم فقدان الأمل. في لبنان، مثلاً، خلقنا فكرة “الشعب الشاطر” و”اللبناني الحربوق”. هذه من أهم أنواع الخداع الفردي والجماعي في التاريخ الحديث. ساعدت المقولات الزائفة في ازدهار الفرد اللبناني (وبعض الجماعات) وحوّلت حقيقة عدم وجود إمكانات ومصادر طبيعيّة وإقتصاد منتج لا بل عدم وجود دولة بالأساس إلى خدعة. صرنا نُصدّق أنّ الشعب البناني قادر على خلق اي شيء من لا شيء. لكنّ الخدعة إياها منعتنا، في الوقت نفسه، من أن نبني وطناً سليماً، إذ أن الشطارة باتت موجودة في كل شاردة وواردة فينا ومن لحظة ولادتنا حتى موتنا ومنذ أن نستيقظ صباحاً وحتى ننام ليلاً. أصبح الخداع المستمرّ للنفس هو الحلّ الوحيد للكثيرين من أجل العيش في لبنان: كل طائفة (سياسيّة أم دينيّة أم حزبيّة أم عشائرية) تعتقد أنّ المشكلة في الآخر، وليس في زعمائها ووجهائها وأحوالها. ومن يكفر بالبلد ويهيم على وجهه في الدنيا بحثاً عن جنّة عدن هو أيضاً خادع لنفسه، لأنّه قرّر رؤية قباحة بلده فقط ورفض رؤية قباحة البلد الذي لجأ إليه. فأصبح الخداع للنفس هو علاج ونافذة للأمل حتّى ولو كان المشهد من هذه النافذة رهيب ويقشعر له البدن.

في التوراة مثلاً، صورة الله هي الغضوب، البطّاش، الغيّور، يضحّي بالبشر ويجعل منهم أمثلة ودروساً. هكذا كان العقل البشري، فأنتج هذه الصورة عن الله. أمّا في الأناجيل، فأصبح هذا الإله محبّ، غفور، متسامح، يضحّي بـ”إبنه” من أجل البشر. لماذا هذا التغيير؟ لأنّ إله التوراة لم يعد لائقاً بنا كبشر، فخدعنا أنفسنا وأعدنا خلقه بصورة جديدة. لكن سرعان ما تبيّن أنّ هذا الجديد ليس بذي نفع (وأوّل من إكتشف هذا كان المسيحيّون أنفسهم عندما أيقنوا أنّه بالمحبة وحدها أو بإدارة الخد الأيسر لن يصلوا إلى شيء، وأنّ البطش ضرورة على الأرض)، فأعدنا خلق الله كبطّاش ومحبّ في الوقت نفسه، وهذه صورة الله أيضاً في القرآن. وفي زمن الحضارة الحاليّة، لم تعد صور الله في التوراة والأناجيل والقرآن لائقة وأصبحت حتّى محرجة، فحوّلنا الله في خدعتنا الجديدة إلى شيء تجريدي (abstract form). إذاً، صورة الله هي دائماً ما يمكننا كبشر أن نتصوّره، فنخلقه ونعيد خلقه بطرقنا نحن لعلّ في خداعنا هذا لأنفسنا نجد حلولاً لمعضلاتنا ومشاكلنا.

تسقط ورقة التوت عنه عندما نسقط وتُسلب منّا حريّتنا واستقلالنا وثروتنا، ونصبح عاجزين عن التأثير وتوعية الآخرين منه. فننتقل من الخداع إلى الـ”يا ريت”. لكن برأيي، يبقى الخداع أفضل، لأن “كلمة يا ريت عمرها ما كانت بتعمّر بيت”، لكن (مع بعض التصرّف) “قليل من الخداع يفرح قلب الإنسان”

لكن أضخم خداع نقوم به الآن يتعلّق بكارثة تحوّل المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض إلى مستويات بدأنا برؤية تأثيراتها الكارثيّة والمدمّرة. الحلول التي يروّج لها كثير من أهل العلم والسياسة لن تنفع لا على المدى القصير ولا على المدى الطويل لأنّها عبارة عن خداع جماعي. مشكلة تحوّلات المناخ لا تحلّ باستبدال سيارة الـ ب.أم.دبليو أو الرينو أو.. بأخرى كهربائيّة، لأن المشكلة ليست فقط في استهلاك السيارات للوقود الأحفوري بل في كامل المراحل التي تمرّ بها صناعة السيارات، من مرحلة استخراج المعادن الضرورية لها وتصنيع ما تستلزمه من معدّات وأدوات، إلى شحنها بالوقود (أو الكهرباء) وتصليحها، إلى رمايتها في مرآب ومشاهدتها تتحلّل مع الزمن. هذه الأمور مجتمعةً هي ما يؤدّي إلى تحوّلات المناخ وإلى ارتفاع درجات الحرارة في الجو وفي المحيطات، والتي خطرها أكبر بكثير من كل ما نحرقه الآن عبر قيادتنا للسيارات. كانت المحيطات والبحار تمتصّ أكثر من ربع ثاني أوكسيد الكربون الذي ينتجه البشر. لكن مع زيادة حرارتها وتلوثّها بالمبيدات والكيماويّات والبلاستيك الذي نرميه فيها، ستصبح المحيطات قريباً ليس فقط عاجزة عن امتصاص ثاني أوكسيد الكربون، بل ستكون أهمّ مصدر لتلويث البيئة بثاني أوكسيد الكربون (بدل تخزينه ستعيد رميه في البيئة الأرضيّة عبر تبخّر المياه منها). كذلك الأمر مع الغابات العملاقة، كتلك التي في أميركا الشماليّة (Boreal Forest) والأمازون، والتي هي أيضاً تخزّن قرابة ربع كمّيّات ثاني أكسيد الكربون الذي نرميه في الهواء. وطالما أنّ وتيرة استخراج الموارد الضروريّة والتصنيع والاستهلاك متزايدة، لن يكوم ممكناً “حلّ” مشكلة تغيير المناخ إلاّ بالخداع.

نادراً ما ينكشف لنا هذا الخداع لأنفسنا ونحن في أعلى الهرم. بل إجمالاً، تسقط ورقة التوت عنه عندما نسقط وتُسلب منّا حريّتنا واستقلالنا وثروتنا، ونصبح عاجزين عن التأثير وتوعية الآخرين منه. فننتقل من الخداع إلى الـ”يا ريت”. لكن برأيي، يبقى الخداع أفضل، لأن “كلمة يا ريت عمرها ما كانت بتعمّر بيت”، لكن (مع بعض التصرّف) “قليل من الخداع يفرح قلب الإنسان”.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ماكرون ـ نتنياهو.. عندما تلتقي الفاشيتان!