أولاً، مع تكليف سعد الحريري، هل نعود إلى نقطة الصفر أما إلى ما دون الصفر أم ثمة فرصة جديدة؟
بالشكل، سعد الحريري تشرين الأول/أكتوبر 2019 هو نفسه في يومنا هذا. ثمة تعديلات طفيفة. نجح الرجل في إنزال وزنه. لم تعد معظم ملابسه متناسقة والـ”لوك” الجديد. هذا الأمر يقتضي ميزانية جديدة أو الإستعانة بأحد الخياطين البيارتة الأوادم. سوء توزيع الوقت يتصل بالإهتمامات. الأدق أن الأمر يتصل بهوايات عديدة لا يريد الرجل التخلي عنها. هذا شأنه الشخصي. ولكن أبعد من الشكل، ما هو الرصيد السياسي الذي حصّله الحريري على مدى سنة؟ هل أضاف إلى مكتبته أو هاتفه أو “التابليت” بضعة كتب أو دراسات سياسية أو تاريخية؟ هل صار قارئاً نهماً للسياسة؟ هل صار أكثر واقعية في فهم المشهد اللبناني؟ هل يستطيع أن يتحمل جلسات طويلة لفريق عمله من دون هاتف لا يفارق يديه وحوارات “واتسابية” يمكن أن يؤجلها حتى آخر الليل؟ هل بات مستعداً لأن يعطي السياسة الوقت الذي تستحقه تبعاً للحظة السياسية اللبنانية الإستثنائية؟ هل يقتدي بوالده الذي كان نهاره السياسي يبدأ فجراً ولا ينتهي إلا متصلاً بفجر اليوم التالي؟ هل صار أكثر تحملاً للنقد سواء أتاه من أهل بيته أم من خارجهم؟ هل بات معيار بُعد أو قُرب البعض إليه رهن حساباتهم بـ”الكاش” وما يصرفونه عليه أم رهن ما يقدمون إليه من أفكار ومبادرات وما يفتحون من أبواب؟
ثانياً، في خريف العام 2019، رَهَنَ الحريري ترؤسه حكومة جديدة بأمور عدة أبرزها ثلاثة إشترط التوافق المسبق عليها: حكومة إختصاصيين من غير الحزبيين (الشرط المضمر لإبعاد جبران باسيل عن الحكومة)؛ حقه في تسمية الوزراء بالحد الأقصى أو حقه بإستخدام “الفيتو” بالحد الأدنى؛ الموافقة المسبقة على الدخول في برنامج صندوق النقد الدولي.
مضت سنة على خروج الحريري من الوزارة، وها أن الفريق السياسي الذي رفض شروطه يقبل بها مجتمعة: حكومة إختصاصيين من غير الحزبيين برئاسة سياسي (الحريري)، حقه في إستخدام “الفيتو” على الوزراء الإختصاصيين الذين تسميهم الأحزاب؛ إستكمال المفاوضات والإنضمام إلى برنامج صندوق النقد. أكثر من ذلك، كان مجرد القبول بنسبة تسعين في المئة من “الورقة الفرنسية” بمثابة إلتزام مسبق بشروط صندوق النقد التي تعرضها تلك الورقة بالتفصيل الممل!
بهذا المعنى النقدي، كان لزاماً على لبنان واللبنانيين أن يدفعوا ثمن فاتورة العناد السياسي، فما لم يقبل به البعض قبل سنة، قرر أن قبل به الآن، لكن مع كلفة إضافية للبلد واللبنانيين. هل هذا الإستنتاج في مكانه؟
ثالثاً، ما الذي إستجد سياسياً منذ سنة حتى الآن، إلى حد أن ما كان مستحيلاً صار سلسبيلاً؟
المزيد من التردي الإقتصادي والمالي والإجتماعي؛ خسارة المزيد من المصداقية الدولية وبالتالي كل فرص الإنقاذ والمساعدة والدعم؛ إستمرار المعالجات الداخلية، من سياسية وإقتصادية ومالية، بوسائل تقليدية لا تمت بصلة إلى الواقع، وفي ذلك إشهار واضح للإنكار الوطني الشامل؛ إنفجار بيروت بما هو حدث تأسيسي تاريخي كبير؛ تطور سلاح العقوبات الأميركية إلى حد تهديد رموز سياسية “مفتاحية”، بدليل ما طال الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس؛ إنجاز إتفاق الإطار للترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل؛ زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الأخيرة إلى الولايات المتحدة، بأبعادها اللبنانية والإقليمية.
هذه هي أبرز المستجدات من سنة حتى الآن، لكن لا يجوز التقليل من أهمية ظواهر أخرى، أقله من زاوية ما تعنيه تحديداً للحريرية، وأبرزها الآتي: إستمرار سياسة الأبواب المقفلة خليجياً أمام وريث رفيق الحريري؛ بروز ظاهرة بهاء الحريري برغم بهتانها السياسي؛ تشظي المشهد السني اللبناني لغير مصلحة سعد الحريري؛ حضور لافت للإنتباه لبعض القيادات السياسية السنية ولا سيما نجيب ميقاتي، سواء في المشهد الداخلي أم الدولي؛ تزاحم الإستحقاقات اللبنانية من سياسية وإقتصادية ونيابية ورئاسية، في ظل مناخات متحركة، دولياً وإقليمياً.
رابعاً، عندما إستقال الحريري قبل سنة، لم تبدِ أية جهة دولية أو عربية حماسة لعودته إلى رئاسة الحكومة. هذه المرة يبدو المشهد مختلفاً. لماذا هذا الإنطباع؟
1- هناك مبادرة فرنسية خسرت الكثير من زخمها في أعقاب إعتذار مصطفى أديب، لكن حضور الدبلوماسي الفرنسي باتريك دوريل، في صلب الإتصالات السياسية في الساعات التي أعقبت تكليف الحريري، بيّنت أن الفرنسيين ما زالوا مستعدين، برغم الإنكفاء النسبي، لتوفير قوة دفع عبر عنها أحد كبار مساعدي الرئيس إيمانويل ماكرون بحديثه لأحد السفراء اللبنانيين عن ضرورة طي صفحة تصريف الأعمال سريعاً و”عليكم أن تفهموا أن كل شيء سياسي everything is political”، أي أن مفتاح صندوق النقد سياسي بالدرجة الأولى. طبعاً جرى تكليف السفير بيار دوكان بتأليف وفد حكومي فرنسي لمساعدة لبنان، وباكورة أعماله توجه وفد من الخبراء الجمركيين الفرنسيين إلى لبنان في الأسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل إلى بيروت، على أن تلي ذلك دعوة فرنسية إلى مؤتمرين في الشهر نفسه؛ الأول، مؤتمر مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان؛ والثاني، مؤتمر تحديد أولويات إعمار بيروت قبل نهاية تشرين الثاني/نوفمبر المقبل (عنوانه إنساني وإقتصادي ولكن مضمونه سياسي أيضاً).
2- تطور الموقف الأميركي في غضون سنة من موقف عدائي عبّر عن نفسه بتشجيع الحريري على الإستقالة في خريف العام 2019، وتطور بالمزيد من النأي بالنفس عن لبنان وصولاً إلى إستخدام سلاح العقوبات في الأسابيع الأخيرة. حالياً، نشهد تراجع المناخ الهجومي الأميركي، وهذا الأمر عبر عنه إتصال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو برئيس الجمهورية ميشال عون وعدم وضع مضبطة شروط قاسية أمام تأليف حكومة الحريري وإبداء أكثر من مسؤول أميركي حرصه على وجوب تأليف حكومة لبنانية تواكب مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة وبدور وسيط تعهد الأميركيون القيام به. ليس مستبعداً، في السياق نفسه، أن يستخدم الأميركيون سلاح العقوبات كقوة دفع بإتجاه تسريع ولادة الحكومة، وهو الأمر الذي ألمح إليه مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر، بشكل مبطن في الإتصالات التي أجراها مع عدد من “أصدقائه” اللبنانيين.
3- للمرة الأولى يتحرر سعد الحريري من الحسابات السعودية، فلا تكبّله الشروط المضمرة أو المعلنة. ما تطلبه الرياض وتحديداً محمد بن سلمان يفوق قدرته لا بل قدرة طائفته وجمهوره وبلده على التورط به. لذلك، لا بد من النأي بالنفس إيجاباً عن الرياض، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. بالمقابل، يدرك الحريري أن التبني الأميركي والفرنسي وحتى الروسي له ولحكومته الرابعة، من شأنه أن يكسر حدة الموقف الخليجي، ولو كان بعنوان “التحييد” في مرحلة أولى، أي الحد من الضرر الخليجي في لبنان.
4- لا يجوز التقليل من أهمية الموقف الإيراني. حسب موقع “ميدل إيست آي”، فإن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي طلب مؤخراً من مجموعات حليفة لطهران في العراق ضرورة التوقف عن مهاجمة المصالح الأميركية في العراق، ولا سيما السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، وذلك من أجل سحب الذرائع من إدارة الرئيس دونالد ترامب، مخافة إقدام الأخير على خوض مغامرة عسكرية طائشة، قبيل موعد الإنتخابات الأميركية، ومن أجل إعطاء هوامش أكبر لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي تحول دون سقوط حكومته وبالتالي تدهور الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن إنخفاض أسعار النفط وتعذر الدولة عن تسديد رواتب العاملين في القطاع العام، وهذا من شأنه أن يسبب متاعب لإيران المتورطة داخلياً بمصاعب إقتصادية ومالية وإجتماعية، وغير القادرة على كسر الحصار الذي يتعرض له حليفها السوري.
ما ينطبق على العراق، يسري على لبنان أيضاً. أحد تعبيرات الأزمة في لبنان حالياً هو إنكفاء الموارد بالعملات الصعبة. يكفي بدء المفاوضات مع صندوق النقد ومن ثم الإتفاق على البرنامج من أجل تعويم “سيدر” وأمواله، ولكن بشروط جديدة: نفذ يا لبنان الإصلاحات المطلوبة منك وخُذْ ما يدهش العالم!
يشي ذلك بأن عودة الحريري هي نقطة تقاطع إيرانية ـ أميركية ـ فرنسية، ولذلك، كان تواصل الحريري مع الخليلين (المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين خليل والمعاون السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل)، إيجابياً أكثر مما كان يتوقع الطرفان. يطرح الحريري حكومة من 14 وزيراً، ستكون المالية فيها من نصيب أحد وجوه التكنوقراط في الطائفة الشيعية، على أن يسمي حزب الله وأمل الوزراء الثلاثة: إثنان لأمل (بينهما وزير المالية) وواحد لحزب الله لحقيبة خدماتية أساسية. بالطبع، صارح رئيس مجلس النواب رئيس الحكومة المكلف بوجوب رفع عدد الوزراء إلى 18 وزيراً على الأقل، وقد وعد الحريري بدرس الأمر. بالنسبة إلى وليد جنبلاط، قضي الأمر: وزير واحد في حكومة الـ 14 أو 18 وزيراً من “صنف” عباس الحلبي أو رمزي سلمان، اي من غير الحزبيين، شرط أن يتولى حقيبة خدماتية أساسية (صحة أو تربية أو اشغال). ينسحب مناخ التوافق على رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي سيسمي وزيراً جديداً للحكومة وكذلك على حزب الطاشناق، على أن يتولى الحريري تسمية وزيرين سنيين في حكومة الـ 14 وزيراً أو ثلاثة وزراء سنة في حكومة الـ 18 وزيراً.
هذه هي بعض الوقائع والمعلومات، ولكنها ناقصة بالتأكيد. العديد من عناصر التأليف باتت مستوفرة وبنسبة مرتفعة جداً، لكن ينقصها الشق المتعلق بالتفاهم مع جبران باسيل ورئيس الجمهورية. ثمة لعبة عض أصابع، يبدو الحريري فيها هو الأقوى، حتى الآن. التكليف لن يتحول إعتذاراً ولو بعد سنتين. في المقابل، ها هو رئيس الجمهورية يُدشن الثلث الأخير من عهده. هل يريده لتصريف الأعمال وإدارة الإنهيار أم فرصة مفتوحة على إحتمالات كثيرة؟ ماذا يريد باسيل من الحريري الآن، وفي الإنتخابات النيابية ثم الرئاسية؟ ماذا يريد الحريري من باسيل ومن باقي أطياف المكون المسيحي في المواعيد نفسها؟
لن يكون رئيس مجلس النواب بعيداً عن مجريات التأليف بكل الإتجاهات. حزب الله لن يتردد أيضاً في الدفع بالإتجاه نفسه، لكن باسيل “لن يُترك لقمة سائغة”!
في الختام، عودة إلى مربع السؤال الأول: مع إعادة تكليف الحريري، هل نعود إلى نقطة الصفر أما إلى ما دون الصفر أم ثمة فرصة جديدة؟
نحن أمام أزمة نظام سياسي، لم يعد يملك قابلية الإستجابة لا للمسكنات ولا لأي نوع من الجراحات. نظام صار موته محتماً وولادة بديله أيضاً محتمة.. وللبحث صلة.