بعد مرور مئة عام على ولادة لبنان الكبير، يستذكر بعض اللبنانيين تلك الولادة وما تلاها بحنين لافتْ، ولهفة أقلّ ما يقال فيها: إنَّها متسرعة، وتدل على حالة العجز التاريخي الذي أنتجتها الميثولوجيا المتخيلة، والأساطير المؤسسة للكيان اللبناني، والتي هيمنت على الثقافة والتربية والإعلام اللبناني طوال عقود، ولم تنجح في تركيب وعيّ جمعي شامل على أساسها (مواطنة)، لأنّ نظام دولة لبنان الكبير وما تلاه من تعديلات شكلية بين 1926 و1989، حافظ على الجوهر الطائفي في تركيبته السياسية – الاجتماعية، والجوهر الخدماتي – الريعي في تركيبته الإقتصادية، فجرى فيها اختزال أدوار أساسية لمكونات لبنانية أصيلة لمصلحة التركيبة الطائفية التي تأسست مع لبنان المتصرفية الصغير وجرى تنظيمها وتشريعها مع لبنان الكبير، ثم بدأت خطوات مشروعيتها مع الجمهورية الأولى 1926 وصولا إلى الصيغة والميثاق واستقلال 1943.
هذا الحدث على أهميته التاريخية، يستدعي منّا قراءة متأنية ولو متأخرة مئة عام، عربون وفاء لآمال أسلافنا الذين سبقونا إلى هذه الأرض، وعملوا بصدق للحفاظ على هويتها وواقعها المستلب، ولم تكن تلك الدولة لتجسّد أمانيهم، بل فُرضت عليهم فرضا بالحديد والنار، ثمّ صبروا على سردياتها المملة المتخيلة والتي تصور لبنان “قطعة من السما”، فدفعوا ضريبة القهر ثم التهميش، حتى وصلوا إلى ثمن الشراكة المتكافئة لا الإلحاق، وثمن القوّة لا الإذلال، لوطن تتعدى فيه النسبية من قانون الانتخاب إلى الوطنية والحقيقة والحقّ.. وليس ذلك بغريب في ظلّ ما نعيشه من وقائع ونشهده من أحداث متسارعة، على اعتاب الفصل الأخير من العشرية الثانية للقرن الحادي والعشرين..
فلا تقتصر مهمة المؤرخ على تدوين الأحداث وتسجيلها والتحقق منها، بل تتعداه إلى تكوين الوعي التاريخي لدى الفرد والجماعة، الوعي بالهوية والحق والعدالة، الذي يعمل العدو على الدوام إلى كيّه ونسفه وتركيب وعي يتناسب ومخططاته.
فالتسرع الذي دفع الآباء المؤسسين لدولة لبنان الكبير، ليغنموا وطناً بقياسات خاصة، ولفرض أمر واقع بتوسل قوة خارجية، وتركيب وعيّ هشّ أوقع اللبنانيين في تناقض محكم، عكست بعضه سرديات التكوين في المفاصل التاريخية التي عايشها اللبنانيون في ظلّ القرارات الإنتدابية ودستور 1926 ثم ما تلاه من تعديلات عام 1943، وأحداث 1958 وصولا إلى الحرب اللبنانية 1975 وما تلاها من إتفاقيات وأزمات ما تزال تردداتها تصمّ أذاننا وتجعل حلمنا بوطن قويّ، حرّ، ومستقل في خانة الإمكان لا الواقع..
مؤتمر سان ريمو كلّف فرنسا بانتداب سوريا من دون أن يأتي على ذكر لبنان ككيان سياسي مستقل، كما ينقل إدمون رباط في كتابه:”التكوين التاريخي للبنان السياسيّ والدستوري”
دولة لبنان الكبير
هي الدولة التي أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو تأسيسها في احتفال قصر الصنوبر في بيروت وذلك في الأول من أيلول/سبتمبر 1920، انسجاما مع القرار 318 الذي اتخذه قبلها بيوم واحد والقاضي بتوسيع الحدود الجغرافية لمتصرفية جبل لبنان لتضم الأقضية الأربعة التابعة لولاية دمشق بعد فصلها عنها: حاصبيا، راشيا، البقاع وبعلبك، وأراضي ولاية بيروت والمدن الساحلية في الجنوب والشمال التابعة لها، تلبية لرغبات وآماني اللبنانيين التي حملتها الوفود اللبنانية الثلاثة إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، علما بأنّ مؤتمر سان ريمو كلّف فرنسا بانتداب سوريا من دون أن يأتي على ذكر لبنان ككيان سياسي مستقل، كما ينقل إدمون رباط في كتابه:”التكوين التاريخي للبنان السياسيّ والدستوري”، لذلك، كانت المرة الأولى التي ذكر فيها لبنان ككيان مستقل عن سوريا من خلال وثيقة ديبلوماسية دولية هي بيان الانتداب عام 1922.
وفي خضم الولادة الميمونة، عمل غورو على تقسيم سوريا إلى دويلات متعددة، معتمدا على الركيزة الطائفية، التي من شأنها اختراق النسيج الاجتماعي الموحد وجعله متعددا، ما يسهل التحكم والسيطرة ويخلق تناقضات جديدة تخدم السياسة التوسعية الفرنسية، الأمر الذي استدعى شجبا من الوطنيين في الداخل السوري واللبناني، وتعداه ليصل إلى رئيس لجنة الانتدابات في جنيف، كما أشار محضر الدورة الخامسة والعشرين، متهما فرنسا بتسعير الانقسامات والخلافات في سوريا بدل ان تعمل على زيادة الروابط الوثيقة من الناحية السياسية والاقتصادية تحقيقا للهدف الأساسي من الانتداب.
ولم تتوقف السياسة الفرنسية الماضية في فرض الانتداب على سكان تلك المناطق ترغيبا وترهيبا بل عملت بقوّة لصالح الإتجاهات الإنفصالية وزودتها بكل الإمكانات للبروز، وأعطتها إمتيازا في السياسة والإدارة والقضاء والاقتصاد، ما جعل التطبيع مع المحتل الجديد، يتخذ أبعادا اتصفت بالواقعية والمقبولية في لبنان، بينما شكّل اندلاع الثورة السورية الكبرى عام 1925، عاملا مسرعا نحو وضع الدستور وانبثاق ما عرف بالجمهورية الأولى عام 1926 في لبنان، وفتح الباب أمام سوريا للسير باتجاه جمهوريتها الأولى عام 1932، واستعادة وحدتها في أيلول/سبتمبر 1936 بانضمام دولة العلويين ودولة جبل الدروز.
قد لا يعرف جيل اليوم، أنّ دولة لبنان الكبير لم تنشأ على أسس ديموقراطية تنسجم مع مبادئ الثورة الفرنسية، التي ترتكز على الحرية والعدالة والمساواة، ولم يستفتَ سكان جبل لبنان ومدن الساحل والأقضية الأربعة حول فكرة الانضمام أو الانفصال، كما حصل في تلك الحقبة في بعض أقاليم أوروبا المنفصلة عن ألمانيا المهزومة، بل تم ّ الاكتفاء بشرعية القوة، والتي أصبغت عليها عصبة الأمم غطاء دوليا تحت ستار الانتداب، الأمر الذي جعل الفرنسيين يحكمون لبنان بقبضة حديدية، مستندين إلى الضعف والتشتت الذي أصاب الفكرة الوحدوية بعد تبخر الدولة العربية في دمشق، والدعم الذي قدمته الكنيسة المارونية، وبرجوازية الحرير والاستيراد والتصدير، المتمثلة في غالبية زعماء جبل لبنان وعائلات المكانة و”الإلتزام” في المناطق المختلفة، وقد حرص الفرنسيون على تكرار إلتزامهم بأماني ورغبات السكان اللبنانيين في جبل لبنان، من دون أن يلتفتوا إلى أماني ورغبات سائر سكان المناطق الأخرى، في الشمال، الجنوب وبيروت.
جاءت دولة لبنان الكبير استجابة استراتيجية، تضمن لفرنسا الاستحواذ على الجغرافية السياسية بما يخدم مصالحها الإقتصادية والسياسية الظرفية والسريعة في لبنان والمنطقة
أظهرت الوقائع لاحقاً أن سياسة الانتداب عكست “تقاطعا مصلحيا حول شبكة من المصالح الاقتصادية بين رأسمالية فرنسية ساعية إلى تأمين حضور فاعل في السوق العربية المشرقية، من جهة، وبين برجوازية لبنانية – برجوازية الحرير- الآخذة بالاندماج المتزايد مع الرأسمال الأوروبي ولا سيّما الفرنسي”، من جهة أخرى، فجاءت دولة لبنان الكبير استجابة استراتيجية، تضمن لفرنسا الاستحواذ على الجغرافية السياسية بما يخدم مصالحها الإقتصادية والسياسية الظرفية والسريعة في لبنان والمنطقة، كما تؤمن مصالح بعض اللبنانيين الذين يريدون وطنا مغايرا عن المحيط الجغرافي، وبعضهم الآخر الذي يريد ديمومة في سلطته الإقطاعية أياً كان الحاكم أو المحتلّ، فسمح ذلك لفرنسا الإمساك بتلابيب الحكم على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، ومنحها القدرة على التحكم في المفاصل والأماني المستقبلية بما ينسجم مع مصالحها العليا، ودخل لبنان من وقتها في لعبة المزايدات الدولية على حساب بناء الدولة القادرة والقوية.
تم تشكيل بنية الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما ينسجم مع سياسة الامتيازات والسمسرة الداخلية والخارجية، وتمّ اختصار الشعوب اللبنانية بزعامة طائفية وثقافة غربية تطورت مع الأيام لتصبح وجه لبنان المثالي، ما أفقد الوطن طوال العقود التي تلت الجلاء العسكري الفرنسي عن لبنان، الاستقرار نتيجة افتقاد نظامه لسلامة التمثيل السياسي والعدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية، وإفتقاره إلى سياسة خارجية تمنع تدخل الخارج وعبثه في شؤونه، وهكذا ومع كل أزمة سياسية كانت الدولة تتحول إلى مزرعة طائفية، والمساحة الجغرافية الممتدة إلى ساحة للجنون والعبث اللامحدود.
منطق الاستبداد والقوّة
ترافقت السيطرة الفرنسية مع مجموعة من القرارات التي أعادت تشكيل الخريطة السياسية في لبنان والمنطقة السورية، وفقا لمصالح فرنسا العليا، ووفقا للوعد الذي منحه “كليمنصو” للبطريرك إلياس الحويك، فبعد قرار الثالث من آب/أغسطس 1920 الذي حمل الرقم 299 والذي بموجبه فصلت الأقضية الأربعة عن ولاية دمشق، أعقب ذلك حزمة قرارات كان أكثرها أهمية القرار 318 في الحادي والثلاثين من آب/أغسطس 1920 الذي تحددت بموجبه حدود دولة لبنان الكبير والمناطق التي يتألف منها، والتي حرص “غورو” على تقديمها بالقول: “بما أن فرنسا لم تقصد بمجيئها إلى سوريا إلا تمكين أهالي سوريا ولبنان من تحقيق أصدق أمانيهم من حرية واستقلال، وبما أنه يقتضي لتلك الغاية أن ترد إلى لبنان حدوده الطبيعية كما عينها ممثلوه وأجمعت عليها رغائب عموم أهاليه”، لكن سرعان ما اكتشف اللبنانيون زيف تلك الإدعاءات، ويروي الرئيس صائب سلام كلاما سمعه والده سليم علي سلام من البطريرك حويك أمام وفد إسلامي – مسيحي مشترك، حيث أبدى بطريرك الموارنة استيائه من السياسة الفرنسية في لبنان، فبادره أحد أعضاء الوفد، ولماذا صاحب الغبطة أيدتم احتلالها للبنان؟ فقال البطريرك: “يا ابني وجدنا فرنسا مثل النار، كنا من بعيد نتدفأ على حرارة عاطفتها، أما اليوم، وقد أصبحت قريبة منّا، فقد أخذت هذه النار تحرقنا..”.
القرار 336 وتنظيم الدولة
كان منتظرا أن يكون القرار 336 بمواده الأربعين، والذي صدر في الأول من أيلول/سبتمبر 1920، محطة أساسية لتزويد لبنان الكبير بهيكلية الدولة وتنظيماتها وإدارتها، وإذ بهذا القرار، يضمن للحاكمين الجدد الإمساك الكلي بلبنان الكبير ومن فيه وما عليه طوال وجود فرنسا في لبنان 1918- 1946. ماذا كانت نتيجة القرار؟
- قسّم القرار لبنان الكبير إلى أربع متصرفيات وبلديتين مستقلتين، ثمّ قُسّمت المتصرفيات إلى أقضية والأقضية إلى مديريات.
- حدّد القرار بيروت لتكون عاصمة لبنان، خصوصا بعد أن ازدادت أهميتها التجارية ونشاط مرفئها المتصاعد ابتداء من العام 1894، وتم تهميش بقية المرافئ اللبنانية، لا سيّما مرفأ صيدا ليتحول إلى مرفأ لبضاعة الخردة.
- اعتمد القرار المركزية والإدارة المباشرة، وجعل من المفوّض السامي الفرنسي هو مركز القرار الرئيسي ومصدر السلطات، تماما كما في الأنظمة الدكتاتورية، وتم إناطة تنفيذ تلك القرارات بالسلطة التنفيذية التي يرأسها موظف فرنسي بوصفه: “حاكم لبنان الكبير” (المادة 6)، على أن يكون مسؤولا تحت سلطة المفوّض السامي عن “النظام والأمن العام في البلاد والإدارة العامة للدولة”، كما نصّت المادة السابعة، ولإجل تنفيذ تلك المهام، خوّله مجموعة من المهام والصلاحيات كاستدعاء القوات المسلحة، ووضع ميزانية الدولة، والقيام بمهام الأشراف والمراقبة لميزانيات الإدارات المستقلة وفرض الضرائب، وتعيين الموظفين إلا “أولئك الذين يتوقف اختيارهم على موافقة المفوّض السامي..” (المادة 9).
- أعطى القرار صلاحية لحاكم دولة لبنان الكبير بتعيين مدراء للمصالح العامة بعد موافقة المفوّض السامي عليهم، وهم يخضعون لسلطة الحاكم رأسا ويعرضون عليه تقاريرهم ومشاريعهم وآراءهم (المادتان 10 و15)، ولا يتمتع مدراء المصالح بصلاحيات واسعة، فهم نواب للحاكم في تلك المصالح غير مطلقي الصلاحية، بل “يعاونهم مستشارون فرنسيون يعيّنون من قبل المفوّض السامي الفرنسي بعد استشارة الحاكم وموافقته” (المادة 11)، وأما صلاحيات هؤلاء المستشارين فقد كانت واسعة ولهم حق الاطّلاع على كل القرارات والتوقيع عليها واستمر ذلك بعد وضع الدستور كما تظهره بعض الوثائق التي تتعلق بقرارات مجلس بلدية النبطية الممهورة بتوقيع المستشار الإداري “بيشكوف”.
هذه الصلاحيات الواسعة لم تمنع الفرنسيين من اختيار شخصيات موالية بالمطلق للسياسات الفرنسية لشغل مركز مدير مصلحة، أو رئيس بلدية، أو حتى تعيين القاضي في المحكمة طيلة فترة وجودهم في لبنان.
- حدّد القرار المصالح العامة التي يجب إنشاؤها على الشكل التالي:”دائرة الداخلية والجاندرمة والبوليس، دائرة المالية، دائرة العدلية والأملاك والأوقاف، دائرة النافعة والبرق والبريد، دائرة المعارف والفنون الجميلة الدائرة الاقتصادية (الزراعة والتجارة والصناعة)، دائرة الصحية والإسعاف. (المادة 14).
- التمثيل الوطني: تكفلت المواد، من 16 إلى 24 بتحديد المشاركة وكانت شكلية، ولا تتعدى أخذ الرأي، من دون أن يكون لها سلطة تقريرية مستقلة، وكانت محدودة العدد (15 عضوا، ثمّ عدّلت إلى 17 عضوا) بأكثرية مسيحية، واعتمد في تشكيلها الأسس الطائفية والتقليدية التي كانت سائدة في متصرفية جبل لبنان وكانت تدعى لإبداء الرأي “في التدابير ذات الطابع التشريعيّ، وفي الأنظمة، وفي وضع ميزانية الدولة، وفرض ضرائب جديدة ورسوم وامتيازات تجارية”. (المادة 16)، ولا يحق لها مفاوضة مدراء المصالح ومراجعتهم إلا بإذن الحاكم (المادة 17)، كما لا يحق لها الاجتماع للتداول بأمر ما إلا بوجود ثلثيها على أقل تقدير (المادة 18)، وإذا تعارض رأي اللجنة الإدراية مع رأي الحكومة فالمرجعية لفضّ النزاع وإعطاء الكلمة الفصل بيد المفوّض الساميّ (المادة 19)، وأرجأ القرار إقرار نظام الجلسات الخاص به فضلا عن اختصاصاتها التي لها الحق في تداولها في ما بينها، وإعطاء المشورة، ما يجعل من صلاحيتها الاستشارية مقيدة وغير مطلقة. وانسجاما مع مبدأ التوزيع الطائفي، وإذكاء الروح المذهبية، وجعلها معيارا للتمثيل في مرافق الدولة ومجالسها ووظائفها، حدّد القرار ممثلي اللجنة بحسب مذاهبهم الدينية، وعدّد أعضاءها في المتصرفيات، والبلديتين المستقلتين، وقد تشكلت بقرار من المفوّض السامي الفرنسي وليس بالانتخاب.
انتظر الفرنسيون حتى الثامن من آذار/مارس 1922 لإصدار قرارين يتعلقان بإنشاء مجلس تمثيلي (منتخب) لدولة لبنان الكبير، على أن ينتخب أعضاؤه الثلاثون على أساس نسبة عدد كل طائفة موجودة في دولة لبنان الكبير وفقا لنتائج إحصاء 1921.
استمر المجلس التمثيلي الأول في عمله حتى صدر قرار حلّه الرقم 3023 تاريخ 5/1/1925، من المفوض السامي، ثمّ جرت انتخابات المجلس الجديد في 13 تموز 1925.
بالنسبة إلى الإدارة المحلية، جعل القرار (336)، على رأس كل متصرفية متصرفاً يديرها بالنيابة عن حاكم لبنان الكبير، ويتم تعيينه من المفوّض السامي بطلب من حاكم لبنان الكبير، وقد أنيطت به متابعة تنفيذ القوانين في متصرفيته والانظمة وتحصيل الضرائب وإدارة اعمال الحكومة (المادتان 25-26). يكون إلى جانبه مستشار فرنسي له صلاحية الإطلاع على كل القرارات والتعليق عليها والاحتكام إلى الحاكم العام بحال وجود خلاف مع المتصرف (المادة 27)، ويرأس المتصرف مجموعة من الدوائر الممثلة للمديريات العامة كالصحة والمالية والنافعة، ولجنة إدارية مؤلفة من عشرة أعضاء لهم صفة استشارية تعين من قبل الحاكم لمدة سنة (المواد 28، 30، 31). وأما الأقضية التي تتفرع عن المتصرفيات، فيكون على رأسها قائم مقام يعينه حاكم لبنان الكبير بناء على اقتراح المتصرف، ويكون مسؤولا أمام المتصرف عن الأمن والنظام وتنفيذ القوانين وغيرها وقرارته لا تصبح نافذة إلا بعد موافقة المتصرف (المادتان32-33).
ونصت المادتان 34 و35 على تعيين مدراء المديريات من قبل المتصرف، بعد اقتراح قائم المقام ويكونون مسؤولين أمام قائم المقام، وربطت الموافقة على تعيينهم بالمستشار الفرنسي في المتصرفية.
أما البلديات، فقد أبقاها القرار 336 على حالها، وأناط وضع انظمتها الخاصة بالحاكم العام بعد عرضها على المفوّض الفرنسي، ليوافق عليها (المادتان 37-38). أما المادة (39)، فقد أدخلت القرار حيِّز التنفيذ بتاريخ صدوره (1 أيلول/سبتمبر 1920) وجاءت المادة الأربعون، لتنيط تنفيذ القرار برمته بالسكرتير العام، ورئيس هيئة التفتيش الإداري، وحاكم لبنان الكبير، كل حسب صلاحيته.
هكذا يتبيّن شكل الإدارة الفرنسية للبنان الكبير، الذي اتصف بهرمية مركزية شديدة (محافظة، قائماقمية، مديرية، بلدة)، يشكل المفوّض السامي فيها رأس الهرم، وترتبط به وبمساعديه كل الدوائر على اختلاف أحجامها ومستوياتها، ما يمكّنه من الإمساك بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية.
أدّت الثورة السورية الكبرى عام 1925 إلى تسريع العمل في الدستور، خصوصا أن صك الانتداب في مادته الاولى نصّ على الآتي:”على الدولة المنتدبة أن تضع دستورا للبلاد في غضون ثلاث سنوات، بدءا من الشروع بتطبيق هذا الانتداب، نظاما أساسيا لسوريا ولبنان..” وكانت عصبة الأمم قد أقرّت الانتداب بشكل نهائي في جلستها التي عقدت في لندن في 24/7/ 1922، ووضع موضع التنفيذ في 29/9/1923.
أعلن المفوّض السامي الفرنسي أمام المجلس التمثيلي بدء العمل بالدستور، في 23/5/1926، وفي اليوم التالي، أصدر مرسوما بتعيين 16 عضوا في مجلس الشيوخ، بعد أن منحته المادة 98 من الدستور حقا مؤقتا في ذلك. ثمّ التأم المجلسان لانتخاب أول رئيس جمهورية، فكان الخيار بتوجيه من الفرنسيين لصالح شارل دبّاس، مدير العدلية وأحد أهم الوجوه الأرثوذكسية المؤيدة لسياسات الانتداب في لبنان. أعقب انتخاب الرئيس تشكيل أول حكومة برئاسة أوغست باشا أديب وعضوية سبعة اعضاء يمثلون الطوائف الست الكبرى في لبنان بتاريخ 29/5/ 1926، وبموجب الدستور الجديد، تغير اسم دولة لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية، وأصبح لها رئيسها الذي هو رأس السلطة التنفيذية يعاونه مجلس للوزراء، وأعطيت لرئيس الجمهورية الصلاحيات التنفيذية التي كانت بيد الحاكم، وأما الوزراء، فإنهم يعاونونه على إدراة مديريات المصالح، لكن تضخم دور رئيس الجمهورية خصوصا بعد التعديل الدستوريّ في 17/11/1927، الذي قضى على نظام التمثيل الثنائي، وقضى على التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وأصبح البرلمان “منذ ذلك الحين خاضعا لرئيس الجمهورية”، علماً أن رئيس الجمهورية بصلاحياته التفيذية كان تحت سلطة المفوّض السامي، وهذا ما يفسّر الضغط الكبير الذي مارسه الانتداب لإقرار هذه التعديلات الدستورية.
بدوره، تحول المجلس التمثيلي إلى مجلس نيابي، كان يفترض به أن يمارس دورا تشريعيا في البلاد، ورقابيا على السلطة التفيذية التي يمثلها رئيس الجمهورية والوزراء، ولكنه طوال تلك الفترة كانت هموم أعضائه منصبة على الاهتمام بمصالحهم الخاصة، وبالخلافات المحلية في المدن والدساكر والقرى بين محازبيهم، فضلا عن خضوعه الكبير لإدارة المفوّض الساميّ الفرنسي، وتدخلاته، حيث كان له اليد الطولى في اختيار النوّاب وإيصالهم إلى الندوة البرلمانية، خصوصا أن المفوّض الساميّ قد احتفظ لنفسه بصلاحيات واسعة بموجب مواد الدستور(*)، المتعلقة بالانتداب الفرنسي التي قيّدت الجمهورية بحبال الانتداب وجعلت صلاحياتها محصورة ضمن إطاره وفي ظلّ رقابته. فأضحتْ السنوات التي أعقبت وضع الدستور حافلة بالهيمنة الفرنسية على المستويات التشريعية والتنفيذية، فتمّ تعديل الدستور أكثر من مرة لضرورات فرنسية، كما علّق العمل فيه أكثر من مرة لضرورات فرنسية أيضا، ولم توفر الإجراءات الفرنسية القمعية أحدا، فأقالت رؤساء الجمهورية والوزراء، وحلت المجلس النيابيّ مرات عدة.
عند قراءتنا للجدول المرفق أعلاه، تتأكد لدينا الهيمنة الفرنسية والإستبداد الذي مارسته على الحياة السياسية والإدارية فضلا عن الهيمنة الاقتصادية والثقافية، ويمكن تلخيصها على الشكل التالي:
- غالبية الأسماء الواردة في الجدول إن لم تكن باكملها، كانت على علاقة ممتازة بالفرنسين، خصوصا على مستوى رؤساء الجمهورية، والوزراء، وأمناء سرّ الدولة، إضافة إلى مدراء المصالح العامة الذين كانوا في مرات عديدة يهيمنون على صلاحيات الوزارات، ويدارون بإشراف المفوّض السامي الفرنسي، الذي كان له التوقيع الحاسم في تعيينهم. فالرؤساء شارل دباس وبشارة الخوري وإميل إده كانوا موظفين كبارا في الإدارة الفرنسية للبنان، قبل أن يتقلدوا مناصب سياسية، وحبيب باشا السعد وبرغم قبوله لمنصب رئيس الحكومة العربية في جبل لبنان لأيام معدودة، ما لبث أن أصبح من رجالات العهد الانتدابيّ. وكذلك الشخصيات الإسلامية كانت معروفة بولائها للإنتداب الفرنسي، كخير الدين الأحدب، عبد الله بيهم، عبدالله اليافي، خالد شهاب.
- يلاحظ أن الانتداب الفرنسي اعتمد على رؤساء جمهورية من الموارنة أكثر من الطوائف المسيحية الأخرى، فضلا عن كون جميع رؤساء الجمهورية من بيروت وجبل لبنان، ما يؤشر إلى الأهمية التي كانت توليها فرنسا لتلك المنطقتين، وجُلهم من العائلات البرجوازية والنخب المدينية، وعلى الرغم من وجود ثلاثة رؤساء من غير الموارنة، فإنّ غالبية الرؤساء كانوا من الموارنة واستمر ذلك بعد الاستقلال.
- إنّ رؤساء الحكومات من بداية عهد الجمهورية 1926 ولغاية 1934 لم يكونوا من الطائفة الإسلامية والمذهب السنيّ تحديدا. في العام 1934، تمّ تعيين عبدالله بيهم أمينا لسرّ الدولة، والذي كان بمثابة رئيس الوزراء آنذاك، وفي عهد الرئيس إميل إده تم تعيين خير الدين الأحدب رئيساً للوزراء.
- بلغ عدد الحكومات التي تعاقبت على الحكم في ظل الانتداب الفرنسي 19 وزارة، تميزت بقلة مقاعدها، فلم نشهد مجلس وزراء بعشرة مقاعد، سوى مرة واحدة في العام 1941 برئاسة أحمد الداعوق، بينما كانت الحكومات الأخرى، تتراوح أعدادها بين ثلاثة، خمسة، إلى سبعة وزراء فقط. وهذه السياسة الفرنسية كانت تهدف إلى حصر النفقات من جهة، وضبط عملية التوزير بمن يثق الانتداب بتوجهاته السياسية الموالية، من جهة ثانية، ما يمنح الأعداد الضئيلة ميزة تجعلها أكثر سهولة في التحكم بتوجهاتها.
- الوزراء الموارنة هم الأكثر عددا في كل الوزارات (31 وزيرا)، إضافة لعدم غيابهم عن الوزارة سوى مرة واحدة في وزارة أيوب ثابت في عهد الرئيس ألفريد نقاش، بينما الوزراء السنة بلغوا 21 وزيرا، دون احتساب لرئاسة الوزراء وأمين سر الدولة، ولم يغيبوا عن جميع الحكومات التي تشكلت في عهد الانتداب، وأما الوزراء الشيعة فبلغوا 17 وزيرا وغابوا بالكامل عن أربع حكومات.
لمناسبة مئوية لبنان، يُطرح السؤال: هل نحن أمام نظام لبناني قديم أفل وهجهُ وأضحى في أيامه الأخيرة؟ وهل الباب مفتوح بقوة للتغيير واجتراح نظام جديد؟
لم يستطع دستور 1926 العبور بالجمهورية اللبنانية الوليدة إلى الاستقلال والسيادة والحريّة، فقد خطا بها خطوة إلى الأمام، دون أن يكفّ التدخل والتحكم الفرنسي في مفاصل السلطتين التشريعية والتنفيذية فضلا عن القضائية، وكانت النتيجة أن سيطرت السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، بدعم من الانتداب بشخص المفوّض السامي، فالدستور العتيد جعل من رئيس الجمهورية وما يمثل من سلطة تنفيذية موظفا هو ومعاونيه – من أمين سرّ الدولة، مرورا بالوزراء، وصولا إلى مدراء المصالح العامة – أمام المفوّض السامي الفرنسي، الذي يقوم بتعيينهم وصرفهم متى شاء، بإشراف من المستشارين الفرنسيين، الذين يراقبون عمل هؤلاء ويصادقون عليه، واستمر لبنان بسلطاته يخضع للإملاءات الفرنسية في مدّ وجزر بصرف النظر عن المصلحة الوطنية، وجاء وعد الاستقلال الذي تعهد به الجنرال كاترو قبيل حملة الحلفاء على لبنان وسوريا عام 1941، مع ما لحقه من مماطلة وتسويف، ليُشعِر اللبنانيين – الموالين لفرنسا قبل غيرهم – أن فرنسا ليست قدرا، وأن ضمانتها لاستقلال لبنان يعتريه كثير من الشكّ، فجاء الدور الإنكليزي ليضيف إلى تلك العمارة لبنة تلاقٍ، ليس حبا بلبنان وإنما بغضا لفرنسا وتقويضا لمصالحها، ودفع باتجاه حوار بين الاتجاه الوحدوي الذي كان يمثله رياض الصلح، والاتجاه اللبناني الوسطي الذي كان يمثله بشارة الخوري، ثمّ سرّع الإتجاه المذكور اجتماع بكركي في 25 كانون الأول/ديسمبر 1941، ليجمع اللبنانيين على مختلف طوائفهم ومناطقهم على قضية واحدة، للمرة الأولى منذ بداية الانتداب.
لقد شكّل ذلك دفعا قويا باتجاه الوفاق اللبناني الذي تجسد في الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1943، ليتحق الإستقلال السياسي عن فرنسا، وتبدأ مرحلة جديدة من النزاع الداخلي وإعادة إنتاج السلطة بما ينسجم مع المتغيرات الخارجية والتي أرخت بظلها القاتم بعد نكبة 1948 وإنكشاف المنطقة العربية على صراعات إتخذت طابعا قوميا، عنوانه فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ بات موقع لبنان الإقليمي عنوان تجاذب داخلي بين المكونات السياسية الطائفية والإمتيازات الإقتصادية.
خلاصة
لمناسبة مئوية لبنان، يُطرح السؤال: هل نحن أمام نظام لبناني قديم أفل وهجهُ وأضحى في أيامه الأخيرة؟ وهل الباب مفتوح بقوة للتغيير واجتراح نظام جديد؟ هل صحيح القول، إنّ آمال وآماني الشعوب اللبنانية “المشتبكة” يكمن في الحياد والوصاية الدولية الجديدة؟ ماذا عن الأخطار المحدقة بنا، في ظلّ تهديد وجوديّ جاثم على حدودنا الجنوبية، وماذا عن صفقات القرن المشبوهة التي تريد تغيير وجه المنطقة وخياراتها، وماذا عن اللعبة الطائفية الكبرى التي تهبّ في الإقليم لتقسيم المقسّم، هل ستتركنا وشأننا؟ هل مئوية لبنان الكبير تستحق الإحتفال أم الجنازة؟ هل نرغب بتكرار الهيمنة والتبعية على قرارنا ووجودنا.
إن كان لا بدّ من احتفال، علينا أن ننتظر مئوية استقلالنا عن فرنسا في العام 2043 . لعلّ وعسى أن يكون منجزاً في ذلك الحين.
(*) خصص في دستور 1926 ، خمس مواد تتعلق بالانتداب، وهي المواد 90، 91، 92 ، 93 ، 94 ، 95 . كما أنّ المادة الخامسة أقرّت أن علم الانتداب هو العلم الرسمي للجهورية اللبنانية، بينما تكفلت المادة الحادية عشرة، بتشريع اللغة الفرنسية كلغة رسمية للجمهورية إلى جانب اللغة العربية، الأمر الذي جعل الجمهورية اللبنانية من خلال دستور 1926 تعترف اعترافا رسميا بالانتداب وتأكيدا على ذلك نصّت المادة 102 على التالي :”يوضع هذا الدستور في عهدة الجمهورية الفرنسية بصفة كونها منتدبة من لدن عصبة الأمم، وقد ألغيت كلّ الاحكام الاشتراعية المخالفة لهذا الدستور”.