بالنسبة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، يبدو كل شيء منطقياً من حيث يقف ويتطلع، وهو بالطبع ليس المكان نفسه الذي تقف فيه فئة أخرى من اللبنانيين، وهنا يكمن النقاش الذي يعيدنا إلى جذر وجود “لبنان” منذ تأسيسه: وجهة البلاد وخياراتها مرتبطة بصيغة نظامها السياسي، وهو ما عبر عنه الراعي نفسه في مطولته عن “الحياد الناشط”، التي غلبت عليها “التمنيات” في منطقة فُرضت فيها “الخيارات” أقله خلال المائة عام الأخيرة “بالقوة”، خصوصا عندما نتحدث عن كيان عنصري كـ”إسرائيل” صنعته عصابات “الهاغانا” قتلاً واغتصاباً وتهجيراً.
توازياً، يظهر في المشهد كأن جميع “التوازنات اللبنانية” كانت تتحضر للإنفجار منذ ما قبل دوّيه في مرفأ بيروت، وعلى نسق ما حلَّ هناك، وفق ما هو معلومٌ في حده الأدنى، كانت الطبيعة “اللبنانية” بما تنتج من فساد تكدس الإشكالات وعوامل الإنفجار كما “النيترات المخبأة”، وأسئلتها المصيرية، كما “المفرقعات” الموضوعة بجانبها، ورعاة النظام الخارجيين، كما “قطرات اللحام” السائلة كصاعق التفجير فوق هذه التركيبة الهجينة من المحاصصة القاتلة وأبنائها المفسدين. ووقع الانفجاران، وكأن أحدهما يدل على الآخر، فعكس حجم التفكك المجتمعي اللبناني، وبدأ يأتي على ما تبقى من أنقاض المحاباة التي كانت قائمة بين طوائف البلد بإقطاعها السياسي والديني، هذه التي كرّست قيام نظامه الطائفي وما نتج عنه من “أشكال دولة” على جولات متتالية.
إختبر اللبنانيون خلال حربهم الأهلية جميع هذه الخيارات، فالراعي لا يطرح جديداً سوى “الحياد” بديلاً عن “السلام” الذي طرحه سابقاً فريق من اللبنانيين من نفس هواه السياسي، وهو ما عارضه أيضاً فريق من اللبنانيين إتخذ خيار المقاومة، وهو أمر لطالما خلق نقاشاً في البلاد حول خياراتها الكبرى، التي تستجد كلما استجدت طروحات التسويات في المنطقة، واليوم ونحن على باب ما يسمى “صفقة القرن” وفي عز الإصطفاف منها، يأتي طرح “الحياد” كأنه يريد إخراج لبنان من هذه المعادلة، وإخراج لبنان بكليته يعني إخراج عوامل قوته، أي المقاومة، من معادلة الصراع، وهو بالطبع ما لن يستطيع لا الراعي ولا غيره الوصول إلى نتائج طيبة حوله.
هل نريد لبناناً واحداً يتفق جميع أبنائه على هويته الوطنية وخياراته الإقليمية أم نريد “إمارات لبنانية متحدة” يفعل كل منها ما يشاء، وعندها قد تأتي الصيغة اللبنانية الجديدة أيضاً جواباً على السلم والتفكك العربي، والصراع الإقليمي، وهو تشرذم البلاد وتقسيمها؟
إن طرح البطريرك الماروني يتصل بهوية البلاد، أي موقعها في الصراع “العربي الإسرائيلي”، إلا إذا بات البعض في لبنان يرى أن لا صراع عربياً مع إسرائيل، ومن حقنا أن نلتحق بالركب العربي في هذا الإطار، خصوصاً بعد توقيع الامارات اتفاقها للسلام والمتداول حول لحاق عدد من البلدان العربية بها، وهنا يكبر السؤال أين “لبنان العربي” من الصراع مع إسرائيل بعدما بدأت مفاهيم هذا الصراع بالتبدل، وهو سؤال من ضمن أسئلة كبيرة يجب أن تجيب عنها صيغة النظام اللبناني المقبلة بعدما باتت الدول وطوائفها اللبنانية تبشر بصيغ جديدة. وهنا يجب التساؤل هل نريد لبناناً واحداً يتفق جميع أبنائه على هويته الوطنية وخياراته الإقليمية أم نريد “إمارات لبنانية متحدة” يفعل كل منها ما يشاء، وعندها قد تأتي الصيغة اللبنانية الجديدة أيضاً جواباً على السلم والتفكك العربي، والصراع الإقليمي، وهو تشرذم البلاد وتقسيمها كحل للصراع على خياراتها.
يعرف اللبنانيون جيداً أن معادلة الطوائف المتحكمة بالسلطة تعكس أيضا علاقتهم بالإقليم، وهو ما أنتج مثلاً ميثاق العام 1943 حيث تخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة مع سوريا مقابل تخلي المسيحيين عن طلب التدخل الغربي في الشؤون الداخلية، وهو ببساطة ما يظهر الترابط بين تأثير المعادلات الإقليمية على توازنات السلطة الداخلية، وقد ضرب الراعي خلال مؤتمره الصحافي مثالاً عن أحداث العام 1958 رابطاً بين الأزمة الداخلية آنذاك وتأثر فئة من اللبنانيين بالوحدة بين مصر وسوريا.
وبعيداً عن لغة المجاملات اللبنانية، يظهر الراعي اليوم وكأنه يخاطب شركائه من الطوائف، أي المسلمين، سنة وشيعة، وبقية اللبنانيين بالطبع، بالقول لهم خذوا موقفاً “محايداً” من إسرائيل لنتمكن من العيش مع بعضنا، ولكن الأخطر يكمن في علمه بأن فريقاً كبيراً من اللبنانيين لن يتخذ هذا الموقف، فما الحل؟ صيغة جديدة تضمن عدم تحمل أي فريق لخيارات الآخر، أو بمعنى آخر “أن لا نعيش مع بعضنا”، كما هي الحال الآن.
ومن مفارقات إنفجار المرفأ وما أظهره من تفكك لبناني، أن يأتي من يلاقيه بتدخل دولي بمظهر الملتزم بالطوائف وبشكل صيغة نظامها المقبل، كما يظهر ربط الراعي في تصريحه الأخير عن أن مبدأ الحياد يجب أن يترافق مع شكل جديد من السلطة ونظام الحكم قائلاً “إنَّ أيَّ حلٍّ لا يتضمّن الحياد الناشط واللامركزيّة الموسّعة والتشريع المدني ليس حلًّا بل مشروع أزمة أعمق وأقسى وأخطر”. وهنا جوهر المسألة: عود على بدء معادلة جديدة في الإقليم تساوي نظام حكم جديد في لبنان، أو في “الإمارات اللبنانية المتحدة”.