الأردن في مهب توازن دقيق.. تبريد لهيب غزة وحماسة الإسلاميين!

ليس تفصيلاً أن تتحرك الولايات المتحدة بشكل جدي هذه المرة لفرض هدنة في قطاع غزة، بعدما باتت الإدارة الديموقراطية تستشعر بالأثر السلبي للحرب على حملة جو بايدن الإنتخابية من جهة وما يمكن أن يُشكّله استمرار الحرب من تهديد لمصالح واشنطن وعدد من حلفائها في المنطقة من جهة أخرى.

لم تجد دولة عربية نفسها في وضع مُحرج كالذي يواجهه الأردن منذ اندلاع شرارة “طوفان الأقصى” حتى يومنا هذا. هذه الدولة العربية تحديداً ترزح منذ سنوات تحت وطأة أزمة اقتصادية تجري محاولات لمعالجتها بهندسات مالية تشبه تلك التي شهدها لبنان قبيل الانهيار بسنوات قليلة؛ وها هي تجد نفسها محاصرة بضغوط من كل حدب وصوب. ضغطٌ خارجيٌ متعدد الأبعاد.. ولكن الأخطر هو تهيب الدولة من احتمال انفجار شعبي في ضوء ما يحصل في قطاع غزة والتلويح الإسرائيلي المستمر بتطبيق خطة التهجير القسري لسكان غزة نحو مصر والضفة الغربية نحو الأردن.

الأردن نفسه الذي يُدرك أن ثمة عملية خلط أوراق شهدتها المنطقة غداة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كبُرت مخاوفه الأمنية ولا سيما الحدودية، وهذه مسألة حيوية جداً كانت الدولة الأردنية تتعامل معها بالدبلوماسية حيناً وبالأمن والعسكر حيناً آخر، ولعل المثل الأكثر وضوحاً هو ملف الكبتاغون السوري المصدر، سواء عبر الجو أو معابر محافظة درعا براً.

هذا الأردن بات اليوم يخشى عودة خطاب التمييز القومي بين المكونين الأردني والفلسطيني، لا سيما أن الفئة الأخيرة تُشكّل الأغلبية الكبرى من سكان البلاد، ما يُكرّس وقائع كان يظن أنه انتهى منها مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد حادثة “أيلول (سبتمبر) الأسود” في العام 1970 وما تلاها من تطورات أثّرت على توجهات الكيان الأردني، داخلياً وخارجياً.

وثمة شعور لدى دبلوماسيين عرب أن ما يحصل في الشارع الأردني يندرج في إطار عملية تكاملية بين حماس الفلسطينية وبين تنظيم الاخوان المسلمين الأردني بدليل أن تزخيم التحركات جاء في سياق فشل محاولات وقف النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس وبدء الحديث الإسرائيلي عن عملية عسكرية حتمية في رفح. كذلك بعد انتشار تسجيل صوتي لقائد كتائب القسام محمد الضيف (تاريخه الفعلي من يوم السابع من أكتوبر لكن حسابات تابعة لحركة حماس أعادت نشر فقرات منه في الشهر الماضي ويسري ذلك على كلام أُعيد تعميمه لرئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل).

فتح النقاش العام بشأن الهوية الوطنية قد يكون هو الخيار الأمثل والأصعب حالياً، وهو لا ينفصل عما يجري في غزة، وعما ستؤول إليه الحرب فيها، والتي تُبقي نُذر الأزمة قائمةً في كلِّ مكان في الشرق الأوسط.. وعمان الأردنية في قلب الإقليم الملتهب، ولو أن سلطاتها نجحت في الأيام الأخيرة بتبريد المناخ الإعلامي بينها وبين الإسلاميين في الشارع الأردني

من هذا المنطلق، يُمكن تفهم الخشية من أي يكون أي انفجار شعبي في الأردن “شرارة لتحركات متتالية في دول عربية أخرى، ما يُعيد للأذهان لحظة انفجار الربيع العربي عام 2011 لكن بنسخة جديدة أكثر عنفاً من بوابة الأحداث في قطاع غزة”، على حد تعبير المصادر الدبلوماسية العربية نفسها.

وحالة الذعر الحاصلة من قدرة الإخوان المسلمين ـ ومن خلفهم حركة حماس ـ على تحريك الساحة الأردنية تتزامن مع حالة تململ مستمرة في الأردن بسبب تردي الوضع الإقتصادي من جهة والتعامل العربي والإسلامي السلبي مع كارثة العدوان على قطاع غزة من جهة ثانية؛ وبرغم أن الدولة الأردنية تمكنت في السنوات الأخيرة من لجم حركة الإخوان المسلمين عبر تعزيز الصراعات البينية والخلافات الداخلية والتي كان جزء رئيس منها سيطرة “التيار الحمساوي” على الجماعة، إلا أن حرب غزة أعادت تزخيم الواقع الإسلامي العام في الأردن.

وفي مواجهة هذه التطورات، تبدّت الرغبة الملكية الأردنية باستيعاب الأحداث في غزة عبر مشاركة الملك شخصياً وولي عهده في عمليات إنزال المساعدات على القطاع من الجو، لتخفيف حدة احتقان الشارع الأردني، خاصة أن معظم استطلاعات الرأي باتت تؤشر لتزايد شعبية حركة حماس في الساحتين الفلسطينية والأردنية، وهذا المسار يستكمله الملك الأردني من خلال جولته الرمضانية على عشائر الأردن، إضافة إلى قرار العفو العام الذي يشمل أكثر من سبعة آلاف سجين سيجري اطلاق سراحهم قبيل عيد الفطر، ناهيك باعتماد اليد الرخوة للأجهزة الأمنية في التعامل مع الإحتجاجات الشعبية وكذلك حركة المقاطعة الواسعة التي يشهدها الشارع الأردني، للشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل.

كما أن الأحداث الأمنية المتتالية على طول الحدود بين الأردن وإسرائيل باتت ترى فيها عمّان تهديداً أكثر فأكثر لأمنها القومي، وهو الأمر الذي يزيد الإحراج الرسمي الأردني، وبالتالي يجد الشارع أمامه مادة دسمة للتصويب على اتفاقية السلام بين الجانبين (وادي عربة).

ويُمكن تسجيل جملة ملاحظات بشأن الحراك الأردني وأبرزها الآتي:

أولاً؛ الخوف الأميركي على الأردن ليس متعلقاً فقط بأمن إسرائيل، أي الخشية من أن تتمدد أية حالة فوضى من الأردن إلى الضفة الغربية، بل لأن الأردن، بالنسبة لواشنطن، حليفٌ أساسيٌ في لعبة النفوذ الإقليمي. وتتخوف واشنطن من تسلل الجانب الروسي من أية ثغرة إلى الساحة الأردنية، على اعتبار أن الحضور الروسي في سوريا قابل للتمدد نحو أي مساحة فراغ بفعل تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط؛ لذا فإن الرغبة الأميركية بالحفاظ على أمن الأردن وتطويق ذيول الحرب في غزة بات أمراً عاجلاً لإدارة بايدن إضافة إلى أن الإدارة الديموقراطية في البيت الأبيض كانت شريكة في إجهاض محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها الأمير السابق حمزة بن الحسين بدعم لافت للإنتباه من السعودية وصهر الرئيس الأميركي السابق جاريد كوشنير.

إقرأ على موقع 180  بين روسيا وسوريا... صراع أوليغارشيات

ثانياً؛ يتبدى الخوف لدى النظام الرسمي العربي من تصاعد حضور حماس في أكثر من ساحة عربية، فحماس وعبر حزب الله والجماعة الإسلامية في لبنان باتت أمراً واقعاً في مسار التأثير المباشر على المكون السني اللبناني، وإذا ما امتد هذا الأمر إلى الأردن فإن تصاعد حضور الجماعات الاخوانية سيبدأ بالاتساع المطرد في ساحات أخرى في ظل حالة التماهي الحاصلة بين الإخوان وإيران.

ثالثاً؛ يتكرس واقع اجتماعي جديد في المنطقة، وهذا الواقع له جذور صراعية جاهزة للانفجار وخاصة في الدول ذات الكثافة العشائرية والتي من السهل التأثير على انحيازها مع القضايا، بدليل أن عشائر الأردن التي دعمت الثورة السورية واحتضنتها، باتت اليوم متفهمة لانخراط حماس في محور الممانعة والعلاقة المستجدة مع النظام في سوريا، لذا فهذا الواقع يمكن أن يكون له مدلولاته المستقبلية على الصراع الإقليمي.

رابعاً؛ لا يُمكن فصل كل تلك التطورات عن إعلان مجموعات مدعومة من إيران، عن تجهيز آلاف المقاتلين الأردنيين بأسلحة وقاذفات ضد الدروع وصواريخ تكتيكية، وعلى الرغم من تقليل الدول الفاعلة من قيمة تلك التصريحات ووضعها في إطار عملية الاحتقان الجارية عقب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، إلا أن هذا الإعلان لا يمكن عزله عن التحركات المستمرة لمجموعات مقربة من إيران عند المثلث الحدودي الأردني – السوري – العراقي والذي يستدعي بشكل مستمر ضربات جوية أو تعزيز لقدرات ميليشيات أخرى مقابلة.

في الخلاصة؛ كل هذا التداخل يجعل خيارات مطبخ القرار السياسي الأردني صعبة، لإبقاء التوازن بين المعادلتين الداخلية والخارجية، ولعل فتح النقاش العام بشأن الهوية الوطنية قد يكون هو الخيار الأمثل والأصعب حالياً، وهو لا ينفصل عما يجري في غزة واقعاً، وعما ستؤول إليه الحرب فيها، والتي تُبقي نُذر الأزمة قائمةً في كلِّ مكان في الشرق الأوسط.. وعمان الأردنية في قلب الإقليم الملتهب بطبيعة الحال، ولو أن سلطاتها نجحت في الأيام الأخيرة بتبريد المناخ الإعلامي بينها وبين الإسلاميين في الشارع الأردني.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  قراءة في عقل الفيل: ما الذي يجعل الناس يصوتون للجمهوري؟