لو وُضعت كل منظومة التحقيق الدولي، بقضية الحريري ورفاقه، ومعها كل المنظومة السياسية، المحلية والعربية والدولية التي ساندتها طوال 15 عاماً وكذلك كل الأموال التي صرفت، في كفة، ووضعت الأحكام التي صدرت اليوم (الثلاثاء) في كفة مقابلة، لأمكن القول إنه بإستثناء الخسارة الكبرى التي جسدتها مقتلة رفيق الحريري، هل كان لبنان يحتاج فعلاً إلى دفع كل ما دفعه من أثمان، لأجل حكم دولي أدان شخصاً واحداً في حزب الله (سليم عياش)، بينما برأ الثلاثة الآخرين (أسد حسن صبرا وحسن مرعي وحسين عنيسي)، لا بل برّأ أيضاً من كان يصنف في خانة العقل المدبر أي مصطفى بدر الدين، ذلك أن غرفة الدرجة الاولى في المحكمة التي نطقت بحكمها، لم تقتنع بالدور المزعوم له، وفق رواية الإدعاء، في الجريمة نفسها، علما أن القانون الدولي، لا يجيز حتى الإشارة إلى أي دور لبدر الدين بحكم وفاته.
وإذا تم الأخذ أيضا بما تكون من قناعة لدى المحكمة بعدم وجود أدلة على تورط لا القيادة السورية ولا قيادة حزب الله في الجريمة، فإن تقديرات المحكمة بتورط عشرات الأشخاص المجهولين في الجريمة من ألفها إلى يائها، يضع هذه المحكمة في خانة المراجعة النقدية الجدية من قبل اللبنانيين إلى أي فريق إنتموا إليه، خاصة بعدما برز ميلٌ متجددٌ لإحالة قضية التفجير الإجرامي في مرفأ بيروت إلى التحقيق الدولي. نعم، تجربة المحكمة الدولية تشي بأنه كان بمقدور اللبنانيين أن يحرجوا بعضهم البعض بأن يكون دم رفيق الحريري شرارة ثورة قضائية لبنانية، لو بلغت مآلاتها، لما كنا شهدنا جرائم كثيرة، وآخرها جريمة تدمير العاصمة بيروت وقلبها الذي رسم رفيق الحريري كل حرف من حروفه، طوال عقد ونيف من الزمن.
ومن المفهوم جداً ان يفرح لبنانيون كثر بحكم المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري على اعتبار أنه استهدف رمزاً لبنانياً وعربياً ومن خلاله الفريق السياسي الذي يمثله ومحاولة تغيير وجه لبنان ونظامه وهويته (على حد تعبير سعد الحريري فور صدور الحكم)، ومبررٌ أيضاً أن يستنكر هذا الحكم، برغم تواضعه وهزاله، لبنانيون كثر على اعتبار أنه اتهام مُسيس هدفه يتجاوز العدالة، ويروم سلاحاً استرجع أرضهم من احتلال بدأ مذ كانت العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة حتى أيار/مايو من العام 2000.
كلا الفرحين والمستنكرين لا يُعوّل على ردود أفعالهم. ردودهم واصطفافاتهم تتناسل من “هويات ـ مذهبية وطائفية ـ قاتلة” ليست مستجدة على لبنان
الذين يأخذون على أولئك الفرحين فرحهم وقبولهم بـ”حكم مُسيًس وضعيف” إنما يطالبونهم بالتنازل عن حقهم الطبيعي بمعرفة القاتل، آمراً ومُخططاً ومُنفذاً، كما يطالبونهم بأن يكون تعبيرهم مخالفاً لمشاعرهم الإنسانية الطبيعية نحو رجل مثّل حلماً لطائفة وازنة بين أحلام لطوائف كثيرة أخرى. أما الذين يأخذون على المستنكرين استنكارهم، فإنما يطالبونهم بالاستسلام لإتهام يُراد له “شيطنة” حزب الله أيقونتهم التي حررت الأرض، ودفعت بالدم ثمن إرادات تتصل بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. صراع أرادته أنظمة في المنطقة مناسبة لتطويع شعوبها ذات الأرجحية السُنية ولتأبيد حكم عسكرييها وجمهورييها وملكييها وأمرائها. صراعٌ أرادته إيران جسراً لتوسيع نفوذ أمبراطوريتها من وسط آسيا إلى غربها مرورا بخطوط تقاطع فيها المذهبي بالسياسي من العراق إلى اليمن وجنوب لبنان.
والحال هذه، فإن كلا الفرحين والمستنكرين لا يُعوّل على ردود أفعالهم. ردودهم واصطفافاتهم تتناسل من “هويات ـ مذهبية وطائفية ـ قاتلة” ليست مستجدة على لبنان. بل على العكس تماماً، إذ لطالما شكّلت الأرجحيات الطائفية متن النظام السياسي اللبناني وهوامشه في الجمهوريتين الأولى والثانية. والأرجح أنها ستكون كذلك في الجمهورية الثالثة التي يجري تدريب اللبنانيين لدخولها تحت وطأة الهول الأكبر الذي وقع في الرابع من آب/أغسطس الحالي، والذي توقع جيفري فيلتمان السفير الأميركي الأسبق “الخبير” بلبناننا أن تأثيره سيكون أكبر من زلزال 14 شباط/فبراير 2005.
ما لم يقله الحريري أن العدالة يجب أن تكون لبنانية وأن أسطورة التحقيق الدولي يجب أن تسقط من قاموس اللبنانيين، فأولوية الأولويات هي لأوسع إصطفاف سياسي وشعبي عابر للطوائف يفرض إستقلالية القضاء اللبناني
وحسناً فعل سعد الحريري عندما قال من أمام مبنى المحكمة الخاصة في لاهاي أن الحكم في قضية رفيق الحريري يجب أن يؤسس للعدالة والحقيقة في كارثة الرابع من آب/أغسطس 2020 (قضية مرفأ بيروت)، لكن ما لم يقله الحريري أن العدالة يجب أن تكون لبنانية وأن أسطورة التحقيق الدولي يجب أن تسقط من قاموس اللبنانيين، فأولوية الأولويات هي لأوسع إصطفاف سياسي وشعبي عابر للطوائف يفرض إستقلالية القضاء اللبناني، وهو إصطفاف سيجد آذاناً صاغية في الجسم القضائي وإرادة شبيهة بتلك التي قادها القاضي الإيطالي أنطونيو دي بيترو وإنطلقت معها “الأيادي النظيفة” التي وجدت أوسع مساندة من الرأي العام الإيطالي.
حكم المحكمة الدولية، الذي إستطالت ولادته 15 عاماً منذ الاغتيال المرعب، و13 عاماً منذ التأسيس في ايار/مايو 2007 تحت الفصل السابع الملزم من ميثاق الامم المتحدة، و11 عاماً منذ إنطلاقتها الفعلية، جاء مزيجاً من السياسة والعدالة في آن واحد. طيلة هذه السنوات كان لبنان واللبنانيون تفصيلاً في “لعبة الأمم”. وهم كانوا كذلك دوماً، ومنذ تأسيس الكيان الهش قبل مائة عام. ولطالما امتهنت طوائفه إستجلاب خارج ما للتوازن مع بعضها البعض أو لإستقواء بعضها على الآخر.
المزج بين السياسة والعدالة كان ديدن المحكمة منذ نشوئها. هذا الكلام لا يعطي صك براءة للمتهم أياً كان، سواء أكان الذي حددته المحكمة، أي سليم عياش أو الذي قد نعرفه بعد عشرات السنين وربما لا نعرفه أبداً، لكن هذه “الخلطة” كانت كافية لجعل كل تعويل مطلق على حكم المحكمة فيه شي من المُغامرة، فإذا كانت “الطبخة” خارجية، لا قدرة للداخل على تعديل مكوناتها، أما إذا هناك من يراهن على تعديل نوعي في التوازنات السياسية المُستحكمة بعضها مقابل البعض الآخر، فإن الوقائع كانت كافية للقول بإستحالة ذلك. فالإنقسام كان وسيبقى قائماً، وهو أعمق من حكم المحكمة، لا بل أدمنه اللبنانيون على إمتداد سنوات كيانهم الذي يبلغ مئويته الأولى على مبعدة أيام قليلة.
السياسة تمرين على التسويات، وعلى تجاوز الراهن نحو المستقبل. أما العدالة فهي مانعة للسياسة. وأحكامها تأتي للحد من سلطة السياسة في تقرير مصائر وحيوات البشر
السؤال اليوم، هل يُشكّل الحُكم الدولي، وبرغم تحريره قيادة حزب الله وسوريا من المسؤولية السياسية عن الجريمة، وتدميره الكثير من الوقائع و”الأساطير”، ممراً إلزامياً لتسوية سياسية جديدة أم لتصادم داخلي؟
حتى الآن، ثمة من يأمل أن يشكل دم رفيق الحريري دافعاً لإبراز مهارة اللبنانيين في صياغة تسوية سياسية متينة تعبر بهم من حال السلم الأهلي الرجراج منذ 15 عاماً والذي يتراقص على وقع قطع الطرقات وإشعال الإطارات والهتافات المذهبية، نحو الجمهورية الثالثة المشتهاة، ولو أن سعد الحريري كان مُصراً على وضع حكم المحكمة في خانة إعادة تثبيت النظام (إتفاق الطائف).. وإلا ما هو البديل؟ البديل المتاح حالياً هو “سورنة لبنان” وصولاً إلى إعادة ترسيم “الغيتوات”، الأمر الذي ما برح يتوسع ويُطالب به تحت عناوين كثيرة من اللامركزية الموسعة وصولاً إلى الفيدرالية. ولقد جاءت جريمة مرفأ بيروت لتضع شريحة وازنة من المسيحيين اللبنانيين للمرة الأولى في خانة التحرر من الشريك الآخر.. من دون أن تدرك أن الإهمال والفساد كانا دائماً عابرين للطوائف والمذاهب وأن الطوائف مهما أقفلت على نفسها، لن تتمكن من هزيمة تلك المافيات، والدليل على ذلك أنه في زمن الحروب اللبنانية الغابرة، كانت تلك المنظومات تعمل وتتعايش وتربح، بينما كان اللبنانيون من كل الطوائف يدفعون أفدح الأثمان.
الشك البديهي الذي يستدرجنا إليه حكم المحكمة، هو المزج العميق بين السياسة والعدالة. السياسة تمرين على التسويات، وعلى تجاوز الراهن نحو المستقبل. أما العدالة فهي مانعة للسياسة. وأحكامها تأتي للحد من سلطة السياسة في تقرير مصائر وحيوات البشر. إلحاق العدالة بالسياسة تشويه للأولى وتمكين للثانية وهو غير قانوني وغير أخلاقي. العدالة تعني سيادة الحق. أما السياسة فتعني سيادة موازين القوى.
لكأن خاتمة المحكمة تشبه بدايتها ومساراتها. مسار مُعتل الأداء بدأ مع تبدل المدعين العامين من ديتليف ميليس الى دانيال بلمار
المزج بين العدالة والسياسة إفتتحه أولاً وأخيراً سياق عمل المحكمة الخاصة سواء في الشكل أو في المضمون. فلم يكن عادياً تأجيل النطق بالحكم بدعوى جائحة كورونا وفي ظل سريان الحجر المنزلي. لقد بدا أن المُراد نطقه هو لتثميره سياسياً في الشارع. وليس عابراً أن يتبدل الموعد مجدداً من 7 آب/ اغسطس الحالي الى الـ 18 منه (اليوم) بدعوى التفجير “الابوكاليبسي” الذي أزال مرفأ بيروت.
لكأن خاتمة المحكمة تشبه بدايتها ومساراتها. مسار مُعتل الأداء بدأ مع تبدل المدعين العامين من ديتليف ميليس الى دانيال بلمار.
لقد لخص الصحافي اللبناني الدكتور عمر نشابة الذي تابع كل مسار التحقيق والمحكمة طوال 15 سنة نتيجة عمل المحكمة بالآتي: بعد 9 سنوات على انطلاقتها وبعد 15 سنة من التحقيقات الدولية وبعد صرف مليار دولار، الانتحاري: مجهول؛ الرجلان اللذان اشتريا الميتسوبيشي: مجهولان؛ الذين اشتروا الهواتف: مجهولون؛ اعضاء شبكات المراقبة: مجهولون؛ العقل المدبر: مجهول؛ الاشخاص الذين اتصلوا بمحطة “الجزيرة” ووكالة “رويترز” (شريط أحمد أبو عدس وتبني العملية): مجهولون؛ اعضاء الخلية المزعومة الذين كانوا يراقبون الشجرة حيث وضع الفيديو: مجهولون؛ الاشخاص الذين شاركوا بالتخطيط لاغتيال الحريري: مجهولون؛ الاشخاص الذين وجّهوا المتهمين للقيام بالجريمة: مجهولون.