للمرة الأولى منذ تأليف حكومة حسان دياب، يصيبها إهتزاز في داخلها. فقد أبلغ وزير الخارجية ناصيف حتي المقربين منه ومعظم زملائه من الوزراء أنه قرر تقديم إستقالته رسمياً، وأنه لا يهدف من خلالها لا إلى المناورة ولا إلى محاولة تحسين شروطه. كل ما في الأمر إستشعاره أن هذه الحكومة قد أدت غرضها وباتت عبئاً على نفسها وعلى اللبنانيين. لا هي قادرة على إجتراح معجزات مالية في الداخل، ولا هي بسلوكها وتركيبتها قادرة على قرع أبواب الخارج ولا فتح أبواب صندوق النقد الدولي، وفي الحالتين، لا ثقة دولية وعربية بالتركيبة السياسية الراهنة، ولا سيما الحكومة الحالية. لذلك، صار لا بد من محاولة إحداث صدمة إيجابية عبر تقديم الإستقالة.
قبل ذلك بحوالي الأسبوعين، سرت أنباء ظلت محصورة ضمن دائرة ضيقة، مفادها أن الأمور بين ناصيف حتي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، قد وصلت إلى حائط مسدود. لم يكتف الأخير بإلزام حتي بعدم المس بكل فريقه في وزارة الخارجية بما في ذلك مدير مكتبه هادي هاشم، بل ألزمه بعدم الإقدام على أية خطوة إجرائية إلا بالتشاور معه، فكان متعذراً عليه إجراء تشكيلات دبلوماسية، بسبب ما يمكن أن يحيط بها من تجاذبات سياسية كثيرة.
زدْ على ذلك أن باسيل تحسّس من أمرين، أولهما إصرار وزير الخارجية ناصيف حتي على إعطاء دور أساسي في وزارة الخارجية لصديقه مدير الشؤون السياسية السفير غدي خوري (عملا سويةً في باريس لفترة طويلة)، وذلك على حساب كل من الأمين العام لوزارة الخارجية هاني شميطلي ومدير مكتب وزارة الخارجية (العوني) هادي هاشم.
وفيما لم يكن جبران باسيل متحمساً بالأصل لتعيين غابي عيسى في سفارة لبنان في واشنطن، جاء قرار التعيين من خارج الملاك، تلبية لإرادة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تمسك بعيسى سفيراً في واشنطن، إلا أن باسيل، وعلى مسافة نصف سنة من إنتهاء ولاية عيسى، بدا متحمساً لتعيين سفير بديل يختاره هو شخصياً، خصوصاً أن عيسى لم ينجح أبداً في محاولة ردم الهوة بين الأميركيين وباسيل، الأمر الذي لا يخدم معركة رئيس التيار الوطني الحر الرئاسية في العام 2022، فكان أن طرح إستبداله بأحد المقربين منه، وبينهم مدير مكتب وزير الخارجية هادي هاشم، غير أن ناصيف حتي رفض ذلك، الأمر الذي فاقم الملفات المتراكمة بين باسيل وحتي أو بالأحرى بين “الوزير الأصيل” و”الوزير الوكيل”، حتى أن باسيل لم يتردد في إتهام ناصيف حتي، في بعض الأحيان، بإرتكاب “فاولات” دبلوماسية، على شاكلة التقرير الذي أرسله إلى الأمم المتحدة، وهو تقرير داخلي لمديرية المخابرات في الجيش اللبناني حول حوادث حصلت مع قوات اليونيفيل في الجنوب اللبناني. وتبين لاحقاً أن هذا التقرير سلمته وزيرة الدفاع زينة عكر إلى حتي للإطلاع عليه، فإلتبس الأمر عليه وحوّله إلى بعثة الأمم المتحدة في نيويورك!
تبين أن دياب، وفي محاولة منه لطي سوء الفهم مع باريس، إستقبل في السراي الكبير، قبل عدة أيام، موفدين فرنسيين، وقدّم لهما ما يشبه الإعتذار على بعض المواقف التي بدرت منه أثناء زيارة لودريان وبعدها
وقد كان لافتاً للإنتباه أن ناصيف حتي الذي كان يتمتع برصيد دبلوماسي من خلال تجربته الدبلوماسية العريقة، في جامعة الدول العربية، وتحديداً في باريس، قد خيّب آمال بعض المقربين منه لأنهم كانوا يتوقعون منه أداءً مختلفاً، غير أن الظروف لم تخدمه، سواء ما يتعلق منها بما رافق إنتشار فيروس كورونا ومنها ما يتعلق بالموقف الدولي والعربي من حكومة حسان دياب التي لم تتمكن من إحداث اي خرق في جدار المقاطعة الدولية والعربية.
هذه المواقف لمسها ناصيف حتي في زيارتين قام بهما إلى كل من الفاتيكان وباريس، فيما رفضت المفوضية الأوروبية في بروكسيل إستقباله، على قاعدة أن مواقفها ولا سيما إصرارها على أولوية الإصلاحات صارت معروفة عند كل المسؤولين اللبنانيين، وبالتالي، “ليس المطلوب من اللبنانيين سوى التنفيذ”، فكان أن أقفل الباب الأوروبي بوجهه، وهو ما قامت به عواصم أخرى، وظل الأمر طي الكتمان الدبلوماسي.
ومع زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان إلى بيروت، قبل حوالي الأسبوع وما سبقها ورافقها من مواقف للزائر الفرنسي، فضلاً عن مضمون وشكليات الزيارة، كل ذلك جعل ناصيف حتي يُعجل في تقديم إستقالته، خصوصاً بعدما لمس في زيارته الأخيرة إلى باريس ومحادثاته مع لودريان ومسؤولين فرنسيين آخرين، خيبة أمل فرنسية من الحكومة، بما في ذلك أداء وزارة الخارجية.
ومن الواضح أن ناصيف حتي لم يكن موافقاً على طريقة التخاطب التي جرت بين رئيس الحكومة حسان دياب وضيفه الفرنسي جان إيف لودريان. وتبين لاحقاً أن دياب، وفي محاولة منه لطي سوء الفهم مع باريس، إستقبل في السراي الكبير، قبل عدة أيام، موفدين فرنسيين، وقدّم لهما ما يشبه الإعتذار على بعض المواقف التي بدرت منه أثناء الزيارة وبعدها، وجدّد طلبه للفرنسيين بأن يقدموا الدعم والمشورة التقنية للحكومة، من أجل تسريع المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي.
وفيما وضعت بعض المصادر الدبلوماسية إستقالة ناصيف حتي في خانة “الرد الفرنسي” على حسان دياب، إلا أن الأخير، يصر على أنه رفض منذ صدور مراسيم تأليف الحكومة أن يكون محسوباً على جهة سياسية، وأنه إعتقد أن الفرصة متاحة لإحداث تغيير في الأداء الحكومي، لكن كل مجريات التجربة الحكومية الراهنة لم تكن تُبشر بالخير.
واللافت للإنتباه أن إستقالة ناصيف حتي تأتي على مسافة أيام قليلة من بدء المشاورات المكثفة في مجلس الأمن الدولي لتجديد مهمة قوات اليونيفيل المعززة في الجنوب اللبناني، وذلك في ظل معطيات تشي بتمسك الأميركيين بتخفيض عديد هذه القوات، بعدما أيقنوا إستحالة تعديل المهام الدولية في جنوب الليطاني، وتحديداً تكريس مبدأ حرية الحركة لدوريات اليونيفيل وحق مداهمة الأماكن الخاصة، فضلاً عن تعذر توسيع المهام لتشمل مراقبة الحدود الشرقية للبنان (الحدود اللبنانية السورية).
وفيما ينتظر أن تنفجر أزمة النفايات في بيروت وجبل لبنان بوجه الحكومة في النصف الأول من هذا الشهر، إذا نفذ إتحاد بلديات الضاحية الجنوبية قراره بإقفال مطمر كوستابرافا بوجه نفايات العاصمة والجبل، أكدت مصادر وزارية لبنانية أن وزيرة الإعلام منال عبد الصمد تفكر جدياً بأن تحذو حذو زميلها ناصيف حتي، وقالت المصادر إن عبد الصمد تكثر إنتقاداتها لأداء الحكومة، وقد بلغ الأمر برئيس الحكومة حسان دياب أن إتهمها مؤخراً بأنها “تعبّر عن موقف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط أكثر مما تعبّر عن موقفها”!
هل تكون إستقالة ناصيف حتي إشارة البداية لإنهيار البنيان الحكومي، أم يصار إلى تعيين وزير بديل (سيحل محله مؤقتاً وزير البيئة دميانوس قطار بصفته وزير الخارجية بالوكالة)، وتستمر الحكومة حتى نهاية العهد، كما يعتقد كثيرون وأولهم رئيس الحكومة؟
لا بد من رصد معطيات داخلية متحركة يقع في صلبها موضوع نجاح الحكومة في قرع ابواب صندوق النقد الدولي، وثمة معطيات خارجية أبرزها الإنتخابات الرئاسية الأميركية. ما ستفرزه هذه الإنتخابات من نتائج سيرتد على ساحات كثيرة بينها لبنان.
هل تصمد الحكومة من الآن حتى تشرين الثاني/نوفمبر المقبل؟
يقع الجواب في علم الغيب لا في علم السياسة.