لأن الصحافي الراحل مصطفى ناصر هو الوحيد الذي تجرأ من بين مستشاري الحريري الأب والإبن على تقديم إفادة تفصيلية عرض فيها بالوقائع كيف بلغت العلاقة بين رفيق الحريري ونصرالله، في الحقبة الممتدة من آخر العام 2004 وحتى وقوع الجريمة، مرحلة إيجابية نوعية في مسار علاقة بين الرجلين بدأت في العام 1992.
هذه العلاقة كان الكاتب السعودي طارق زيدان (صهر ناصر)، قد سلّط الضوء عليها في كتابه عن محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر بعنوان “الجورنالجي وكاتم الأسرار.. أسرار وذكريات”.
لمناسبة صدور حكم المحكمة الخاصة بلبنان، ينشر موقع 180 مقتطفات من أحد فصول هذا الكتاب بعنوان “من قتل رفيق الحريري”؟
مَن قتل رفيق الحريري؟
“لم أجد أفضل من هذا العنوان لهذا الفصل، إذ لا يمكن الحديث عن محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر من دون الحديث عن رفيق الحريري، في علاقة تجمع ثلاثة أشخاص سجّلوا بصماتهم في كتب التاريخ، وسجلتُ أنا في محاضري ما سمعته عن رفيق الحريري، من الأستاذين ناصر وهيكل (…).
كل ما كنت أسمعه وأقرأه هو عن الأسطورة رفيق الحريري. الأسطورة التي لم أكن معجباً بها. فكيف لي أن أُعجب برجل يعمل في الشأن العام بنموذج كهذا في بلد ديمقراطي، ولا منافس ولا شريك له إلا من خلال الطائفية السياسية. كان مصطفى ناصر يجيبني بضحكة: «قلت هذا الكلام مرة لرفيق. قلت له: أنت يا دولة الرئيس لست التاجر الأكبر والسياسي الأكبر فحسب، بل أنت الناشر الأكبر أيضاً، فأنت يا رفيق تنشر ملايين النسخ من المصحف الشريف في مطبعة الملك فهد في المدينة المنورة».
وعندما سألته عن رد فعل الرئيس الحريري على هذا الكلام، بادر شارحاً: «رفيق قصة كبيرة، لا تهزه كلمة أو جملة، فهو يمتص كل شيء. هي شخصيته الفريدة». ثم سألت: «أيعني هذا أنه يُجيد قراءة ما بين السطور؟». مباشرة، ومن دون تفكير، أجاب ناصر: «طبعاً، طبعاً، يقرأ ما بين السطور وفوق السطور وكل السطور، رفيق، واللَّه، قصة كبيرة» (…).
قصص كثيرة يتذكرها مصطفى ناصر عن رفيق الحريري الإنسان. ورفيق الحريري السياسي. والأهم، رفيق الحريري الصديق.
أما الإنسان، وهو الجانب المغيّب عنه، فقد أظهره ناصر ببراعة في المحكمة الدولية، ومن على منبرها اللاهاويّ في هولندا. يومذاك، رافقته إلى المحكمة. وقد ذهب إليها بطلب من الادعاء العام للإدلاء بشهادته. وهو ما كان مثيراً لجهة أن الادعاء كان يتوجه في إدانته إلى حزب اللَّه في الجريمة. وقد كان الأستاذ ناصر صلة الوصل بين الحريري وحزب اللَّه، كونه مستشاراً خاصاً للرئيس رفيق الحريري.
نازك الحريري لمصطفى ناصر: “انت عملت من رفيق جبل، غيرك عملو بكّاء”، في إشارة منها إلى إفادة الرئيس فؤاد السنيورة حين ذكر كيف بكى الرئيس الحريري على كتفه، لتكمل قائلة: «لو بدو يبكي رفيق بيبكي على كتفي أنا”
كان تماسك مصطفى ناصر وحضوره، في كل التفاصيل والمواضيع، وبالرغم من رهبة المحكمة، جليّين.
كان واضحاً ومتميزاً، وبشهادة السيدة نازك الحريري حرم الرئيس رفيق الحريري. وقد قالت له حرفياً: «انت عملت من رفيق جبل، غيرك عملو بكّاء»، في إشارة منها إلى إفادة الرئيس فؤاد السنيورة حين ذكر كيف بكى الرئيس الحريري على كتفه، لتكمل السيدة نازك قائلة: «لو بدو يبكي رفيق بيبكي على كتفي أنا». وبعد كل جلسة من الأيام الثلاثة التي أمضيناها في لاهاي، كنا نجلس في أحد المقاهي من دون حراس أو مرافقة، نتحدث عن مجريات المحكمة.
كان يجول بنظره مسترجعاً كل ما قاله. والناس يمرون من حولنا، ولا علم لهم بمن يحاكَم، ولماذا يحاكَم، وعلى أية جريمة. جريمة غيّرت حياة عائلة وأسر ومجتمع وبلد، ولربما منطقة بأسرها، كما كان يقول الأستاذ ناصر.
وفي خضم التأمل سألته: «هل صحيح أنَّ الحريري جبل؟».
برقت عينا ناصر ليخرج من تأمله بفكرة جديدة حاضرة، ويبدأ بوصف رفيق الجبل والإنسان: «اجتمعنا مرة أنا ورفيق مع السيد حسن نصراللَّه والحاج حسين الخليل. وفي هذا اللقاء توجّه الحريري إلى السيد شارحاً موقفه مما يجري في المنطقة والمناكفات السياسية الداخلية في لبنان».
ثم أخرج مصطفى ناصر سيجاراً ليشعله وينفث دخانه في هواء لاهاي النقيّ، وفوق نهرها ومزارعها الخضر. ويكمل قائلاً: «في هذا اللقاء، قال الحريري للسيد أنت جبل، جبل في المقاومة، وأنا يا سيد جبل في الإعمار والاقتصاد. دعنا نضع أيدينا معاً لنستنهض البلد».
قاطعته عندئذٍ متسائلاً عن توقيت هذا اللقاء: أكان ذلك بعد القرار ١٥٥٩ أم قبله؟ فأجابني: «نعم، بعد صدور القرار الأممي ١٥٥٩».
وأخذ ناصر يرسم لوحة إنسانية لرفيق الحريري. شعرت كأنني في المقهى أجلس مع فنان يرسم الكلمات رسماً في بلاد فان غوغ.
قال مصطفى ناصر: «رفيق الجبل هو تراكم سنين من عمل وخبرة وتجارب. هذا الجبل عبارة عن مدماك فوق مدماك تأسس في صيدا، صيدا الناصرية والعروبية. هناك رضع الحريري حب الوطن العربي. كيف لا وهو الذي كان يفاخر بأن كتفيه العريضتين حملتا السلاح للمقاتلين من حركة القوميين العرب؟… هذا هو المدماك الأول».
يصمت قليلاً، يسحب نفساً من سيجاره، ويكمل: «المدماك الثاني كان حين وصل إلى مدينة الرياض. دخل هناك إلى قصور الملوك، وتعلّم فيها عمل الديوان ومَرافقه وزواريبه الخفية، ليتقدم على الكل في هذا الديوان المتشعّب العلاقات والمصالح. تقدّم على جميع العاملين فيه من وزراء ومستشارين وسفراء معتمدين وصحافيين، وحتى رجال دين. تقدّم لأنه كان يسمع ضجيج الصمت الملكي، ولأنه كان يلتقط الإشارة الملكية قبل حدوثها».
يستمر الحديث ونحن غير بعيدَيْن من مركز المحكمة الدولية المعنية بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويكمل: «أمّا المدماك الثالث، فهو حين وصل إلى دمشق. ففيها تعلّم الكثير عن علاقة السياسة بالأمن. وعاصمة الأمويين مدرسة في علوم الأمن السياسي منذ أن انقسم العالم الإسلامي، ولربما من قبل. تعلّم أن لكل ديوان ميداناً. والشام هي ميدان الجزيرة العربية، فأصبح منسّق العلاقة بين الديوان والميدان العربي، وهي علاقة الحريري مع حزب اللَّه بعد صدور القرار الأممي 1559».
ينتقل مصطفى ناصر بعدئذٍ بالحديث إلى المدماك الرابع، فيقول: «في فرنسا وعاصمتها باريس انفتح الباب الغربي على مصراعيه، فدخل الحريري إلى عصب الدول العظمى متعلّماً علاقة الذهب بالاقتصاد، والاقتصاد بالسياسة، والسياسة بالقرارات الدولية، وتعرّف إلى أصحاب الامتيازات الخاصة كالشركات العابرة للحدود. تعلّم متى يحرّك الذهبُ السياسيَّ، وكيف يصنع السياسيُّ الذهبَ»… وينتهي الكلام.
القصور لا تورث
أعاد مصطفى ناصر تكرار هذه المقولة مرات عدة أثناء زيارتنا مدينة لاهاي الهولندية. وكان يرددها أيضا عند الحديث عن قصر قريطم (منزل رفيق الحريري البيروتي).
استفاض ناصر معي خارج المحكمة في وصف الحريري الإنسان. وللحقيقة رسم لوحة بديعة بكلامه الذي كان يفيض بالعاطفة تجاه رفيق الحريري.
ونحن نمضي إلى جانب أحد القصور الأثرية التي تنتمي إلى القرن السابع عشر بين حدائق مدينة لاهاي الخضراء والبديعة الجمال، أعاد تكرار المقولة، ما دفعني إلى سؤاله: «هذه اللوحة التي رسمتها قبل دقائق لرفيق الحريري جميلة جدّاً، لكن أين هي الصورة الأخرى؟ صورة قصر قريطم المهجور، وأين هم مناصرو تيار المستقبل ومحبّو الحريري الأب التائهون في التفريق بين معنى الاتهام السياسي واتهام المجرم؟».
توقّف ناصر عن السير، وجمد في مكانه. تخطّيته ببضع خطوات، ثم توقفت لأجده واضعاً قبضتيه على وسطه قائلاً: «طارق، رفيق لم يحضّر أحداً لوراثته. لم يكن عنده وقت لذلك في أي حال».
سألته: «وماذا عن ابنه سعد؟».
«أنا أتعاطف مع سعد كثيراً من الناحية الإنسانية. أولاً هو ابن رفيق، ثمّ أنت تتكلم عن رجل مات والده فجأة وبطريقة بشعة جدّاً. ناهيك بالضغط الذي مارسه عليه الكثير من السياسيين. ظروف سعد الحريري صعبة. حتى حين عملنا معاً بعد تسلّمه الريادة، كنت أشعر بثقل الجريمة وإرثها عليه»، أجابني ناصر، ثم أكمل مشيته.
«إرث الجريمة؟»، سألته بصوت عال. «وماذا عن الإرث السياسي؟ ماذا عن تيار المستقبل؟ ماذا عن الحقيقة؟».
استمر ناصر في المسير مستعيداً كلامه في المحكمة، قائلاً: «ألديك علم أن من سخرية الأمور أن القاضي في هذه المحكمة الدولية لا يعرف تركيبة لبنان؟ فحين ذكرت له حصة الأرمن في الحكومة استوقفني وسألني: ما دخل أرمينيا في الموضوع؟ لا يعرف الناس عمل رفيق الحريري السياسي، ولا يعرفون أيضاً حجم عمله الإنساني في بلده. هذه هي الحريرية السياسية. سيظل اغتياله نقطة تحوُّل في لبنان والمنطقة، وطاغياً على إرثه السياسي والإنساني الحقيقي».
«حسناً أفهم ما تقول. لكن ماذا عن ابنه سعد؟ هل سيظل أسير هذا الإرث الذي طالب الكل بنصيبه منه، أم سيظهر الإرث الحقيقي كما تصفه؟»، سألت ناصر، ونحن نكمل المسير مستمتعين بهواء لاهاي العليل.
أجابني ناصر: «مشكلة سعد وتيار المستقبل ومحبّي رفيق، أن لهم أكثر من أب. سعد لديه أبوه البيولوجي رفيق، وأبوه السياسي فؤاد السنيورة. ولديه أيضا شركاء طبيعيّون من أحزاب لبنانية. ومفروض عليه شركاء لم يمارسوا العمل مع رفيق أو الحريرية السياسية بهذا المعنى. فينساق سعد إلى أحداث لا يريدها. تماماً كما حدث في 7 أيار/مايو» (…).
لا ينسى ناصر كيف كان الحريري ونصرالله يتسامران في لقاءاتهما المتعددة، وهما ابنا الجنوب، ويعرفان حصاد أرضهما من فواكه، ويعرفان أكثر طعم الجهد والكد اللذين يبذلهما الفلاح في أرضه
جنوبيا الشخصية
كثيرة هي المواقف بين الرجلين، لكنْ، في الشأن السياسي، تختلط علاقة الإنسان بالسياسة، فضلاً عن أن الكيمياء بينهما كانت فائضة، فقد غمرت العلاقة بينهما الثقة المطلقة، وتحديداً في عمل الأستاذ ناصر سنين طويلة مستشاراً للرئيس الحريري، ممسكاً بملف علاقته بإيران، وبالسيد محمد حسين فضل اللَّه وحزب اللَّه.
كان الأستاذ ناصر والرئيس الحريري الوحيدين اللذين يعلمان ما يدور بينهما من قضايا: زيارات وسفرات طويلة، ولم يكن بينهما حاجز أو مستشار. ولعلَّ أهمّها تلك الزيارات الليلية للضاحية الجنوبية، حيث مقر حزب اللَّه.
وفي كل مرة كان يهمّ فيها رفيق الحريري بالمغادرة مع مصطفى ناصر للقاء السيد حسن نصراللَّه، كانت السيدة نازك تقترب لتقرأ بعض الآيات القرآنية (ترقيه) لزوجها الرئيس.
وفي إحدى المرات لاطفت السيدة نازك زوجها، وسألته: «لماذا لا يزور السيد قصر قريطم؟». توجه مصطفى ناصر إلى الحريري سائلاً عمّا يمنعه من أن يطلب من السيد نصراللَّه زيارته في بيته، فكان أن أجاب الحريري الأب أن هناك اثنين فقط في لبنان يوجد مَن يموت من أجلهما، هما: نصراللَّه، ووليد جنبلاط. فما كان من الرئيس الحريري إلّا أن عرض على السيد حسن نصرالله النوم في منزله وفي سريره، إذا شعر بأن هناك خطراً عليه، أو إذا خشي من اعتداء إسرائيلي.
ويوم تعطّلت سيارة الرئيس الحريري الخاصة التي كانت ستقلهما إلى اجتماعهما الأول مع الأمين العام لحزب اللَّه السيد حسن نصرالله، يتذكر مصطفى ناصر كيف استاء الحريري استياءً بالغاً حتى وصول سيارة بديلة، وهما ينتظرانها عند طريق الأونيسكو المؤدي إلى الضاحية الجنوبية. ولا ينسى ناصر كيف كان الحريري ونصرالله يتسامران في لقاءاتهما المتعددة، وهما ابنا الجنوب، ويعرفان حصاد أرضهما من فواكه، ويعرفان أكثر طعم الجهد والكد اللذين يبذلهما الفلاح في أرضه.
كان الجانب الإنساني في علاقة الحريري ونصرالله كبيراً جداً: علاقة صداقة يسودها الودّ والاحترام، كما يصفها مصطفى ناصر. ومردّ ذلك في رأي ناصر أن «كلاً منهما جبل، لم يخطئ الرئيس الشهيد، وكلاهما خبر الفقر والعمل، وعرف البطولة وميدانها وقدراتها، والأهم من ذلك كله هو أنهما كليهما لبنانيّا الهوية، وجنوبيّا الشخصية. تلك الشخصية المرنة التي يتميز بها أهل جنوب لبنان» (…)
ولا أدري لماذا كان يصر على الإجابة بغموض عن رأيه في جريمة القرن، ولكنني وجدت الفرصة المناسبة في أحد اللقاءات مع الأستاذ هيكل.
كنا وحدنا، وأخذت أرشق الأسئلة رشقاً على الرجلين: في السياسة والتاريخ والجغرافيا. وقد عرّجنا في ذلك اللقاء على التاريخ الإسلامي ونظرية المؤامرة. وكان لمصطفى ناصر رأي في المؤامرات التي يستسلم لها العقل العربي، كأنه بلا حول ولا قوة.
وقد سألني الأستاذ ناصر عن الخلفاء الراشدين الأربعة، وكم قُتل منهم. ثلاثة من أربعة، يجيب، ليطرح بعده السؤال: «هل كان هناك أميركا وإسرائيل ويمين ويسار؟». قُتل هؤلاء الخلفاء لأسباب سياسية. ليستطرد هيكل شارحاً أن القتل، وسيلةً للعمل السياسي، وهو مدان، ولكنه يظل ممارساً منذ فجر التاريخ.
هنا وجدت الفرصة سانحة أمامي، فسألت: «يقال، أستاذ هيكل، إن جمال عبد الناصر قُتل، فما رأيك؟». ومع أنني كنت أعرف رأي هيكل في هذا الموضوع الذي تحدث فيه في مقابلات متعدّدة، إلا أنني أردت أن أمهّد للسؤال الذي يليه. وبعد أن شرح هيكل رأيه عدت إلى المناورة مرة ثانية، وكان مصطفى ناصر ينتظرني عارفاً ما سأسأله.
متكئاً على سؤالي الأول، انطلقت أسأل: «من الذي قتل الحريري في ظنّك؟».
لم يُجِب وهو الذي كشف الحيلة، بل أخرج نفسه ببراعة ناصرية بالإجابة عن السؤال بسؤال آخر «مين بيعرف؟». قالها وهو يرفع من كتفيه بالتساؤل، وكفاه تتحركان في نصف دائرة، ليتغير الموضوع.
وأمضي أنا بعد اللقاء إلى تدوين ما دار من حديث، من دون إجابة من مصطفى ناصر عمن قتل الحريري.
أدركت حينذاك أن مصطفى ناصر لن يجيب مباشرة، وأنه اتخذ قراره بإبقاء إجابته لنفسه. عندئذ قررت تغيير السؤال. وإن لم يجبني بالتأكيد، فقد يجيبني بالنفي. أي إنني لن أسأله «مَن قتل؟» بل: «هل ارتكبها فلان؟».